فضل قراءة القرآن
عبد المجيد بن سعيد بن مسعود آل ثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وتحريف المبطلين حيث قال:” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، فهيأ لذلك الأسباب، وقيض من عباده الحفّاظَ لهذا الكتاب، فطوبى لمن جعله الله خادما لكتابه وحسنُ مآب.
ولا ريب أن من شمر عن ساق الجد، واستفرغ الوسع، ووطن نفسه على مشقة الطلب، متخذا أسباب بلوغ الكمال، قاصدا قراءة القرآن الكريم كما أنزله الله عز وجل، وكما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام من بعده، أعظم أجرا، وأجزل مثوبة من غيره ممن قرأه بتحريف وتبديل، أو زيادة أو نقصان، ولا يكاد يمر بآية إلا ويلحن فيها اللحون الجلية التي قد تغير المعنى وتقلبه من إيمان إلى شرك، ومن هداية إلى ضلال، ومن أمر إلى نهي، بل ولو لم تغير هذه الأخطاء المعنى فليس يبلغ معها امتثال أمر الله بالترتيل:” ورتل القرآن ترتيلا”( المزمل:٤)، ولا رتبة الماهر الذي امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها:” الْماهِرُ بالقُرْآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والذي يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وهو عليه شاقٌّ، له أجْرانِ”، [وفي رواية]: “والذي يَقْرَأُ وهو يَشْتَدُّ عليه له أجْرانِ”[1]، والماهر بالقرآن هو الحاذق المتقن لتلاوته، أو الضابط له حفظا وتلاوة، والسفرة هم ملائكة الوحي أو الكتبة، ووجه كون الماهر مع الملائكة مشابهته إياهم في حمل كتاب الله وتبليغه للخلق، ” والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه” أي يتردد لعدم مهارته” ” وهو عليه شاق” أي تصيبه مشقته وشدته،” له أجران” أجر لقراءته، وأجر لتحمل مشقته[2].
وقد يتوهم البعض من قوله صلى الله عليه وسلم في الذي يتتعتع:” له أجران” أنه أعظم درجة من الماهر ولذلك نبه جمع من العلماء إلى أن “الماهر أفضل وأكثر أجرا لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة ولم يذكر هذه المنزلة لغيره وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه؟!”[3]، ويقول سعيد حوى:” المقام الأرقى للأول الذي هو الماهر في القرآن، وكون الثاني له أجران لما يبذل في القرآن من جهد لا يقدم صاحبه على الأول في مقامه العالي الذي من آثاره استحقاقه الكينونة مع الملائكة”[4].
ومع هذا لا يغفل جانب الحث والتحريض في الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم:” له أجران” فيه إثبات الأجر للضعيف غير الماهر، وحث لمن لا يتقن التلاوة أن يتعلمها ويجاهد نفسه حتى يتقنها، ويصل إلى درجة الماهر، فالكيّس الفطن من شرع في التحصيل حتى يبلغ الغاية، وليس من يتوهم البلوغ دون كد وتعب، وقبل هذا لا بد أن يدرك أن المشقة التي ستواجهه في ذلك عبادة من العبادات وقربة من القربات، وقد نبهت على ذلك الرواية الأولى:” وهو عليه شاق له أجران” والرواية الثانية:” وهو يشتد عليه”، ورواية البخاري:”…ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران”[5].
وفي طريقه يحكم النية ويضبط بوصلتها حتى يفتح الله له بنيته أبواب العلم والإتقان فيبلغ بذلك درجة الماهر فعن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما:” الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى”[6]، ويقول الله عز وجل:” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”(العنكبوت: ٦٩)، ففي بعض التأويل لقوله:” لنهدينهم سبلنا” عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن “معناه الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون”[7]، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: “إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى:” واتقوا الله ويعلمكم الله”( البقرة:٢٨٢).”[8].
فإن نوى بلوغ درجة الماهر بالقرآن وعزم على ذلك وأقبل عليه وجاهد نفسه أكرمه الله بقدر نيته وأعطاه أجره كاملا غير منقوص فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” نية المؤمن خير من عمله” [9].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما لقارئ القرآن من أجور عظيمة، وجوائز قيمة، ورغب في التعاون والاجتماع على تعلم كتاب الله في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده…”[10]، وعن عبد الله بن مسعود، يقول: قال رسول الله ﷺ:” من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”[11].
فحري بالمؤمن الحريص على نيل الأجر حين يسمع هذه الأحاديث العظيمة، وما وعدت به من أجور أن يتعلق بالقرآن الكريم أكثر من تعلقه بالمال والولد، وأن يلزم تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأن يكون حريصا على قراءته كما أنزل، ولا يستنكف عن الالتحاق بشيخ يعلمه، أو أستاذ يوجهه، وإن هو أتقن قراءته بادر لتعليمه من لا يحسنه؛ فـ”خيركم من تعلم القرآن وعلمه”[12].
لتحميل المقال اضغط هنا
[1]( رواه مسلم: ٧٩٨.
[2] ) مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفى على سنن المصطفى لمحمد الأمين الهرري، ج٢٢، ص٢٢٧-٢٢٨، واللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، شمس الدين البِرْماوي، ج١٧، ص٥١٩-٥٢٠، والتنوير شرح الجامع الصغير، الصنعاني، ج١٠، ص٤٦١-٤٦٢.
[3] ) شرح النووي على مسلم، ج٦، ص٨٥.
[4] ) الأساس في السنة وفقهها، القسم الثالث: باب العبادات: المجلد الأول، ص١٦٠٣.
[5] ) صحيح البخاري: ٤٩٣٧.
[6] ) مسند الإمام الربيع: باب: في النية.
[7] ) ينظر: التفسير الميسر وتفسير الماوردي والطبري والبحر المحيط للآية.
[8] ) تفسير القرطبي: تفسير سورة العنكبوت الآية٦٩).
[9] ) مسند الإمام الربيع: باب: في النية.
[10] ) مسلم: ٢٦٩٩.
[11] ) رواه الترمذي: ٢٩١٠.
[12] ) البخاري: ٥٠٢٧.