مع العوتبي في كتاب الإبانة (2)

رائد بن ناصر بن خلفان العامري
ثالثا: استشهاد العوتبي في مسألة العدول إلى الجمع
ذكر العوتبي في غير موضع من الإبانة قضيةَ ذِكْر المفرد مرادا به الجمع وذِكْر الجمع مرادا به المفرد، أو هو العدول من الإفراد إلى الجمع ومن الجمع إلى الإفراد، ولنا على شاهدَين من بين الشواهد التي ذكرها العوتبي للمسألة تعقيبٌ وإضافة، والشاهدان أحدهما قرآني والآخر شعري.
أما الشاهد القرآني فهو قوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} [المؤمنون:99] وفيه العدول إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: (رَبِّ ارْجِعُونِ) إذ لم يقل: رب ارجعني، لكن توجيه العوتبي للشاهد فيه نظر إذ قال: “وقال الله، عز وجل جلاله: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} فقال تعالى {أحدَهم} وهو واحد. ثم قال، عز وجل: {ارْجِعُونِ} فجمع”[1].
قلتُ: موضع الشاهد ليس كما جاء بيانه في الإبانة لأن الإفراد في (أحدهم) لم يعدل عنه إلى الجمع في (ارجعون)، فـ(أحدهم) واحد، والياء المحذوفة في (ارجعوني) تدل على ذلك الواحد، فلا عـلْقة بين الجمع في (ارجعون) وبين (أحدهم) إذ الجمع المراد هو أن ذلك الواحد قال رب ارجعوني (بالواو) أي خاطب ربه بقوله: رب ارجعوني ولم يقل رب ارجعني، فالواحد المعدول عنه إلى الجمع هو الرب في قوله: ربِّ
ولذا أرى أن قول العوتبي: “فقال تعالى {أحدَهم} وهو واحد ثم قال عز وجل ارجعون فجَمَع …” سهو لأنه يريد أن يقول: فقال تعالى (رب) وهو واحد ثم قال عز وجل ارجعون فجمع، ولكنه قال (أحدهم) مكان (رب)، وقد يكون هذا خطأ من الناسخ أو سهوا.
وإن عدنا إلى ما قاله العوتبي في الآية {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} فإنه يمكن أن يكون لـ(أحدهم) علقة بالجمع إن قُرئ (ارجعونا) بـ(نا المفعولين)، على أني لم أجد من قرأ ذلك، ولم يُذكر في معجم القراءات، ثم إن المعنى في العدول إلى الجمع (ارجعونا) يفيد تعظيم أحدهم نفسه، وذلك مستبعد لأن السياق يشير إلى أن العبد في غاية الذل والضعف والهوان.
وقد ذُكِر في توجيه العدول إلى (ارجعون) ثلاثة أوجه[2]:
أحدها: أنه جمع على التعظيم كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} وقول الشاعر: [من الطويل]
ألا فارحَمُـونِيْ يا إلهَ محمدٍ فإنْ لمْ أكُـنْ أهلا فأنتَ له أهْـلُ
والثاني: أنه أراد يا ملائكةَ ربي ارجعون.
والثالث: أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول فكأنه قال: ارجعني ارجعني.
وأما الشاهد الشعري فهو قول العباس بن مرداس: [من الوافر]
فقُـلْنا أسْلمُوا إنَّا أخُوكُمْ فَقـدْ برئتْ مِنَ الإحنِ الصُّدُورُ
ووجه الشاهد أنه قال: (إنّا) وهو جمع، ثم أخبر بـ(أخوكم) وهو مفرد، فأخبر بالمفرد عن الجمع، وممن استشهد به على ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) في مجاز القرآن[3]، ومـا لم يذكره أبو عبيدة والعوتبي هو أن دلالة هذا الشاهد على المراد محتملة، لأنه يجوز أن يكون قوله: (أخوكم) جمعَ أخ على أخون فسقطت النون للإضافة، فـ(أخ) يجمع على (أخون) رفعا و(أخين) نصبا وجرا كما يجمع (أب) على (أبون) رفعا و(أبين) نصبا وجرا. قال سيبويه: “وتقول: أبو زيدٍ، تريد أبون على إرادتك الجمع الصحيح”[4] ويقول: “وسألت الخليل، عن أب فقال: إن ألحقت به النون والزيادة التي قبلها قلت: أبون، وكذلك أخٌ تقول: أخون … وقال الشاعر: [من المتقارب]
فلما تبيَّنَّ أصواتَنا بكَـيْنَ وفدَّيْنَنا بالأبِـينَا
أنشدناه من نثق به، وزعم أن جاهليٌ”[5].
وعرض أبو العباس المبرد (285هـ) مسألة ذكر المفرد مرادا به الجمع فقال: “وقد جاز في الشعر أن تفرد وأنت تريد الجماعة إذا كان في الكلام دليل على الجمع”[6]، واستشهد ببضعة شواهد، وهو لما جاء بالشاهد الذي جاء في المجاز لأبي عبيدة والإبانة للعوتبي قال: “وقد قالوا في قول العباس بن مرداس قولين وهو:
فقُـلْنا أسْلمُوا إنَّا أخُوكُمْ فَقـدْ برئتْ مِنَ الإحنِ الصُّدُورُ
فقال بعضهم: أراد إنا إخوتكم فوضع الواحد موضع الجميع … وقال آخرون: لفظه لفظ الجمع من قولك أخ وأخون ثم حذف النون وأضاف كما تقول مسلموكم وصالحوكم وتقول على ذلك أب وأبون وأخ أخون كما قال الشاعر:
… بكين وفديننا بالأبينا
وقال آخر: [من الوافر]
وكان لنا فَزارةُ عمَّ سوءٍ وكنتُ له كشرِّ بني الأخينا“[7].
فانظر كيف بيـّن أبو العباس المبرد أن دلالة الشاهد على كون (أخوكم) مفردا دلالةٌ محتملة ثم انظر كيف أيّـد كون (أخوكم) جمعا بشاهدين.
وقال ابن جني (392هـ): “وأما قوله:
فقلنا أسلموا إنّا أخوكم …
فيجوز أن يكون جمع أخ قد حذفت نونه للإضافة، ويجوز أن يكون واحدًا وقع موقع الجماعة”[8]
ووجدتُ في أهل اللغة من عرض الشاهد (إنا أخوكم) على عكس ما عرضه أبو عبيدة والعوتبي إذ ذكر ابن سيده احتمالا واحدا لـ(أخوكم) فقال: “وحكى سيبويه أَخونَ فِي جمع أَخ قَالَ الشّاعر:
فَقُلْنَا يَا اسْلَمُوا إنَّا أخوكم فقد برِئَتْ من الإِحَنِ الصُّدورُ”[9].
ولم يذكر احتمال كونه مفردا يراد به الجمع.
ومما وُجهت به قراءة (نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) أن (أبيك) جمع أب على أبين وسقطت النون للإضافة، بل استبعد ابن جني أن يكون (أبيك) مفردا فقال: “قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له؛ وذلك أن أكثر القراءة: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمعًا كما ترى، فإذا كان (أبيك) واحدًا كان مخالفًا لقراءة الجماعة؛ فتحتاج حينئذ إلى أن يكون (أبيك) هنا واحدًا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعًا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون (أبيك) جمع أب على الصحة، على قولك للجماعة: هؤلاء أبون أحرار؛ أي: آباء أحرار، وقد اتسع ذلك عنهم“[10].
وأنت ترى أن جَعْـلَ (أبيك) مفردا محوجٌ إلى تأويل كما يقول ابن جني خلافا لجعله جمعا فلا تأويل عندئذ، وإذن فليس الاستشهاد بـ(إنا أخوكم) على أنه مفرد يراد به الجمع – كما فعل أبو عبيدة والعوتبي- بأولى من الاستشهاد به على أنه جمع لأن ذلك محوج إلى تأويل وهذا لا يحتاج إليه.
وقال ابن جني أيضا في توجيه قراءة (أبيك): “ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل؛ فيصير قوله تعالى: (وإله أبيك ) كقوله: وإله ذويك، هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل”[11].
وقد اتسع مجيء الجمع على أبين وأخين، ومن الشواهد على جمع أخ وأب على أخين وأبين غير ما نقلتُه قبلاً قول الشاعر[12]: [من الوافر]
كريمٌ طابتِ الأعْراقُ مِنْهُ وأشْبَهَ فعلُهُ فِعْلَ الأبِينا
وقوله[13]: [من الوافر]
كريمٌ لا تغيِّرُهُ الليالي ولا اللأواءُ عن عَهدِ الأخينا
وقال أبو طالب[14]: [من الطويل]
ألم ترَ أني بعد همٍّ هممته لفرقة حر من أبين كرام
وقول الآخر[15]: [من الوافر]
أتفخر بالأبين معا علينا وما آباؤنا بـذوي ضغـــين
وقول الآخر[16]: [من الطويل]
ولكنْ أخُوْ المرءِ الذِيْنَ إذا دَعا أجابُوا بما يُرضِيهِ في السلْمِ والحرْبِ
قد تأكد لدينا أن الشواهد على (أخين وأبين) شائعة، وأن دلالة الشاهد (فقلنا أسلموا إنا أخوكم) على ما أراده العوتبي دلالة محتملة، والشاهد إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، وهذا الذي انتهجه النحويون، ومن تتبعهم وجدهم يسقطون الاستدلال بالشواهد التي يطرقها الاحتمال، ومن ذلك قول السيرافي (368هـ): “وليس على هذه اللغة دليل قاطع، ولا حجّة تقطع العذر لأن كل ما يستشهد به يحتمل التأويل“[17].
واستشهد أبو الفتح ابن جني على أنه يجوز مع الفصل تذكير الفعل مع التأنيث الحقيقي بقول الشاعر: [من البسيط]
إنَّ امرأ غـرَّهُ مِنكنَّ واحدةٌ بَعْـدي وبعـدكِ في الدُنيا لمغـرُورُ
فتعقبه ابن الخباز(638هـ) بقوله: “وأما ما أنشده أبو الفتح رحمه الله وهو:
إن امرأ غـرَّهُ مِنكنَّ واحدة …
فلا حجة فيه لأنه يجوز أن يريد بواحدة خصلة أو فعلة”[18]، وأنت ترى أن الاحتمال الذي ذكره ابن الخباز بعيد ولكنه مع ذلك مُسقِطٌ للحجة.
ومن ذلك أن ابن مالك (672هـ) قال في أحد الشواهد: “ولا حجة في هذا البيت لاحتمال أن يكون …”[19]، وابن مالك نفسه استشهد بشواهد تحتمل وجها غير الذي ذكره، فاعترض عليه النحاة من بعده، فأبطل أبو حيان الأندلسي (745هـ) الحجة في الشاهد الذي استشهد به ابن مالك على جواز قصر (أخ) وعدم معاملته معاملة الأسماء الستة، والشاهد قول الشاعر: [من الطويل]
أخاك الذي إنْ تدْعُهُ لملمَّةٍ يُجِبْكَ بما تَبْغِي ويكفِكَ مَنْ يَبْغِي
قال أبو حيان: “ولا دليل فيه لأنه يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار فعل، التقدير: الزمْ أخاك، وإذا دخل الدليلَ الاحتمالُ سقط به الاستدلال“[20]. وإذا تأملت في اعتراض أبي حيان علمتَ أن سلامة الشاهد وخلوه من الاحتمالات غير المستشهد عليها أمر مقدم عندهم، فمع أن عـدم تقدير الفعل الناصب أولى من تقديره ومع أن قصر (أخ) له ما يؤيده في لغات العرب تجد أبا حيان يبطل الاستشهاد به لأن الاحتمال –وإن كان ضعيفا- قائم.
وقال ابن هشام (761هـ) ردا على ابن مالك وغيره ممن جعل لـ(مهما) معنى الاستفهام: “ولا دليل في البيت لاحتمال أن التقدير (مه) اسم فعل بمعنى اكفف ثم استأنف استفهاما بـ(ما ) وحدها …”[21]، وشاهد من جعل لـ(مهما) معنى الاستفهام قول الشاعر: [من السريع]
مَهْما ليَ الليلةَ مَهْما ليَهْ أوْدَى بِنَعْـليَّ وسرْباليَهْ
وقال بدر الدين العيني (855هـ) في أحد الشواهد: “ومع هذه الاحتمالات لا يكون في الاستشهاد بهذا البيت حجة”[22].
وإذن فليس في الشاهد (إنا أخوكم) حجة على أن أخوكم مفرد يراد به الجمع لاحتمال أن يكون (أخوكم) جمعا.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] الإبانة 1/357.
[2] ينظر:
- التبيان في إعراب القرآن: أبو البقاء العكبري، تحقيق: علي محمد البجاوي،2/960.
- روح المعاني: الألوسي، ضبطه وصححه: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ- 1994م، 9/262.
[3] مجاز القرآن: أبو عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: محمود فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2/45.
[4] كتاب سيبويه، 3/409.
[5] المصدر السابق، 3/405 – 406.
[6] المقتضب: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي/ مصر، ط2، 1994م،2/169.
[7] المرجع السابق، 2/171 -172.
[8] الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة التوفيقية، ط1، 2015م، 2/446.
[9] المخصص: أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده، دار الكتب العلمية، بيروت، 13/218 -219.
[10] المحتسب في تبيين شواذ القراءات والإيضاح عنها: أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق علي النجدي ناصف وعبد الحليم النجار وعبد الفتاح شلبي، دار سزكين للطباعة والنشر، ط2، 1406هـ- 1986م، 1/112.
[11] المحتسب، 1/112.
[12] الفسر: أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق: رضا رجب، دار الينابيع، دمشق، ط1، 2004م، 1/203.
[13] المرجع السابق، 1/203.
[14] شرح التسهيل: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله الطائي، تحقيق عبد الرحمن السيد ومحمد بدوي المختون، هجر للطباعة والنشر والإعلان، ط1، 1410هـ – 1990م، 1/97.
[15] الفسر،203.
[16] شرح التسهيل، 1/98.
[17] شرح كتاب سيبويه: أبو سعيد السيرافي، تحقيق أحمد حسن مهدلي وعلي سيد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2017م، 2/5.
[18] توجيه اللمع: أحمد بن الحسين بن الخباز، تحقيق: فايز زكي محمد دياب، دار السلام، ط1، 1423هـ – 2002م، ص126.
[19] شرح التسهيل، 3/412.
[20] التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل: أبو حيان الأندلسي، تحقيق: حسن هنداوي، دار القلم، 1/166.
[21] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: ابن هشام الأنصاري، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر، بيروت، ط5، ص437.
[22] المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية: بدر الدين محمود بن أحمد العيني، حققه علي محمد فاخر وآخرون، دار السلام، ط1، 2010م، 4/1833.