العقيدة والفكر

رمضان شهر الانتصارات

ماجد بن ناصر بن سلطان اليعربي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله الذي جعل رمضان شهر الانتصارات والفتوحات، والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد..

فقد ساقتنا الأقدار إلى أن نشهد صيام فئة من المسلمين قبل حلول شهر رمضان المبارك! نعم فأهل غزة العزة تقدمونا في صيام هذا الشهر الفضيل، بسبب حصار العدو ومنعهم من الطعام والشراب، ومعاونة المنافقين لهم، بل واستشهد بعضهم بسبب ذلك، فشهد العالم لأول مرة ناقلا بوسائل إعلامه المتنوعة تجويع أمة من الناس أطفالا ونساء ورجالا ولم يحرك لذلك ساكنا، فهل من هوان وذلة حلّت بالأمة الإسلامية طوال تاريخها أعظم من هذا الهوان والذل؟ فهنيئا لكل شهيد في أرض الأقصى المبارك، وتعساً لكل متخاذل عن نصرتهم ولو بالكلمة.

ثم إن الله تعالى جعل شهر رمضان شهرا للجهاد والبذل في سبيله كما جعله شهرا للصيام والقيام، والله تعالى ليس بحاجة إلى عباداتنا، فهؤلاء الملائكة منقطعون لعبادته وطاعته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولكن يعلمنا الله تعالى في مدرسة الصوم الكثير من الدروس التي ترجع إلينا فائدتها في الدنيا قبل الآخرة، ومن أسمى هذه الدروس التفاني في خدمة دين الله تعالى وبذل كل ما هو غالٍ ونفيس من أجل الذود عن حياض هذا الدين العظيم.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه في فتح وكانوا صياما فضعفوا عن القيام بواجبات الجهاد قبل أن يلقو العدو، فأفطر النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر معه المسلمون إلا أن بعضا لم يفطر، فقال عنهم صلى الله عليه وسلم : “أولئكَ العصاةُ أولئكَ العصاةُ”،  فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما « أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: ‌أُولَئِكَ ‌الْعُصَاةُ، ‌أُولَئِكَ ‌الْعُصَاةُ » رواه مسلم.

فمع أن صيام شهر رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة إلا أنه إذا كان سببا لضعف المسلمين عن الجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى فيؤمرون بالإفطار، وقد جعل بعض العلماء الجهاد في سبيل الله الركن السادس من أركان الإسلام.

والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو ليس شيء يستحيا منه كما صوره الغرب الكافر لنا فنرى الرهبة في الذين تصبغوا بصبغة العلمانية عندما نذكر شيئا عن الجهاد !

فيجب علينا أن نفتخر بالجهاد لأن فيه رفعتنا، ودفعا للظلم الذي يحل علينا، يقول تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا}، فبالجهاد يقف الظلم والتسلط ويقف انتهاك المقدسات، وإذا لم يكن جهاد اليوم فريضة على الأمة بعدما استشهد الآلاف فمتى سيكون فريضة !

وكم يروي لنا التأريخ من فتوحات وانتصارات حازها المسلمون في هذا الشهر الكريم، ولأن التأريخ كالحلقة التي تعيد نفسها وتدور في أحداثها، فإن هناك نماذج تأريخية تشحذ فينا الهمم من انتصارات المسلمين في هذا الشهر الفضيل، ومن أبرزها :

  • غزوة بدر الكبرى: وتسمى الفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل، وكانت أول ملاحم المسلمين في السابع عشر من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، حيث التقى المسلمون وهم ٣١٥ مجاهد وفارسان اثنان، ضد المشركين الذين كانوا أكثر من ألف مقاتل مع أكثر من ١٥٠ فرسا، ولكن أمر الله فوق كل أمر، فقتل المسلمون ٧٠ قتيلاً وأسروا ٧٠ أيضا، فانتصروا بإذن الله وقويت شوكتهم، وبذلك تحسن حال المسلمين وتغير من ضعف إلى قوة، يقول الله تعالى :{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
  • فتح مكة: الفتح الأعظم، في الشهر الأعظم، فبعدما نقضت قريش صلح الحديبية توجه النبي صلى الله عليه وسلم في العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة بجيش جرار من عشرة آلاف مقاتل قاصداً مكة حتى دخل فأعطاهم الأمان فقال :”مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنْ ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ”، ففتحها صلى الله عليه وسلم بلا سفك للدماء، وطاف بالبيت وحوله ٣٦٠ صنما فجعل يُسقطها ويقرأ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }.
  • معركة حطين: أو الفتح المقدسي في رمضان سنة ٥٨٣ هـ بقياد صلاح الدين الأيوبي، فكانت معركة حطين كسرا لشوكة الصليبيين المتحكمين يومها في الشاطئ والشريط الشامي، بعد أن طال عمر الغزو الصليبي في تلك الأرض لأكثر من ٩٠ سنة، وكانت ممالكهم قد غرست أقدامها في الأرض الشامية، فخرج صلاح الدين الأيوبي بجيشه لينهي مسارا طويلا من التصدي للغزاة الصليبيين، وانتهى يوم السجال الدامي بانتصار باهر، حيث تفرق الصليبيون مهزومين بعد أن أعمل فيهم جنود صلاح الدين صوارم السيوف، وكانت حطين البوابة الأوسع لتحرير المسجد الأقصى وإنهاء مأساته التي استمرت ٩٠ سنة، فمهما طال تدنيس الأنجاس المحتلين أراضينا المقدسة فسيأتي اليوم الذي تُسترد فيه الحقوق، فاللهم اجعله عاجلاً غير آجل.
  • الفتح الإسلامي للأندلس: الذي كان من أعظم الفتوحات للمسلمين ضد النصارى، فقد توجه جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد الذي أثبت حسن ولائه للإسلام إلى الأندلس بجيش مكون من سبعة آلاف مقاتل في شهر رمضان عام ٩٢ه، واستغرق الفتح مدة طويلة حتى نصر المسلمون الله فنصرهم، ولما خذلوه خذلهم، فسقطت الأندلس عام ٨٩٦هـ.
  • معركة عين جالوت: التي دارت في أرض الأقصى المبارك في فلسطين، بين جيش المغول والمماليك بقيادة سيف الدين قطز، وهي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التأريخ الإسلامي، فقد كانت أول هزيمة قاسية تلحق بجيش المغول الذين أهلكوا الحرث والنسل، وكانت في ٢٥ من رمضان عام ٦٥٨هـ، فكانت الغلبة للمسلمين مما شحذ هذا النصر همة المسلمين ورفع معنوياتهم وطموحاتهم في تحرير باقي أراضي المسلمين من الاحتلال.

فهذه نماذج عظيمة من انتصارات المسلمين في هذا الشهر المبارك، وغيرها من النماذج العظيمة التي نتعلم منها ونعتز ونفتخر بها، والصيام يعلمنا أن نملك أنفسنا ويربينا على الصبر والسيطرة على شهواتنا، فنحن نصوم لنخرج من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العز، فنحن أمة تُهيّأ للقيام بمهماتها، فإننا قادرون على تغيير أنفسنا إلى الأفضل باعتمادنا على الله، وليبدأ كل واحد منا بنفسه.

وصلي اللهم وسلم على نبينا المجاهد الشهيد محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

لتحميل المقال اضغط هنا

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.01 ( 4 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى