الفقه وأصوله

تأملات في حِكَم سنن العيد

عزان بن عبدالله بن سعيد العلوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فللعيد في حياة المسلم مكانة عالية، فهو موسم تجتمع فيه القلوب المتفرقة فتتشارك فيه فرحتها، وتتضامُّ الأرواح فيه بعضها إلى بعض، معطرة بشكر الله تعالى على جزيل نعمه وكريم عطاءه.

وقد دأبت الأمم والحضارات على الاهتمام بشأن الأعياد والأيام الموسمية أو الحولية، وعلى تمييزها بسمات خاصة، لتميز نفسها فيها. وقد كان في الجاهلية عيدان يوم نيروز -أول يوم من السنة الشمسية-، ويوم المهرجان -أول يوم من القمرية-.

ولما جاءت شريعة خاتم المرسلين –صلى الله عليه وسلم- لم تغفل هذا الأمر؛ فكان للأمة عيدان في السنة، هما عيد الفطر وعيد الأضحى.

عيدان عند أولي النهى لا ثالث  … لهما لمن يبغي السلامة في غد

الفطرُ والأضحى وكلُّ زيادةٍ … فيها خروجٌ عن سبيل محمدِ

وتميزت شريعة الإسلام الربانية، بأن جعلت هذين العيدين موسمين لعبادات مخصوصة، وسنن مستقلة بهما، يتقرب فيهما المسلمون إلى الله تعالى بما فيهما من العبادات.

وفي هذا المقال نستعرض شيئاً من تجليات حِكَم هذه العبادات في يوم العيد، لافتين النظر إلى أبعادها الاجتماعية والحضارية، من غير تركيز على المسائل الفقهية والأحكام الشرعية، مع التأمل فيما شرعه الله لنا في أيام العيد. فسنة النبي ﷺ  معقد لكل خير، وسبيل لكل فضل وشرف.

فأول ذلك أن الله أكرم هذه الأمة بهذين العيدين، وجعلهما يومين للفرح والسرور والألفة والاجتماع، موافقة لحال الفطرة البشرية، التي جاء الإسلام منسجما معها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فقد جاء عن أنسٍ قالَ: قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما فقالَ ما هذانِ اليومانِ قالوا كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ.[1] وذكر العلماء أنّ اليومين اللذين يلعب فيهما أهل المدينة في الجاهلية هما النيروز والمهرجان.[2]

وحديث أنسٍ رضي الله عنه يبين أن الله أبدلهما بما هو خيرٌ منهما، فعيد الفطر في الأول من شوال وسمي بذلك لأنهم يفطرون فيه بعد صيام رمضان، وعيد الأضحى يكون في العاشر من شهر ذي الحجة، وسمي بذلك لأنهم يذبحون أو ينحرون فيه ضحاياهم.

وتتجلى حكمة الشارع الحكيم جل جلاله حين جعل ميقات العيدين أحدهما بعد انتهاء شهر الصوم، والآخر بعد انتهاء الوقوف بعرفة للحاج، وبعد الأيام المباركة من ذي الحجة، وفي هذا المظهر البديع يتضح ربط الشارع أيام الفرح بعد قضاء الشعائر التعبدية، مكافأة لمن امتثل أمر الله تعالى، وجائزة على ما بذلوه من جهد في العبادة؛ فالصائم بعد صيامه لشهر رمضان وقيام ليله، ونصبه في العبادة لله عز وجل، تكون فرحته بتمام ذلك الصوم، , وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة : (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)[3]، فكان العيد ثواباً من الله تعالى للعبد الذي استكمل الصيام والعبادة في شهر الصوم، وفي الآخرة من الجزاء ما أخبر الله عنه بأنه اختص به كما جاء في الحديث القدسي.

وأما ميقات العيد الأضحى فهو عاشر الأيام العشر التي قال فيها رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم-: “ما مِنْ أيَّامٍ العمَلُ الصَّالِحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيام” يعني أيامَ العشر، قالوا: يا رسُولَ الله، ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلا رجلٌ خَرَجَ بنفسِه ومالِه فلم يَرْجِعْ من ذلك بشيءٍ”([4])، فهي أيام عبادة وتقرب إلى الله تعالى، وفيها كذلك أعمال الحج والوقوف بعرفة، الذي هو ركن الحج الأعظم، الذي ينتصب فيه الحاج لاهجا بالدعاء والضراعة لخالقه، إلى آخر النهار، مع استعداده في تلك الأيام لاستكمال ما تبقى من أعمال فريضة الحج. فجعل الله عيد الأضحى فرحةً للمسلم ينعم بفرحته في دنياه، مترقباً لثواب الله الذي ينتظره في أخراه.

فلا يخفى على المتأمل كيف ربط الشارع الحكيم مواقيت الأعياد بالجانب التعبدي للمسلمين، فيَعقِل الحكمة من أن الفرح يكون عند أداء العبادة وانتظار قبولها، ويحصل بعد أدائها. (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون).[يونس:58]، ويدخل بذلك حب العبادات في قلبه، ويتعلم من ذلك أيضا أنه ينبغي له بعد الجهد والجد أن يأخذ نصيبه من الراحة والتمتع بالمباحات التي امتن الله بها على عباده، وأنه لا يمكن للإنسان أن يكلف نفسه مشقة دائمة حتى لا تنفر عن ما يراد لها فإن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع.

ومما يأخذ بتلابيب المتأمل لشعائر العيد المبارك؛ ما شرع من زكاة الأبدان في عيد الفطر، ويناظرها في عيد الأضحى من مشروعية التضحية، والتصدق منها، فزكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. يدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين).[5]  فما أجدر بالمزكي أن ينظر إلى حاجته هو قبل حاجة الفقير من هذه الزكاة، وكيف أنها تطهره وتطهر صيامه مما قد يشوبه، فيزداد حرصه على أدائها على وجه الكمال. ومما جاء عن سالم بن راشد الخروصي -رضي الله عنه- أنه باع بردته ليُخرج زكاة الفطر، إذ لم يجد ما يخرج منه زكاته غير ثمن بيعها. فلله تلك النفوس التي تحرص على الخير والسباق إليه! ومن حكمها أيضا إطعام المساكين حتى لا يأتي عليهم يوم العيد، وهو يوم الفرحة المشتركة بين أبناء الأمة، ويمنع الجوعُ هذه الطائفة أن تفرح وتشارك الأمة في ذلك، وحتى لا يصير ذلك اليوم شقاءً عليهم حين يرون نعمة الله على غيرهم. فيغنون بها عن السؤال في ذلك اليوم.[6]

وهي مأمور بها كل مسلم لم يتكلفها بدين. فيمكن للفقير أن يخرجها حتى لا يفوته عظيم الثواب، كما يخرجها الغني عن نفسه وعن من يلزمه عوله لزوماً شرعياً، وبهذا تكثر ويعظم نفعها.

وزكاة الفطر تخرج من غالب قوت أهل البلد، كما دل على ذلك حديث ابن عمر، ومقدارها صاع. وتعطى للفقراء والمساكين كما دل عليه حديث ابن عباس، ولا يخفى عليك أخي المتأمل الدور الاجتماعي والنفسي الذي يبعثه أداء زكاة الفطر هذه في وقتها المحدد لها والكيفية التي شرعت بها.

       ومن السنن المشروعة صلاة العيد، فعن ابن عباس: أن النبي ﷺ خَرَجَ يَومَ الفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا ولَا بَعْدَهَا ومعهُ بلَالٌ.[7] وعن البراء بن عازب قال: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ، فَقالَ: إنَّ أوَّلَ ما نَبْدَأُ به مِن يَومِنَا هذا أنْ نُصَلِّيَ…إلخ)[8]. لقد ربط الشارع الحكيم العيد وفرحته بصلاة العيد، وجعلها معلماً راسخاً من معالمه، وأساساً مكيناً ينطلق منه الناس لفرحتهم، ويعجب المرء من محورية العبادة في حياة هذا المسلم، وكيفية ارتباطها بحياته، فترافقه في أفراحه وأحزانه، وفي تعبه وراحته، وفي سفره وحضره، وما ذلك إلا تعليمٌ لبني الإسلام أن العبادة في الإسلام تجري من المسلمين مجرى الدم، فلا يُعطونها فضول أوقاتهم، ولا يقاسمونها فتات أعمالهم، بل هي الأولى، وهي المقصود الأول من وجودنا، يقول تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56].

ثم تأمل طهارة هذه الفرحة عند المسلمين، إذ يفرحون بنعمة الله بالخضوع له والافتقار إليه والانكسار لعظمته، شاكرين له أنعامه، ومستذكرين مقام عبوديتهم بين يديه، ولن أحدثك عن الفرحة عند غيرهم، مع ما يصاحبها من استكبار وغفلة عن ذكر الله ومجون، فاللهم لك الحمد والشكر. فأول عوامل نهضتنا استذكار مقام العبادات في حياتنا، وإعادتها إلى مركزية المركزيات في أفكارنا وكلامنا وأعمالنا ودعوتنا.

وقد نهي عن صيام هذين اليومين –أي: الفطر والأضحى-  بإجماع الأمة، ففي خطبة عمر بن الخطاب في العيد قال: إنَّ هَذَيْنِ يَومَانِ، نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عن صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِن صِيَامِكُمْ، وَالآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فيه مِن نُسُكِكُمْ.[9] “ولله في تشريع الصوم حكمة، وله في منعه حكمة، ومن البدهيات أنه تعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن شرع الصوم فلصالح الصائم، وإن شرع الفطر فلصالح المفطر، وحال المسلم خير كله إن أصابه ضر أو نصب أو وصب فصبر كان له أجر، وإن أصابه خير ونعمة ومتعة فشكر كان له أجر، ومن هنا كان الإسلام حريصاً على أن يتمتع المسلم بدنياه بقدر ما يقدر لأخراه {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: ٧٧]. فوصل الراحة والطعام والشراب والشهوة بمشاق الطاعات، وحين أمر بالصوم والحرمان أعقبه بالنهي عن الصيام. حين أمر بصوم رمضان أعقبه بتحريم صوم يوم العيد وحين أمر بالحج ومشاق هذه العبادة والصيام من أول ذي الحجة أعقب ذلك بتحريم صوم يوم النحر، وشرع ذبيحة الأضحية لتعوض ما فات بالصوم والجهد، بل نهى عن صوم أيام التشريق الثلاثة التي تعقب يوم النحر”.[10] فلا يليق بالمسلم أن يخرج للعيد وهو خامل النشاط، شاحب الوجه، ضعيف الحركة من صيامه، بل يخرج بأحسن هيئة وأقوم حال حتى يتحقق به مقصود العيد، ويُحقق في نفسه حكمة الله.

ومما يؤمر به المسلم في هذين اليومين عند إرادة الخروج إلى الصلاة الاغتسال، وفيه ما فيه من التهيؤ للصلاة بأنظف حال وأنشطها، والسواك ويتأكد في هذا اليوم، إذ يبذل المسلم جهده في التنظف، والتطيب، وأن يلبس أحسن اللباس، وفي ذلك كله إظهار للنعمة والفرحة والرضى، ويشرع كذلك المشي إلى المصلى مع رفه الصوت بالتكبير. (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة185]، ويشرع له كذلك أن يأكل قبل الخروج ليوم الفطر وبعد الصلاة ليوم النحر، فعن أنس قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَغْدُو يَومَ الفِطْرِ حتَّى يَأْكُلَ تَمَراتٍ.[11]وكل هذه الأعمال يُحبب إلى المرء إتيانها والالتزام بها، حتى يستقبل هذا اليوم بطيب خاطر، ويُظهر الفرح في نفسه وإلى غيره بنعمة الله تعالى، لذلك يتوجه الذم لمن قصر في هذه الشعيرة، وتعظيمها تعظيمٌ لشعائر الله.

وتأمل ما لصلاة العيد من خصوصية، ومن ذلك أهمية شهودها، وحثّ الجميع على حضورها، ففي حديث أُمِّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، أَنْ نُخْرِجَهُنَّ في الفِطْرِ وَالأضْحَى، العَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الخُدُورِ، فأمَّا الحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إحْدَانَا لا يَكونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِن جِلْبَابِهَا.[12]  والعواتق جمع عاتق أي شابّةٌ أوَّلَ ما أدركت فخُدِّرَتْ في بيت أهلها ولم تَبِنْ إلى زوج.[13]  فكانوا يمنعونها من الخروج من البيت، ودعا رسول الله ﷺ ذوات الخدور والحيض كذلك، ولم يكن الحيض الذي يمنعهن من الصلاة مانعاً لهن من شهود الخير ودعوة المؤمنين، بل سألت أم عطية عن المرأة لا تجد جلباباً تستتر به، فأرشد إلى التعاون فيما بينهن لشهود الخير. وفي التحشيد للصلاة والتجمع لها إظهارٌ لبأس المؤمنين، ووحدة صفوفهم، واجتماع كلمتهم، وإغاظةٌ لأعدائهم وحاسديهم.

ولما كانت النساء تعتزل مواطن الفرح والخير أيام الجاهلية، جاء الإسلام ليبوئها مقامها، فجعل لها حظها من مشاركة الخير والفرحة، مع ما جاء به من تشريعات تنسف أمور الجاهلية من أصولها.

ومشروعية صلاة العيد خارجا في المكان المستوي من الأرض يُمثل مشهداً مهيباً ويبعث في نفس المسلم في ذلك اليوم دروساً كثيرة ومعاني عظيمة. وللعيد سنن ومظاهر كثيرة؛ من صلة الرحم، والتزاور، وتبادل التهنئة، وكل تلك المظاهر رحمة من الله بعباده ونعمة تدعونا إلى التفكر فيها، وشكر الله تعالى عليها.

لتحميل المقال اضغط هنا

  • صورة المقال منقولة

[1] أبو داود, سنن أبي داود, ر1134.

[2] خليل أحمد السهارنفوري, بذل المجهود في حل سنن أبي داود, ج5, ص 202.

[3] مسلم , صحيح مسلم, ر1151.

([4]) أبوداود، رقم 2438.

[5] أبو داود, سنن أبي داود, ر1371.

[6] وردت رواية وهي “أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم”, وعلى شهرتها في كتب الفقه غير أن شيخنا القنوبي  لا يرى ثبوتها عن النبي ﷺ. انظر: المعولي, المعتمد, ج2, ص204.

[7] البخاري, صحيح البخاري, ر989.

[8] البخاري, صحيح البخاري, ر5560.

[9] مسلم, صحيح مسلم, ر1137.

[10] موسى شاهين لاشين, كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم, ج4, ص 597- 598.

[11] البخاري, صحيح البخاري, ر953.

[12] مسلم, رواه مسلم, ر883.

[13] الجوهري, الصحاح, ج4, ص 1520.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.95 ( 3 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى