تطبيــع المعصيــة

عمر بن أحمد بن حمد الخليلي
فطر الله تعالى الإنسان وركّبه تركيبة نقص دالة على ضعفه وعدم تمالكه، كما جاء في الحديث “لمّا صوّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطيف به، ينظر ما هو، فلمّا رآه أجوف عرف أنه خُلِق خلقا لا يتمالك”[1]
وهذا سبب من أسباب انزلاق الإنسان إلى وهدة المعصية، وانحطاطه إلى درك اتباع الشهوة، ولكنّ هذا متفهّم من إنسان لا يلبث بعد وقوعه أن يتذكر، بل إن الله تعالى وصف عباده المتقين بهذا حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [سورة الأعراف:201]. ويقول جل وعلا: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران:135].
ويقول الله عز وجل كما يروي النبي صلى الله عليه وسلم عنه “يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم”[2]، بل يؤكد معنى الضعف البشري الذي خُلق عليه بنو آدم حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال “والذي نفسي بيده، لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم”[3].
وليس في شيء مما سبق تسويغ لفعل المعصية البتة، ولكنه بيان لما يجب على المؤمن حال وقوعه في شيء من هذه القاذورات -أجارنا الله منها جميعا-
بقي بعد تقرير ما سبق أن أشير إلى ما مهّدت بما سبق لأجله، وهو الداء الخطير الذي قلّما ينتبه له كثير من الناس، وهو استمراء بعض الذنوب حتى لا يكاد مرتكبها يحسّ بوخز ضميره حين يرتكبها، ولا تكاد نفس من يراه تنبعث لإنكار المنكر عليه، وما ذلك إلا لإلفها والاعتياد عليها، لأن (كثرة المساس تميت الإحساس)، والإلف يخفف وطأة بشاعة المعصية مرة بعد أخرى.
وهذا شائع في دنيا الناس، وليس مقتصرا على المعاصي فقط، فالدميري في كتابه (حياة الحيوان) يقول “الإبل من الحيوانات العجيبة، وإن كان عَجَبُها سقط من أعين الناس؛ لكثرة رؤيتهم لها”[4].
وهنا أتلمّس حكمة قول النبي صلى الله عليه وسلم “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده…وذلك أضعف الإيمان” والحديث الآخر الذي فيه “ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”[5].
فتغيير المنكر بالقلب لن يؤثّر في الواقع شيئا، فلا هو رادع للعاصي عن معصيته، ولا منبّه للناس ومحذّر لهم من الوقوع فيها، ولكن المراد منه حفظ قلب المنكِر من التغيُّر وإلف المعصية التي يراها، فمتى ترك إنكارها بقلبه ولم يبق في نفسه اشمئزاز منها؛ لم يبق حاجز الممانعة قائما بينه وبين المعصية، بل إنه بنفسه لن يلجأ إلى الله ضارعا أن يعصمه من الوقوع فيها، ومن كانت هذه حاله لا يؤمن من أن يُخلّى بينه وبين المعصية، فيوكل إلى نفسه.
والحواسُّ كلها قنوات موصلة إلى القلب، تعرض عليه الفتن فيعرف أو ينكر، كما في الحديث “تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ”[6].
وإن من أشدّ ما يعاقب به تارك الإنكار -بعد سلب الإيمان- أن تنطفئ بصيرة قلبه، فلا يميّز بين المعروف والمنكر، وما بعد حرمان التمييز بين الخير والشر حرمان.
ويضرب أبو حامد الغزالي مثالا حيّا في كون إلف الناس بعضَ المعاصي مذهبا للبغض لها من القلب، بل تصل إلى كونها كأي مباح من المباحات “فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية، وتهوّن عليك أمرها، ولذلك هان على القلوب معصيةُ الغيبة لإلفهم لها، ولو رأوا خاتما من ذهب، أو ملبوسا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه، والغيبة أشد من ذلك”[7]
ويطأ ابن النحاس موطئ قدم الغزالي في كلامه السابق إذ يقول “قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها=ذهبت عظمتها من القلوب شيئا فشيئا، إلى أن يراها الإنسان فلا تخطر بباله أنها منكرات لما أحدث تكرارها من تألُّف القلب لها”[8]
وثمّة أمثلة كثيرة لمنكرات من كبائر الذنوب ما عاد الناس يرونها إلا كذباب وقع على آنافهم فذبّوه بأكفهم.
وأكبر من إشكال إلف المعصية عند الأفراد إلفها في المجتمعات، فحينما يزول حاجز الممانعة المجتمعي بفعل عوامل النحت في وعيه تصبح إعادة المجتمع لجادّته عملا شاقا لا يقوم به أفراد، ولا يكفي لنشر الوعي به آحاد.
ومن أليم القصص في هذا ما دوّنه أحمد المرزوقي في مذكراته، حيث إنه سُجن قرابة 20 سنة ثم أُفرج عنه، فيصف موقفا مثيرا قابله بعد الإفراج قائلا “لا زلت أذكر أن أول مرة رأيت التلفاز بالألوان، وكان ذلك في بيت أختي نجاة خلال مأدُبة عشاء أقامتها مع زوجها على شرفي.
كان يوم السبت، وكانت الإذاعة الوطنية تبث سهرة غنائية متنوعة، شارك فيها فنانون مشارقة ومغاربة، أخذتُ مكاني في الصالون الكبير الممتلئ عن آخره بأفراد الأسرة، فتسمّرت عيناي منذ الوهلة الأولى على شاشة التلفزة، وهي تعرض أنهارا من الصور الملونة البديعة. وفجأة! دارت بي الأرض دورتين لمّا جاء دور فنانة شرقية جميلة، وقفت تغني بفستان ساطع يكشف نصف صدرها، ويبرز مفاتنها بكيفية صارخة.
غضضتُ طرفي على مضض حياءً من الحاضرين، وتظاهرتُ بالسُّعال لحظة، ثم شرعتُ أحكُّ رأسي بيد، بينما تظاهرتُ بالبحث باليد الأخرى عن قلم مزعوم سقط على الأرض، كنت أعتقد أن أحدا سيقفز على التلفاز ليطفئها، أو يحولها إلى قناة أخرى، ولكن كم كانت دهشتي عظيمة، واستنكاري كبيرا لمّا رأيت عيون الحاضرين تنظر إلى التلفاز بهدوء واهتمام مَن يتابع نشرة أخبار بالغة الأهمية!
ثم جاء دور مجموعة من الراقصات فشرَعنَ يرقصن على إيقاع موسيقي رنان، وعواءِ كمانٍ متوجّع، رقصا فاضحا اهتزّت فيه الصدور، والتوت الأرداف، وتحركت فيه البطون صعودا وهبوطا بكيفية جعلتني أرخي رأسي إلى صدري من الارتباك والحرج؛ ما الذي تغيّر؟ المجتمع أم أنا؟ ماذا كان سيحدث لو أن أبي وعمّي كانا حاضرين معنا هذه السهرة؟
التفتَ إليّ أحد أبناء عمي الذين أعزّهم كثيرا، وقال لي مداعبا وهو يضرب على فخذي -وقد فطن لحرجي الشديد-: لقد تبدّلت الأحوال يا ضفدعي الجميل!”[9]
وقد ترى الفتاة الحييّة التي لا تكاد تسمع لها صوتا في كلامها مع الرجال وقارا وحياء لا تجد غضاضة في متابعة فلم فيه من المشاهد الفاضحة، بل والتي لا تكون إلا بين الرجل وزوجه فلا يرفُّ لها جفن، بل وقد تذكر الفلم لرفيقاتها ولا تجد بأسا في ذلك، وما هذا إلا لإلف هذه المعصية، وشيوعها بين الناس، حتى ما عادوا يرون فيها شيئا يُنكر.
وتجد -وقد وجدتُ- الشاب الملتزم الحريص على اجتناب المعاصي لا يبالي بنشر ما لا يجوز نشره بحجة كونه خبرا شائعا أو قصة طريفة أو فائدة صحية، ولو كان نشره من قبيل ترجيح المصلحة المرجوة فيه على المفسدة المتحققة -وإن كان في ذلك نظر- لكان أهون، ولكنه يراه مصلحة محضة، فهو لا يعترف بوجود المفسدة أصلا فيما ينشر، ولا يستحضر ذلك البتة.
ولا أقصد بهذه الأمثلة الحصر، بل لو استحضر أحدنا هذا المعنى في يومه لوجد عددا كبيرا من الأمثلة له، بل قد تصل إلى درجة أن يصير المنكر هو المعروف، ويصبح المخالف له مرتكبا لمنكر في عرف الناس، فلا يريد منهم إلا أن يكفوا أذاهم عنه، وأن يجعلوا المسألة داخلة في حيّز (الحريات الشخصية) التي لا ينكر على المخالف فيها!
ولمنع هذا الإلف شرع الله تعالى ما شرع من أحكام لحفظ القلوب حيّة متيقّظة، فمن ذلك:
- تشريع المسارعة في التوبة لمن وقع في شيء من المعاصي، حتى لا يبقى في وحل المعصية فيألفها القلب، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زِيد فيها حتى تعلو قلبَه، وهو الران الذي ذكرَ الله { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين:14][10].
- تشريع إنكار المنكر، وتقريع الأمم السابقة لتركها الإنكار (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه..) فجعل الله تعالى إلفهم للمنكر سببا لإحقاق القول عليهم، وجعل الله تعالى إنكار المنكر صمام أمان للأمة من أخذهم بعذاب عام “إن الله لا يعذب الخاصة…”، وتشريع الإنكار يشمل اليد واللسان والقلب -كما تقدّم- “وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر -كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.
فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ القلب بإيجابيته تجاه المنكر… إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به… وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع (المعروف) في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة…. وهذا كله عمل إيجابي للتغيير… وهو على كل حال أضعف الإيمان.
فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان، أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع، ولأنّ له ضغطا -قد يكون ساحقا- فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان، هذا وإلا حقّت على المجتمع اللعنة التي حقّت على بني إسرائيل”[11]
منع المسلمين من القعود مع الكافرين إذا خاضوا في آيات الله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعً} [سورة النساء:140].
ومعنى حفظ القلب من إلف المنكر واضح في هذه الآية، بل إن من فقه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -كما روى الطبري بإسناد صحيح- توسيع دلالة هذه الآية لتشمل سائر المنكرات، لاتحادها في علّة الإلف، فعن هشام بن عروة قال “أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على الشراب، فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إن هذا صائم! فتلا (فلا تقعدوا معهم)[12].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم “لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي”[13].
- تشريع حد القذف لمنع إشاعة الفاحشة، فبالإضافة لكون الحد رد اعتبار للمقذوف فإنه مانع من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وكثرةُ لوك قصص الفواحش لغير داع يُذهب بشاعتها من القلوب، ويخفف وقعها على النفوس؛ ولذا فإن مما ينبغي التنبيه عليه ألّا تُذكر هذه القصص إلا عند الحاجة، وأن تُجنّب المجالس العامة ذِكرها، وإنما تُذكر بين من يقدر على إنكارها بالتغيير، أو للتحذير من فاعلها، أو لسبب مشروع داع لذلك، فـ”العامل الفاحشةَ والذي يشيع بها في الإثم سواء”[14] كما يقول الإمام علي بن أبي طالب.
- تشريع الأمر بالمعروف، إذ إن الأمر بالمعروف يكون وقاية للمجتمع من الوقوع في المنكرات، والمحافظة على المأمورات سبيل لاجتناب المنهيات
ومن موانع الإلف أيضا -إضافة لما سبق- الوعي بخطورة الإلف، والسعي للتخلص من دَرَن العلائق التي قد تعلق بالمرء جرّاء انغماسه في مجتمعه، ومخالطته للناس في معاملاته وزياراته، وهذا يحتّم على المرء أن يكون يقظا في حياته، وأن يقف وقفات لمراجعة ما اعتادته نفسه، فـ”الاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له؛ فلا تحاول تغييره”[15].
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] صحيح مسلم (2611)
[2] صحيح مسلم (2577)
[3] صحيح مسلم (2749)
[4] الدميري، حياة الحيوان، (1/27)
[5] رواه مسلم (71)
[6] رواه مسلم برقم (144)
[7] أبو حامد الغزالي، بداية الهداية، ص66
[8] أحمد بن إبراهيم المعروف بابن النحاس، تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين، ص105
[9] أحمد المرزوقي، تزممارت-الزنزانة رقم 10، ص256
[10] رواه الترمذي برقم (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح
[11] سيد قطب، في ظلال القرآن، (6/259)
[12] تفسير ابن جرير (9/321)
[13] رواه أبو داود، برقم (4832)، والترمذي، برقم (2395)
[14] رواه البخاري في الأدب المفرد، انظر: صحيح الأدب المفرد ص133، باب من سمع بفاحشة فأفشاها
[15] في ظلال القرآن (6/3741)