قراءة في كتاب: “التيسير في شيء من الصرف اليسير”
منير بن محمد بن خميس السيفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
وبعد؛
فقد سَمَتْ بالشيخ المحقق سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي (1287 هـ) همةٌ عالية جعلته من العلماء المبرّزين في عصره، فكانت له قصبات السبق في العلم تحصيلا وتدوينا، كما كانت له أدوار سياسية كبيرة جعلت منه رجل المرحلة في وقته، وعند النظر فيما تركه من مصنفات نجد له عناية خاصة بعلوم العربية التي شرع في تدوينها في سِنِيِّ حياته الأولى فكانت باكورةَ مصنفاته العلمية، ولا غرو فعلوم العربية هي الآلة التي يُتوصّل بها إلى فهم الكتاب العزيز والسنة النبوية.
وكانت للشيخ المحقق سعيد بن خلفان عناية خاصة بعلم الصرف فقد ألَّف فيه ثلاثة مؤلفات، هي:
أولا: مقاليد التصريف، وهو نظم لمباحث علم الصرف وشيء من علم النحو، وقواعد الإملاء، يقع هذا النظم في ألف بيت.
ثانيا: شرح لأبيات مقاليد التصريف.
ثالثا: التيسير في شيء من الصرف اليسير.
والحديث معقود في هذه المقالة لقراءة موجزة لكتاب “التيسير في شيء من الصرف اليسير” وليس الغرض التتبع والتوسع وإنما هي لُمعة.
- إلماحة عن الكتاب
في سنة 1436 هـ صدرت الطبعة الأولى من كتاب التيسير بتحقيق الأستاذ محمد بن خاتم الذهلي، واعتنى بنشره مركز ذاكرة عمان، يقع الكتاب في 140 صفحة، وهذا الكتاب هو آخر كتاب كَتَبَه مؤلفه في علم الصرف، فقد سبقه نظم المقاليد وشرحه، لذلك توجد بعض الاستدراكات أثبتها الشيخ في كتابه التيسير، وقد كان تدوين الكتاب سنة 1258 هـ، قسَّم الشيخ الخليلي كتابه إلى فصول وأبواب مع مقدمة وخاتمة ومُكَمِّلة، واعتنى في كتابه هذا بمسألة القياس وهي من المسائل المهمة في علم الصرف، قال في المقدمة: “ومن أجله اقتصرت فيه على ذكر المقيس من تلك الأصول، وأضربت صفحا عن الغالب من ذكر الشذوذ والنقول”([1]).
وقد صرح باسم الكتاب في المقدمة، فقال: “وإذا يسَّر الله لي إتمامه فأسمِّيه كتاب التيسير في شيء من الصرف اليسير”
- سبب تأليف الكتاب
بيَّن الشيخ في مقدمة كتابه السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب، وهو طلب توجَّهَ به أحد طلبة العلم، وهذا السبب هو الذي أخرج لنا الكثير من الكتب العلمية النافعة([2]) فللسائل فضل في استثارة همة العالم في التصنيف، قال المحقق الخليلي في مقدمة الكتاب: “فقد سألني بعض الطلبة أن أصنف له في علم الصرف كتابا، وأفصله له أبوابا، بقول مفيد مجيز، ولفظ وسيط وجيز”([3]) ثم أوضح المنهج الذي سيسير عليه في كتابه وهو منهج الإيجاز؛ لأن ذلك أدعى لفهم السائل، وذلك هو المراد، فقال: “على أني متجانب عن الإطناب في هذا الكتاب؛ ليسهل فهمه على الطلاب كما أراده مني هذا السائل لهذه المسائل، فلا سبيل إلى تجاوز ما أراده إلا إلى ما يسعف مراده”([4])، وقال أيضا في موضع آخر من الكتاب: “وفرَّقته أنواعا، طلبا لزيادة التفهيم والتوضيح لهذا الطالب الذي سألني”([5])، وقال: “… هذه الكرَّاسة إنما وضعت للتنبيه على الظواهر كما يليق بفهم الطالب، لا غير، والحمد لله”([6])، فيظهر جليا من هذه النصوص أن المحقق الخليلي كان معتنيا بإفهام الطالب ما سأل عنه، وأنه يسعفه من الجواب بقدر الحاجة.
- اختيارات المحقق الخليلي
لم يكتف المحقق الخليلي بعرض المادة وتوضيحها للطالب، وإنما كانت آراؤه واختياراته حاضرة في الكتاب، وقد رصدتُ ثلاثة عشر موضعا أبان فيها رأيه، وهذه الاختيارات تعدّ كثيرة إذا ما قيست بحجم الكتاب، وجاءت الاختيارات بألفاظ متعددة، مثل: الأَولَى، والصحيح، والأصح، والأفصح، ومن المسائل التي صرَّح فيها برأيه([7]):
المسألة الأولى: في الصوغ من اسم المرة إذا كانت التاء موجودة فيه كـ(السهولة) هل يميز بذكر لفظة (واحدة) فيقال: سهولة واحدة، في المسائل خلاف، والذي اختاره المحقق التمييز بذكر لفظة (واحدة) قال: “والأصح تمييزه بذكر (واحدة) أو شبهها”([8]).
المسألة الثانية: في همزة الوصل التي تكون أول فعل الأمر للمخاطبة من باب الفعل الثلاثي المضموم العين الواوي اللام، كـ(ادْعي) يصح فيها ثلاثة أوجه وهي: الكسر والضم والإشمام، والذي اختاره المحقق الخليلي هو الكسر، قال: “والكسر هو الأفصح، وعليه الاعتماد”([9]).
- بين كتابَيْ: “المقاليد” و”التيسير”
يحتفي المحقق الخليلي كثيرا بكتابه (المقاليد)، وحُقَّ له ذلك، فمقاليد التصريف مفخرة في بابه، ومما قاله ثناء على الكتاب: “ومن أراد المزيد فعليه بكتابنا الذي سميناه بمقاليد التصريف، فإنه لَمِن أكمل المصنفات في هذا الفن الشريف، قد استكمل ألف بيت نظميّ مع شدة اختصاره وجَمَعَ شتيت المعاني المهمة الفائقة مع اقتصاره …”([10])، فيذكر في مواضع متعددة من كتابه (التيسير) أنه من أراد الاستزادة والتفصيل والتحقيق فعليه بالمقاليد، قال: “فإن ذلك مما نحيله على المقاليد”([11])، وقال: “وإذا أردت المزيد من تصريفها فعليك بالمقاليد”([12]).
ذكر المحقق الخليلي أغلب الأبواب والمسائل الصرفية في كتابه المقاليد ولم يذكرها في التيسير؛ لأن الغرض من وضع كتاب التيسير هو إسعاف مراد السائل دون الولوج في التفصيلات والشروحات إضافة إلى أن المحور الرئيس الذي تدور عليه المسائل في كتاب التيسير هو ذِكْر المَقِيسات؛ فلأجل هذا نجد الكثير من الأبواب الصرفية غير حاضرة في التيسير، فمِن ذلك: أغلب المسائل في الأركان الثلاثة الأولى، والركن الرابع في ذكر المفردات، والركن الخامس في الرسم.
وسأذكر هنا إجمالا المسائلَ التي ذكرها في التيسير، وهي: ذكر الفرق بين اللازم والمتعدي، وتصريف الفعل الثلاثي، والأفعال المزيدة، وحروف المضارعة، وفِعْل ما لم يُسَمّ فاعله، والأمر، والمشتقات (اسم الفاعل، واسم المفعول، والمصادر)، وختم الكتاب بمسألة تأصيل الشذوذ.
ونجد في المقابل بعض المسائل ليس لها ذكر في المقاليد، وإنما فصَّلها الشيخ في كتابه التيسير، وهذه نصوص وقفتُ عليها تدل على أن المحقق الخليلي اطلع على مصادر لم يقف عليها أيام تأليفه للمقاليد أو أنه فُتِحَ له في بعض المسائل بعد كتابة (المقاليد)، فدوَّنها في (التيسير)، أو أنه ذكر المسائل وتفصيلاتها في المقاليد بناء على ما ذُكِر في النظم، وهذه ستة نصوص:
- النص الأول: “وإنْ كنت قد وافقتهم في المقاليد على قولهم فلم يحضرني هنالك ما قد حضرني الآن من هذا المعنى”([13]).
- النص الثاني: “ولم نذكر هذا التأصيل في المقاليد، مع سعتها، واستيعاب أبوابها”([14]).
- النص الثالث: “فأما فَعَلَ المفتوح فيه ففيه للقياس مواضع كما في المقاليد، ومواضع أخرى لم ننبه عليها في الكتابين”([15]).
- النص الرابع: “ولكن فيها زيادة معان لم نتعرض لذكرها في المقاليد”([16]).
- النص الخامس: “نذكره هنا لعدم ذكره هنالك”([17]).
- النص السادس: “ولم نصرِّح في المقاليد بجميع ذلك لأنا ذكرنا الوجوه هنالك على حسب مساعفة النظم لا غير”([18]).
فهذه النصوص وغيرها تدل بوضوح أن كتاب (التيسير) يحوي إضافات علمية لا توجد في كتاب المقاليد الذي هو أسبق زمنا وأكبر حجما، وهذه إشارة إلى النمو المعرفي والتراكم العلمي عند المحقق الخليلي.
- مصادره
رجع الشيخ الخليلي في كتابه التيسير إلى مصادر متنوعة صرح ببعضها ولم يصرح بالآخر، فممن صرح بذكرهم أربعة أعلام، وهم:
- سيبويه، فقد ذكره بالاسم في موضعين، الأول عند حديثه عن وزن (انْفَعَلَ) وأنه من المعاني التي يأتي لها هذا الوزن هو مطاوعة وزن (فَعَلَ)، فذكر المحقق الخليلي أن سيبويه يرى القياس في هذه المسألة، قال: “وهو مقيس عند سيبويه، إلا إذا كان فاءُ الكلمة أحد هذه الحروف: (اللام، والميم، والنون، والراء، والواو)”([19]). والموضع الثاني في وزن (أَفْعَلَ) والمعاني التي يأتي عليها([20]).
- الزمخشري، أورده عند الحديث عن مسألة المصدر من وزن (فَعَّل) المشدد العين فذكر ثلاثة أوجه ثم قال: “وقد يكون مصدره كثيرا على (فِعَّال) بكسر الفاء وتشديد العين، نحو: (وكذبوا بآياتنا كِذَّابا)، وهو كثير فصيح، ويجوز القياس عليه، وعلى ذلك ظاهر كلام الزمخشري في الكشاف”([21]).
- ابن مالك، ذكره في مواضع متعددة من الكتاب، ويبدو أن المحقق الخليلي متأثر بابن مالك يظهر ذلك لمن تتبع (المقاليد) و(التيسير)، فقد صرح باسمه في خمسة مواضع من الكتاب([22])، منها قوله: “و(فِعْلَال) بكسر الفاء، ومختلف في القياس عليه، وعلى القياس مضى شيخنا ابن مالك”([23]).
- بَحْرَق، يذكره المحقق الخليلي بشارح اللامية، قال: “ولم نعلم أحدا قال بالقياس عليه، غير أن شارح اللامية أعجبه ذلك، فأومى إليه من دون تصريح به”([24]).
أما المواضع التي لم يصرح فيها بذكر من ينقل عنهم، فأذكر منها ثلاثة([25]):
الأول: “… فليس هي بأصول – وإن ذكرها بعض العارفين- “([26]).
الثاني: “وقد ذكر العلماء بهذا العلم أن الأفعال المعدَّاة …”([27]).
الثالث: “وبعضهم يجيز القياس عليه”([28]).
- منهج المحقق الخليلي في كتابه “التيسير”
المتتبع للكتاب يجد صبغة مؤلفه حاضرة حضورا بارزا، وبعد النظر في الكتاب حاولت الخروج ببعض هذه السمات المنطبعة فيه؛ لأنها تكشف لنا عن الجوانب العلمية والفكرية التي يمتاز بها المحقق الخليلي، ويمكن أن نعدها منهجا سار عليه، وأورد هنا خمس سمات لأجل التمثيل فقط فالمعالم والسمات كثيرة:
أولا: حكاية الخلاف، وإيراد اللغات في المسألة، ففي كثير من مواضع الكتاب يعتني المحقق بذكر الخلاف والأوجُه الموجودة في المسألة، وفي بعض الأحيان يشير إلى الأعلام الذين تبنوا قولا من الأقوال، ومن الأمثلة على ذلك قوله: “ومختلف في المفتوح بحرف الحلق أيضم هو بالمغالبة أم لا؟”([29]).
ثانيا: الرسوخ العلمي والتحدث بالنعمة، وهذه السمة واضحة جدا في الكتاب، فالرصانة العلمية للمحقق الخليلي تظهر معالمها في كل الكتاب، فتجده يفرِّع المسائل ويحكي الخلاف فيها ويذكر رأيه وينبه على ما يجب الانتباه له، فيقول مثلا في القياس: “والمشاهير لا يجوز العدول عنها في جميع الأبواب على الإطلاق، وإنما يؤخذ بالقياس في غير المشاهير من المخالف للقياس” فعلَّق بعد هذا الكلام بقوله: “فاعرف هذا الأصل فإنه تنبيه عجيب، وتوضيح غريب، لم نجد من نبه عليه من العلماء الماضين، فتنبه لذلك واعرف قدره، وانظر إليه بعين القبول والرضا حتى تطَّلِع على الزبدة من معناه من دون أن تقنع بسماع قعقعة الحروف قبل أن تعثر بالمطلوب من الدلالة”([30]) فهذه العبارات لا تصدر إلا عن عالم بمسائل الفن مدرك لدقائقه.
ثالثا: أسلوب المحاورة، وقد استعمل المؤلف هذا الأسلوب في غير موضع من كتابه، ولا يخفى ما للمحاورة من جذب للانتباه واستجلاب للفهم، خصوصا إذا علمنا أن سبب تأليف الكتاب هو طلب توجه به أحد الطلاب، ومحاورة الأستاذ لتلميذه والعكس من أنفع طرق التعليم، وقد عثرتُ على ثمان محاورات، منها قوله: “ولعلك تقول حينئذ: … فيقال لك: …”([31]).
رابعا: الإيجاز والاختصار، وقد أشار المحقق الخليلي إلى ذلك في المقدمة في مواضع كثيرة من الكتاب، ويُحيل القارئ المستزيد والطالب للتوسع والتفصيل إلى كتابه المقاليد، ومما قاله: “ولو ذكر تفصيل بعض الكلمات من ذلك لاحتاج إلى مجلدات”([32]) وقال في موضع آخر: “فأما النقول فلا نطيل بذكرها هنا طلبا للتخفيف، فإن موضعها الكتب المطولة”([33])، ومن أسباب الإيجاز الترفَّق بالطالب، قال: “… لم نتعرض لذكرها في هذا الكتاب لأجل اختصاره، وطلبا للرفق بهذا السائل الذي أنشأت الكتاب لأجله، ولمن كان في فطرته كمثله فإن كل لسان له مقال، وكل مقام له رجال، وخطاب العقلاء لا يصلح للأطفال”[34].
خامسا: مما سار عليه المحقق الخليلي في كتابه التعليل لبعض الأقوال، فيقول مثلا: “… فإلحاقه بباب فَعَلَ المفتوح أَولَى، لكثرته وغلبته ولشاهد أصل الوضع في الأفعال الثلاثية كما ذكره العلماء المحققون في ذلك بطريق الاستقراء والتتبع”([35]).
هذه قراءة موجزة لكتاب (التيسير في شيء من الصرف اليسير) للشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي، أردت منها تقريب الكتاب للقراء ورصد شيء من بصمات المؤلف الكبير، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] . التيسير، ص21.
[2] . مثال ذلك كتاب تلقين الصبيان للإمام السالمي فقد ألَّفه بطلب من الشيخ سالم بن محمد الرواحي.
[3] . ص 21.
[4] . ص 21.
[5] . ص 68.
[6] . ص 80.
[7] . ينظر أيضا: ص34، ص35، ص70، ص72، ص73، ص78، ص79، ص100، ص107، ص113.
[8] . ص 102.
[9] . ص 77.
[10]. ص 22.
[11] . ص 28.
[12] . ص 63. ينظر أيضا: ص29، ص31، ص53، ص61، ص63، ص68، ص72، ص75، ص77، ص79.
[13] . ص 55.
[14] . ص 117.
[15] . ص 33.
[16] . ص 36.
[17] . ص 29.
[18] . ص 63.
[19] . ص 59.
[20] . ص 55.
[21] . ص 105.
[22] . ينظر أيضا: ص30، ص55، ص97، ص، ص98، ص100.
[23] . ص 103.
[24] . ص 99.
[25] . ينظر أيضا: ص88، ص96، ص98، ص100.
[26] . ص 33.
[27] . ص 34.
[28] . ص 88.
[29] . ص 46. وينظر أيضا: ص24، ص45، ص46، ص55، ص72، ص76.
[30] . ص 35. ينظر أيضا: ص 117.
[31] . ص27. ينظر أيضا: ص32، ص34، ص36، ص68، ص72، ص80، ص91.
[32] . ص 37.
[33] . ص93. ينظر أيضا: ص28، ص36، ص44، ص57، ص64.
[34] . ص 116.
[35] . ص 35. ينظر أيضا: ص47، ص51، ص78.