«قراءة فنية للمشهد الأخير» في استشهاد السنوار

زاهر بن سعيد السابقي
قد ننسى أسماءنا، إلا أن هذا المشهد الأسطوري سيظل محفورا في منطقة هي أبعدُ من منطقة حفظ الأسماء، وستبرد حرارة الشمس، إلا أن حرارة هذا المشهد ستحافظ على وجاهة رأي أولئك الذين يقولون: بالأمس القريب حدث هذا.
تنعطف العدسة إلى اليسار لتدخل إلى عرش البطل ، لوهلة تلوح عن اليمين نخلةٌ شامخةٌ تضجُّ بالغبار، إلا أنها بقيت شامخةً رغم الأنقاض والركام، خضراء رغم الموت المتطاير، إن رمزية النخلة بجذورها الممتدة إلى نواة الأرض، وشموخها المتصل بسماء السماء تقول لنا الكثير، وترسم لنا الكثير، عن جذورنا الممتدة وشموخنا الأبدي في وجه أعاصير الزمان والخذلان، وأن الغبار وإن تراكَم على ورق النخلة وسعفها وجذعها إلا انه لم يمس جذورها الضاربة، ولم يفقدها هويتها، ولم يكسر شموخها، كالاحتلال تماما، فهو الغبار الذي تغسله المقاومة بطوفانها وإيمانها ودماء شهدائها.
ها هي العدسة تدخل العرش، كل شيء في المشهد يدل على الموت، ثم كل شيء في المشهد يدل على الحياة، لم تجد البطل على الطابق الأرضي فيتضاءل شيء من ذلك الشموخ، ولا مضطجعا على الجراح فيشي برائحة الهزيمة، وقبل ذلك لم تجده على طرف العرش فيخفت شيء من أسطورية المشهد، بل سعَت إليه لتجده في أقصى عرشه وأرضه ، أقصى كفاحه ومقاومته وعظمته، ليواجهك أول ما يواجهك الضوء الساطع ملء النافذة بينك وبين البطل، إنه الضوء الصارخ في ظلمة المكان، الثائر على عتمة الموت، المنتصر في آخر الصراع ، لم تكن الشمس ولكنها الفكرة، ولم تكن النافذة ولكنها المقاومة.
تقترب العدسة شيئا فشيئا ليتطاير الغبار مرة أخرى، وكالاحتلال تماما لم يُفقِد الغبارُ المتطاير المشهدَ هويته، ولم يكسر شموخه، ثم ها هو يتلاشى عن البطلِ في هيئةٍ تشبه الجلوس إلا أنها القيام، وعلى مكان يشبه الكرسي إلا أنه الميدان، مستندًا على ساعده المثخن بالجراح استناد المقاومة على شعبها، الساعد والشعب وحدهما لا يخذلان ولا يستسلمان.
البطل لم يبدُ متكئًا رغم أسباب الاتكاء، فلا اتكاء إلا بعد النصر، البطل لم يبدُ مطأطئ الرأس، فرؤوس الأبطال لا تنحني إلا في الصلاة، البطل لم يضطرب فهو في أحسن ظروفه وأحواله.
على كرسيه وهو أشمخ من كل من يقفُ، بل أوثبُ من كل من يثِب، وأمامه كرسي آخر، يتقابلان كتقابل الندِّ للند، إلا أن البطل وحده بقي إلى نهاية المشهد، أما النِّدُّ فقد دفنه البطلُ تحت قدميه، أو هرب من حيث أتى في أحسن الروايتين.
تدنو العدسة لنرى البطل على وجهه الكوفية، الكوفية التي تزيد ملامحنا وضوحًا، الكوفية التي تفضح كل ما يختلج في نفوسنا من معاني الانتماء والمقاومة، كعنوان الكتاب تبدو، كمفاتيح بيوت أجدادنا تبدو، كأقدم جذع زيتون وأول رَفض تبدو، وبعينيه الثاقبتين كشعاعين يهزم العدو مرةً أخرى، بنظرة تنفذ إلى العظم، وتشظِّي العظم.
كل شيء في المشهد يخصُّ البطل، فالأرض أرضه، والسماءُ سماؤه، والحجر والبارود والحديد إخوته، لذلك يشدُّ على عضده بسلكٍ يطيل زمن البطولة، ويستبقي قطرات دمه الأخيرة، فهو في أحسن ظروفه وأحواله، وفي لحظات تجلي أمنياته التي بذرها في المخيم وسقاها في الأسر وحان أن يجنيها ويلتذَّ بها في الميدان.
يوشك المشهد العظيم أن ينتهي، ويوشك الستار أن يُسدَلَ، ليظل المشهد أمام الذاكرة حتى تُحشر الذاكرة، إلى هنا كان المشهد كافيا لكل تلك العظمة وكل هذا الخلود، إلا هنا يكفي ليعد المشهد أسطوريا ومكونا ثقافيا ونفسيا وقيميا لملايين البشر.
إلا أن أزمة الأبطال إنما تكون في الاقتناع، فإذا اقتنعوا بشيء ماتوا عليه -كاقتناع البطل بفكرة المقاومة- وإذا لم يقتنعوا بشيء أوشكوا أن يموتوا عليه كذلك-كعدم اقتناعه بانتهاء المشهد- ولأجل عقدة الاقتناع هذه في الحالتين الأولى والثانية يرمي البطل رميته الأخيرة، يرمي البطلُ رميته الأخيرة بآخر ما يملك وأقوى ما يملك، يرميه بفكرة المقاومة ولو بقبضة هواء، ولو بحجر، ولو بتلويحة يد مضمومة، يرميه بأي شيء، ورغم أي شيء، يرميه بعصًا تشق عليه بحر الخوف، عصا تلقف ما يأفكون، عصا تهش على قطيع المنافقين، يرميه بعصا السنوار.
هنا ينتهي المشهدُ ليبدأَ، هنا ينتصرُ البطل لينتصر، هنا يصدق الوعد، ويدهشُ القدَر، هنا يستمر الطوفان حتى يتلاشى الغبار وتبقى الهوية الأصلية، فهذه الأرض لا تقبل هويتين.
لتحميل المقال اضغط هنا