إدخال داخل مفسد للصيام([1])

عزان بن سعيد بن سيف الخوالدي
الأمر الأول: شرح الضابط:
المراد بالإدخال عند الإمام: كل عين وصلت من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن عمدا, سواء كان الواصل مغذيا أو غير مغذ([2]).
فلجسم الإنسان جوفان؛ جوف الرأس الذي هو الدماغ, وجوف البطن ويعبر عنه الإمام بـ(ما دون الحلق)([3]), وهذان الجوفان لهما منافذ معتادة ومنافذ غير معتادة, فالمعتادة مثل الفم فهو منفذ معتاد للبطن, أي أن الأشياء عادة تصل إلى البطن عن طريق الفم, والأنف منفذ معتاد للدماغ.
أما المنافذ غير المعتادة فهي التي يكون وصول الأشياء إلى الجوف عن طريقها غير معتاد, وهي الأذن والعروق والعين والدبر ونحوها, فهذه المنافذ موصلة إلى التجويفين لكن ليس على طريق الاعتياد.
ولم يفرق الإمام بين المنافذ المعتادة وغير المعتادة بل عد وصول العين إلى التجويفين من أي منفذ كان مفسدا للصيام بدليل قوله: “وحد الإدخال: كل عين وصلت من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن, فيدخل في ذلك السعوط والحقنة”([4]), وأدخل السعوط ليدلل على أنه لا فرق بين باطن الرأس والبطن؛ لأن السعوط يجعل في الأنف لمنفعة الدماغ, يقول الإمام موضحا ذلك: “فللأنف منافذ نحو الرأس وهي المنافذ الصاعدة, وأخرى نحو الحلق وهي المنافذ النازلة, فإن جعل السعوط في هذه المنافذ النازلة فهذا بمنزلة من سقاه من فمه, إذ الجميع يؤدي إلى الحلق, وإن جعله في المنافذ العالية فذلك هو السعوط”([5]).
وأدخل الحقنة ليدلل على فساد صوم من أدخل عينا إلى البطن من أي منفذ كان من الأعلى كالفم أو من الأسفل كالدبر؛ لأن الحقنة هي أن يجعل الدواء المائع في دبره على وجه مخصوص يريد الشفاء([6]).
إلا أنه استثنى القبل فلم يفسد صوم من احتقن في قبله([7]), وعلل ذلك بأن القبل وإن كان يوصل إلى باطن الجسد إلا أنه لا يوصل إلى موضع التغذي ومستقر الطعام, فاتصاله بالمعدة يكون منعدما بعكس الدبر الذي يكون اتصاله بموضع التغذي ومستقر الطعام قويا([8]).
والعبرة في النقض هو الوصول إلى الجوف أما وصوله إلى المنافذ فلا يفسد الصيام بدليل قوله: “كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن”([9]), فالمتذوق للطعام مثلا لا يعد مدخلا للطعام إلى الجوف, وكذا الذي يمضغ شيئا من الطعام ثم يخرجه([10]).
ولم يفرق الإمام كذلك بين العين المغذية وغير المغذية, بدليل أن الصوم عبادة غير معقولة المعنى, وأن معناه الإمساك, وإن كان منطوق الآية في المغذيات إلا أن غير المغذي يلحق به؛ لأن من أكل غير المغذي لا يسمى ممسكا, فوجب الإمساك عما يصل إلى الجوف من أي المنافذ وصل, مغذيا كان أو غير مغذ كالحصى والحديد والطين وما أشبهه([11]).
هذا كله فيما كان إدخاله على سبيل العمد أما ما أدخل إلى الجوف على غير سبيل العمد فلم يعده الإمام ناقضا للصيام, وهو أمور عدة, منها:
- النسيان: فمن أكل أو شرب أو أدخل أي عين إلى جوفه نسيانا فقد رجح الإمام أن لا بدل عليه([12]).
واستدل بحديث: “مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ, فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وسقاه”([13]), فقوله: “فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ” أي الصوم الذي كان قد دخل فيه, فيحمل على الحقيقة الشرعية حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية, وقوله: “فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وسقاه” دليل على صحة الصوم لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه([14]).
ولولا ورود النص في المسألة واعتماد الإمام عليه لأمكن القول بأن الإمساك ركن من أركان الصيام فإن فات بالنسيان عذر المكلف ورفع عنه الإثم, أما القضاء فيلزمه كمن ترك ركعة من الصلاة نسيانا؛ لأن الأركان يلزم من عدمها العدم, قال ابن بركة: “ولولا الخبر لوجب عليه القضاء؛ لأنه غير صائم”([15]).
- ما يكون الداخل قليلا جدا مما لا يمكن الاحتراز منه كمن يدخل الماء للمضمضة أو الاستنشاق ثم يقذفه فلا بأس عليه فيما بقي من الماء وخالط الريق؛ لأن ذلك قدر يسير معفو عنه شرعا([16]).
- الخطأ: وذلك كمن يستنشق أو يتمضمض فيسبقه الماء فيدخل جوفه خطأ, فمثل هذا يفهم من كلام الإمام إلحاقه بالناسي([17]), بل هو أعذر منه؛ لأن الناسي إذا أكل أو شرب على قدرة من ترك ذلك غير أنه نسي الصوم فأكل يظن أنه غير صائم فالعذر لنسيان الصوم, أما المخطئ فعلى غير اختيار منه فهو أشبه شيء بالذباب والغبار الذي يدخل على غير اختيار منه([18]).
الأمر الثاني: أدلة الضابط:
أولا: الدليل على أن الأكل والشرب وإدخال سائر المغذيات إلى الجوف من مفسدات
الصيام قول الله تعالى: “وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ”(البقرة: 187), فلا صيام لمن لم يكف عن الأكل والشرب وسائر المغذيات([19]), والدليل الآخر هو الإجماع([20]).
ثانيا: الدليل على أنه لا فرق بين المغذي وغير المغذي أن معنى الصوم هو الإمساك, والإمساك يكون عن المغذي وغير المغذي, فمن أكل غير المغذي لا يسمى ممسكا([21]).
ويبدو أن الإمام السالمي في هذه المسألة نحى منحى القائلين بأن الصوم غير معقول المعنى والمقصود منه الإمساك فقط عما يرد إلى الجوف, فسوى بين المغذي وغير المغذي, جاء في بداية المجتهد: “وسبب اختلافهم في هذه هو قياس غير المغذي على المغذي, وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي, فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي, ومن رأى أنها عبادة غير معقولة, وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف, سوَّى بين المغذي وغير المغذي”([22]).
ثم إن ذكر المطعومات في الآية فقط؛ إنما هو لميل النفس إليها, أما غير المطعومات كالقيء والتراب ونحوها فلم تذكر؛ لأن النفس لا تميل إليها بل تكرهها, وبعضها نادر كالسعوط ونحوه([23]).
الأمر الثالث: تطبيقات الضابط:
- من رد إلى الجوف شيئا من القيء متعمدا فسد صومه وعليه البدل؛ لأنه مأمور بالإمساك عن إدخال أي عين إلى جوفه, أما إن رده من قبل أن يصير ذا مقدرة من لفظه فلا بأس عليه؛ لأن التكليف إنما يكون بالمقدور عليه لا غير([24]).
- من أكل طينا أو حصى أو حديدا أو ما أشبهه من جميع ما لا يؤكل أو بلع ريقه بعد ما بان عن فمه، أو دموعه أو مخاطه أو ما يطلع من صدره؛ لأنه يجب الإمساك عمَّا يصل إلى الجوف مغذيا كان أو غير مغذ([25]).
- من اكتحل ثم وجد في حلقه شيئا من الكحل فعليه أن يمجه ولا يبتلعه([26])؛ لأنه وإن أجيز له الاكتحال إلا أن العين مجرى من المجاري الموصلة إلى الجوف, فإن جاوز الكحل المنفذ والمجرى وأحس به في حلقه فليس له أن يبتلعه, ثم إنه وإن لم يكن مغذيا فلا عبرة بذلك لأنه يلزمه الإمساك عن كل عين تصل إلى الجوف مغذية كانت أو غير مغذية كما تقرر.
- إن وضع الصائم الدواء في الدبر فدخل الجوف فعليه بدل يومه([27])؛ لأنه منفذ موصل إلى الجوف, وقد تقرر أن على الصائم الإمساك عن كل ما يدخل إلى الجوف من أي منفذ كان مغذ أو غير مغذ.
- من أدخل دواء من أنفه أو أي عين ووصلت إلى الجوف أفسد صومه, سواء وصل إلى جوف الرأس كالسعوط ونحوه أو إلى ما دون الحلق, فكل ذلك مفسد للصيام وعلى فاعله بدل يومه([28]).
لتحميل المقال اضغـط هنـا
([1]) هذا هو الضابط الخامس من ضوابط الصيام عند الإمام السالمي من كتاب معارج الآمال.
([2]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص46 و264 و270 و318.
([3]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص332.
([4]) السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص46.
([5]) المرجع السابق, ج8, ص332.
([6]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص329.
([7]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص242.
([8]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص330.
([10]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص272.وابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص1060, والجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص86.
([11]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص270, وابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص1062.
([12]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص46.
([13]) مسلم, صحيح مسلم, مرجع سابق, رقم الحديث: 1155, ج2, ص809.
([14]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص319-321, وابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص1063, والجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص89.
([15]) ابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص1063.
([16]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص326.
([17]) يفهم ذلك من ذكره القولين في المسألة وتفصيله في أدلة القول بعذره من إعادة يومه, وعند ذكره لأدلة القائلين ببدل يومه قال باختصار شديد: “والمتشدد نظر إلى حصول المفطر فقط, ويرى العذر رافعا للإثم لا غير”, انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص325, ولقوله في موضع آخر عند كلامه عن مفسدات الصيام: “ومن تعمد فأدخل في جوفه شيئا فسد صومه بوصول ذلك إلى جوفه”, انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص241, ومفهومه المخالف أنه إن أدخله خطأ لا يفسد صومه, ولو لم يكن كذلك لما كان لذكر العمد معنى في هذا السياق.
([18]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص325.
([19]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع, ج8, ص284, والجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص83.
([20]) انظر: ابن حزم, علي بن أحمد الأندلسي القرطبي, مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقاد, د.ط, (بيروت: دار الكتب العلمية, د.ت), ص39, والسالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص51 و241.
([21]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص270.
([22]) ابن رشد, محمد بن أحمد ابن رشد القرطبي المشهور بالحفيد, بداية المجتهد ونهاية المقتصد, د.ط, (القاهرة: دار الحديث, 2004م), ج2, ص52, وانظر: الجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص85.
([23]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص47.
([24]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص284.
([25]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص270.
([26]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص327.
([27]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص329.
([28]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص332.