الكتب والتراجم

الذاكرة العمانية والحضرمية في كتاب الدلائل والحجج

خـــالد بن أحمــد بن صالــح الطوقــي 

كتاب الدلائل والحجج الذي ألفه الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن قيس (ت: الربع الأخير من القرن الخامس الهجري) في شتى أبواب الفقه، واعتنى فيه بجمع أدلة المسائل وحجج الأقوال، وقد ظل هذا الكتاب حبيس الخزائن لمدة قرون متطاولة حتى شاء الله تعالى أن يبزغ نوره عندما صدر سنة 1433هـ/ 2012م بتحقيق الشيخين أحمد بن حمو كروم وعمر بن أحمد بازين، ونستعرض فيما يلي خلاصة الاستقراء، وحصيلة المواد المستخرجة، موزعة على حقول الذاكرة، كل بما يناسبه.

  1. ذاكرة الأحداث والظواهر:

لكتاب الدلائل والحجج قيمة تاريخية بذكره لحوادث وإن كانت قليلة إلا أنها لا توجد في غيره، ومن ذلك ذكره لأحد أئمة حضرموت الذين لم يصلنا من أخبارهم إلا النزر اليسير، فيقول في (ص599) عند ذكره أمثلة على بيعة الدفاع: ” كنحو بيعة أهل النهروان وأهل النخيلة، وبيعة أهل حضرموت لعيسى بن حجرة” وقد ذكر أن ذلك قد حفظه عن القاضي أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس عن جده قيس بن سليمان[1].

كما نقل المؤلف ما عليه العمل في بعض المسائل الفقهية عند أهل حضرموت سواء أكان ذلك مما نقله عن مشايخه أو مما شاهده بنفسه، فمما نقله عن مشايخه عملهم برأي من أباح قطع نخيل البغاة والمعتدين بعد أن نقل الرأي بالكراهية عن بعض أهل عمان، فقال في (ص607): “ومنهم من كره ذلك من أهل عمان وهو الشيخ أبو الحسن، وأما سلفنا بحضرموت فحفظنا أنهم يقطعون نخل من امتنع عنهم“، كما نقل عن شيخه القاضي أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس في (ص98) ما عليه العمل في حضرموت في غسل الميت فقال:  “والذي نرى عليه العمل اليوم بحضرموت أنهم يغسلون الميت ثلاثا”.

ومما شاهده بنفسه ما ذكره عن وقت إخراج زكاة الفطر في (ص302) فقال: “ويستحب أن تخرج غداة الفطر لأنها زكاة، وهذا ما عليه العمل اليوم بحضرموت“، كما ذكر عن أخذهم بقول من رأى بعدم الجلوس في الخطبة فقال في (ص234): “ولم نشاهد مشايخنا بحضرموت يجلسون، ونحن على فعلهم“، وقد ذكر هذا الرأي على  إثر نقله لما شاهده بنفسه عن عمل أهل عمان بالرأي القائل بالجلوس بين الخطبتين، وقبل استعراض ما ذكره يجدر بنا أن نشير بأن المؤلف هاجر إلى عمان لطلب العلم، وبقي بها مدة من الزمان، ومما يحسب لكتابه بأنه نقل فيه أحداثا شاهدها بعمان، وهي تحمل دلالات لا بأس بها لأحوال أهلها السياسية والعلمية والاجتماعية، ومن ذلك ما ذكره في الموضع الآنف الذكر حيث قال في (ص233): “وقد شاهدت بنزوى مع الخليل بن شاذان –أعزه الله- جميعا يخرجون فيها إلى المستغفر وهو الجبان، فيتقدم، فيخطب شيخ يقال له: محمد بن أيوب بعد أن يصلوا ما شاء الله، فرأيته يجلس جلسة خفيفة بين الخطبتين، ولم أرهم ذلك الوقت يصلون الجمعة قصرا في نزوى، والله أعلم من أي وجه تركه، والإمام قائم والدعوة ظاهرة، ولعلهم يفعلون لصلاة الجمعة كذلك في الخطبتين، وذلك بمحضر قاضي القضاة الحسن بن سعيد بن قريش –رحمهم الله- وكثير من أهل المعرفة بنزوى مثل: موسى بن أحمد والحسن بن أحمد والنجاد وغيرهم“، فقد ذكر المؤلف بأن الإمام في عمان هو الخليل بن شاذان، وذكر آراء علمائها المعمول بها في مجموعة من المسائل الفقهية من ذلك: التنفل بركعات كثيرة قبل الخطبة، وأكبر الظن أنه يشير في بداية حديثه إلى صلاة العيد بدليل ذكر خروجهم إلى المستغفر أو الجبان، ومن المسائل –أيضا- الجلوس بين الخطبتين في صلاة العيد، وكذلك عدم إقامة الجمعة في نزوى أخذا برأي من قال بأن الجمعة تقتصر إقامتها في الأمصار الممصرة وفي عمان تقام في صحار بناء على هذا القول.

ومن الأحداث التي نقلها الكتاب خبر مسير الإمام الخليل بن شاذان من الرستاق إلى صحم حيث يقول في (ص217): “وكنا نسير في عسكر سار به الإمام –أعزه الله- الخليل بن شاذان من الرستاق إلى دون صحار، وحللنا موضعا يقال له صحم يزيد على عشرين يوما ما شاء الله“، وفي هذه الحادثة ينقل تصرفا عجيبا لفت نظره فيقول: “فرأيناهم إذا أرادوا الجمع يؤخرون إلى وقت الأخرى رفع منهم من شاء الله صوته وقال: يا أصحابنا إني أريد أن أؤخر صلاتي إلى وقت الأخرى، فسألناهم عن ذلك، فقالوا: من دخلت عليه الصلاة الأخرى ولم ينو تأخيرا لزمته الكفارة“، ويلتزم المؤلف في مواقف أخرى الصمت، فلا يسأل عن سبب بعض هذه التصرفات ومن ذلك ما ذكره في (ص299): ” وكذلك رأيت أهل عمان لا يصلون صلاة المغرب حتى تكثر النجوم، ولم نسألهم عن ذلك، ولعل ذلك لإسباغ الوقت”، وهذا التعليل دليل على سعة علم أبي إسحاق وعمق فهمه، وقد ظهر هذا الأمر في أكثر من موضع عند نقله لمشاهداته في عمان، ومن ذلك ما ذكره عن حالهم مع ركعتي سنة الفجر فقال في (ص248): “وشاهدناهم في عمان يتركون الحديث بينهما وبين صلاة الصبح، فكانوا يجتمعون حتى إذا أراد المقيم أن يقيم الصلاة قام الجميع منهم، فركعوا مرة واحدة ركعتي الفجر، ثم أقام المقيم بالصلاة، وقبل ذلك من دخل المسجد قعد بلا صلاة، كل ذلك يكرهون الكلام بين الركعتين وصلاة المكتوبة”.

كما ذكر حضوره في عسكر الإمام الخليل بن شاذان بنزوى في رمضان من سنة 452ه فقال في (ص298): “وقد شاهدت أبا علي الحسن بن (علي) بن قريش –رحمه الله- بنزوى، وكنا بها في رمضان في عسكر مع الخليل بن شاذان في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فرأيته لا يفطر حتى يظلم الليل وتبين النجوم، ولعل ذلك من كثرة الاحتياط؛ لأنه لا ينكر على من أفطر مع دخول الليل”.

ولا ينسى أبو إسحاق ذكر خبر رجوعهم من عمان إلى حضرموت، ووصية شيخهم لهم، فينقل لنا هذا الموقف قائلا في (ص604): “وكذلك حفظت عن أبي عبدالله محمد بن صلهام وكان من أهل العلم والورع بعمان قال لنا عند منصرفنا من عمان: إذا عقد الإمام البيعة فاحرصوا على كثرة مبايعة الناس للإمام، فإن من بايع لزمه جبره بمصره يسير معه حيث يأمره، وعلى من لا يبايع السمع والطاعة ولا جبر عليهم إلا أن يدهم قتال لزمهم أن يدافعوا عن البلد جميعا“.

  1. ذاكرة الأعلام.

أمدنا كتاب الدلائل والحجج بمعلومات ثمينة عن بعض الأعلام الذين لم نجد لهم ذكرا في غير هذا الكتاب بداية من المؤلف نفسه الذي استطعنا من خلال إشارات مقتضبة أن نقف على ترجمة له لا بأس بها، فهو أبو إسحاق وهذه الكنية اشترك فيها مع اثنين من علماء أسرته الكريمة، الأول هو جده الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن قيس كما أشار إلى ذلك (ص293، ص447، ص567، ص677) والثاني هو ابن عم جده وأشهرهم على الإطلاق عند أهل عمان الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قيس بن سليمان صاحب ديوان السيف النقاد وكتاب مختصر الخصال، ولذا لزم التحري والتدقيق عند الوقوف على ذلك، فاسم أبي إسحاق الحضرمي الذي تشير إليه بعض المصادر يشترك فيه هؤلاء الثلاثة جميعا، كما أمكننا من خلال بعض الإشارات في الكتاب أن نعرف بعضا من مشايخ المؤلف الذين أدركهم، فقد صرح بأنه أدرك جده إبراهيم بن محمد (ص166) فقال: “وقد سمعت الشيخ إبراهيم بن محمد –رحمه الله- يذكر استصحاب النية عند تكبيرة الإحرام، فلا أدري ذكره عن بعض علمائنا المتقدمين –رحمهم الله- أم كان ذلك يعجبه”، وأشار إلى أن له كتابا نقل عنه شيئا من المسائل من ذلك (ص293) قال: “وفي كتاب الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد –رحمه الله-: أنه من قذف محصنة أو شهد زورا أو افترى على الله كذبا وما أشبهه أن عليه قضاء يومه ذلك، والله أعلم”، وكذلك (ص487) قال: “وقد وجدت في كتاب الشيخ إبراهيم بن محمد أن من ذبح بالسنة غير متعدٍّ في ذبيحته أكلت ذبيحته وإن لم يسمِّ”.

إلا أن شيخه الذي أدركه كثيرا، وعرض عليه كتابه قبل أن ينسخه هو القاضي أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس بن سليمان، ويعتبر كتاب الدلائل والحجج مرجعا لآرائه الفقهية، فقد أشار إلى آرائه في مواضع عديدة، فلا يخلو منها باب من أبواب الكتاب، كما أمكننا من خلال الدلائل والحجج أن نقف على بعض من مشايخ القاضي أبي عبدالله وهم: جده قيس بن سليمان وعمه إبراهيم بن محمد كما هو واضح في (ص442) حيث قال: “قال القاضي: قد حفظت عن جدي قيس وعمي إبراهيم بن محمد -رحمة الله عليهما- أن الواطئ في الحيض إذا وطئ تاب واستغفر، وإن عاد تاب واستغفر، فإن عاد تاب واستغفر، فإن عاد في الرابعة حرمت عليه، وأنا أميل إلى هذا القول، والله أعلم”، كما أن القاضي أبا عبدالله قد نقل عن ابن عمه محمد بن إبراهيم بن محمد عن جده قيس، فقال أبو إسحاق في (ص213): “وذكر لي القاضي أنه يحفظ عن محمد بن إبراهيم بن محمد عن الشيخ قيس بن سليمان –رحمه الله- أن الإنسان ما دام لم يجاوز الفرسخين فهو مخيّر إن شاء أتم وإن شاء قصر إذا كان على نية السفر” ومحمد بن إبراهيم بن محمد هو عم المؤلف، فهو أخو أبيه عبدالله بن إبراهيم بن محمد، ومما يثير الانتباه أن المؤلف وشيخه أبا عبدالله لم يشيرا في موضع من المواضع إلى سماعهم المباشر عن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن قيس بن سليمان، وإنما صرح المؤلف بأنه نقل آراءه من كتابه الذي لم يسمه -وأكبر الظن أنه مختصر الخصال- كما نرى ذلك في الصفحات (292، 385، 433، 447، 669)، وممن صرح القاضي أبو عبدالله بالأخذ عنه عالم عماني ورد (ص475): ” “قال القاضي: وحفظت عن محمد بن علي العلقي العماني أنه حفظ عن سعيد بن قريش العماني أن الجارية التي لم تحض تستبرأ ستة وعشرين يوما، والله أعلم” مما يدل على أن القاضي أبا عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس قد هاجر هو الآخر إلى عمان، وتتلمذ على يد الشيخ محمد بن علي العلقي، ولعله هو الذي بويع بالإمامة في الفترة التي أُسر فيها الإمام الخليل بن شاذان.

وبعد أن فرغنا من ذكر مشايخ المؤلف من أهل حضرموت نذكر شيوخه الذين أخذ عنهم من أهل عمان كما أشار إلى ذلك الكتاب، ومن أبرز علماء عمان في الفترة التي جاء فيها أبو إسحاق الشيخ أبو علي الحسن بن سعيد بن قريش، وقد أطلق عليه في (ص233) بأنه قاضي القضاة، وذكر في (ص298) أنه رآه في نزوى في رمضان من سنة 452هـ ” لا يفطر حتى يظلم الليل وتبين النجوم، ولعل ذلك من كثرة الاحتياط؛ لأنه لا ينكر على من أفطر مع دخول الليل”، وقد نقل عنه رأيه في بعض المسائل كما هو في الصفحات (164، 391)، ومن أكثر المشايخ الذين التصق بهم أبو إسحاق، واستفاد من علمهم وهداهم الشيخ أبو عبدالله محمد بن صلهام الذي ذكره في كتابه في أربعة مواقف، ووصفه في اثنين منها (ص250، ص604) بأنه من أهل العلم والورع، ويبدو من خلال استقراء هذه المواقف أن أبا إسحاق قد أقام مع شيخه في مسقط رأسه الرستاق، ففي (ص250) يقول: “وقد شاهدنا أهل عمان وكنا نصلي معهم بالرستاق خلف الشيخ محمد بن صلهام وهو من أهل العلم والورع وهم يؤكدون ركعتي المغرب”، وفي (ص216) يقول: “وكنا بالرستاق وسوني نصلي خلف أبي عبدالله محمد بن صلهام –رحمه الله-، وربما دخلنا المسجد وقد فاتتنا صلاة الظهر، فنقعد حتى إذا أراد أن يقيم أمرنا أن نقوم نصلي صلاة الظهر ركعتين، فإذا سجدنا السجدة الآخرة قام فأقام، فدخلنا معهم في صلاة العصر، وقد نوينا الجمع عند قيامنا للصلاة الأولى”، وعندما حان موعد رجوع أبي إسحاق إلى موطنه كان شيخه أبو عبدالله محمد بن صلهام على رأس المودعين، وقد ذكر ذلك في (ص604): “وكذلك حفظت عن أبي عبدالله محمد بن صلهام وكان من أهل العلم والورع بعمان قال لنا عند منصرفنا من عمان: إذا عقد الإمام البيعة فاحرصوا على كثرة مبايعة الناس للإمام، فإن من بايع لزمه جبره بمصره يسير معه حيث يأمره، وعلى من لا يبايع السمع والطاعة ولا جبر عليهم إلا أن يدهم قتال لزمهم أن يدافعوا عن البلد جميعا”.

ومن مشايخه الذين استفاد منهم القاضي أبو حمزة المختار بن عيسى كما أورد ذلك (ص216) حيث قال: “وسمعت من الشيخ أبي عبدالله محمد بن صلهام والقاضي أبي حمزة المختار بن عيسى وغيرهم ونحن بعمان يقولون: الجمع إحياء للسنة في السفر، ورأيناهم كذلك يفعلون في عمان، من سار منهم إلى بلد وعدا الفرسخين يعتمدون على الجمع”.

وقد أورد أبو إسحاق في (ص233) مجموعة من علماء عمان الذين عاصرهم في فترة وجوده بعمان، وهم: موسى بن أحمد والحسن بن أحمد والنجاد ولعله يقصد القاضي نجاد بن إبراهيم المنحي، كما ذكر الشيخ محمد بن أيوب الذي كان يخطب بنزوى بحضرة الإمام الخليل بن شاذان، فهؤلاء الأعلام يمكن أن يستنتج الباحث إن لم يقف على تاريخ وفاتهم بأنهم كانوا على قيد الحياة سنة 452هـ وهي السنة التي صرح بها أبو إسحاق في (ص298) بأنه كان وقتها بعمان.

كما نقل أبو إسحاق في (ص390) قولا لشخصية عمانية لم تنل حظا من الترجمة وهي مكرم بن عبدالله، ويكفي أن نستفيد من هذه الإشارة بأن هذه الشخصية عاشت في القرن الخامس الهجري أو قبله، وليس كما ورد في معجم أعلام الإباضية بالمشرق بأنها شخصية عاشت في القرن السادس الهجري.

  1. ذاكرة الزمان.

يصادفنا في كتاب الدلائل والحجج نص أوحد ذكر فيه أبو إسحاق التاريخ بتحديد الشهر والسنة، وقد أشرنا إليه سابقا وهو في (ص298) وهو قوله: “وقد شاهدت أبا علي الحسن بن (علي) بن قريش –رحمه الله- بنزوى، وكنا بها في رمضان في عسكر مع الخليل بن شاذان في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة..”، ومن الأمور التي تلفت الانتباه، وينبغي ألا تمر علينا مرور الكرام المدة الزمنية التي ذكرها أبو إسحاق بأنه قضاها في بعض المواضع بعمان، ومن خلال ذلك يمكن أن نقدر مدة بقائه في عمان لطلب العلم، ففي النص الآنف الذكر ذكر بأنه قضى شهر رمضان في نزوى، وفي نص آخر ذكر بأنه شهد في نزوى صلاة العيد ولعلها صلاة عيد الفطر بعد قضائه لشهر رمضان هناك، فقد أورد (ص233): “وقد شاهدت بنزوى مع الخليل بن شاذان –أعزه الله- جميعا يخرجون فيها إلى المستغفر وهو الجبان، فيتقدم، فيخطب شيخ يقال له: محمد بن أيوب بعد أن يصلوا ما شاء الله، فرأيته يجلس جلسة خفيفة بين الخطبتين..”، وفي نص آخر (ص217) ذكر مدة بقائه بصحم فقال: “وكنا نسير في عسكر سار به الإمام –أعزه الله- الخليل بن شاذان من الرستاق إلى دون صحار، وحللنا موضعا يقال له صحم يزيد على عشرين يوما ما شاء الله..”، فهذه المدة التي صرح بها أبو إسحاق في هذه النصوص قدر شهرين، فما بالكم بالمدة التي قضاها مع شيخه أبي عبدالله محمد بن صلهام بالرستاق، والتي ينبغي أن تكون مدة ليست قليلة كونها في طلب العلم.

ومن تعبيرات الزمان التي نجدها عند أبي إسحاق قوله في المقدمة (ص58): “وقد عرضته من قبل أن أنسخه في هذا الكتاب على القاضي أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس بن سليمان –رحمه الله-، وكان ذلك في أيام دهش وشغل” مما يوحي بأن الوضع في حضرموت كان على صفيح ساخن بسبب الاضطرابات السياسية، ولذا كان أبو إسحاق يؤكد سبب الإيجاز وعدم الإطالة في عدة مواضع من كتابه من نحو قوله (ص58): “ولولا ما أرجوه من الاشتغال بالقيام لزدت فيه”، وقوله (ص323): “والشرح في مثل هذا يطول، غير أنا كتبنا هذا الكتاب في وقت لا يمكن فيه إلا ما قد ذكرناه، والله الموفق للصواب”. وقوله (ص392): “قد ذكرت دلائل في المواريث وتركت شرحها لأنه يطول ولم أكن متمكنا من ذلك”.

ويمكن أن نلحق بهذا الحقل ما ذكره عن عمل أهل حضرموت في زمانه من نحو قوله في (ص98): “قال القاضي: .. والذي نرى عليه العمل اليوم بحضرموت أنهم يغسلون الميت ثلاثا”، وقوله في (ص302): “ويستحب أن تخرج غداة الفطر لأنها زكاة، وهذا ما عليه العمل اليوم بحضرموت”.

  1. ذاكرة المكان.

كانت بلدان عمان حاضرة في كتاب الدلائل والحجج أكثر من بلدان حضرموت مسقط رأس المؤلف، ويعود السبب في ذلك إلى اعتماده على ما نقله من المصادر العمانية أو ما شاهده من شيوخه في أيام رحلته لطلب العلم، وهو بكل حال قد أوضح بكل صراحة عن أقدمية أهل عمان وسبقهم في العلم حيث قال (ص669): “وكذلك وجدت في الأثر عن مشايخنا بعمان: أن العبد إن ارتد شُدّ عليه، فإن ارتدع وإلا بيع في الأعراب، وفيما أحسب –رحمهم الله- مجمعون أنه يقطع إذا سرق، وقد وجدت ذلك في سيرة ابن محبوب إلى أهل المغرب، وهم –رحمهم الله- أفضل منا وأقدم وأعلم بدين الله وأحكم“.

ومن الإشارات النادرة الواردة في الكتاب ذكره (ص217) لبلدة صحم، ووصفه لها بأنها دون صحار للقادم من الرستاق، كما ذكر (ص216) سوني التي عُرفت فيما بعد بالعوابي، فقال: “وكنا بالرستاق وسوني نصلي خلف أبي عبدالله محمد بن صلهام –رحمه الله-..”، ولا يخفى ذكره للرستاق (ص216، 217، 250) حيث محل دراسته مع شيوخه، ومن الإشارات الموحية بأن نزوى كانت عاصمة لدولة الإمام الخليل بن شاذان ما ذكره أبو إسحاق (ص233) عن شهوده لصلاة العيد مع الإمام في نزوى، وتعجبه من عدم إقامة صلاة الجمعة بها مع قيام الإمامة العادلة.

ولكون أبي إسحاق من حضرموت فإنه عند ضربه الأمثلة في شيء من المسائل الفقهية أورد (ص577) بلدتي صنعاء ومأرب فقال: “وأما في الجمّال والقول في الكراء: كم هو درهم؟ قول رب المال، والقول في حد الموضع الذي يحمل إليه فقول الجمّال، مثل أن يقول صاحب المال: عاملتك أن تحمل إلى صنعاء بعشرة دنانير، فقال الجمال: بل كاريتك إلى مأرب بعشرة، فالقول في الدنانير قول رب المال، والقول في الموضع قول الجمال، فإن حلفا جميعا كان الحمل إلى مأرب وحط من الكراء بقدر مسافة ما بين مأرب وصنعاء على حساب ذلك”.

  1. ذاكرة المصطلحات والمفاهيم.

بما أن كتاب الدلائل والحجج كتاب فقهي، فمن البدهي أن يضم الكثير من المصطلحات الفقهية الشائعة في الكتب الفقهية، ولم ينفرد الكتاب بمصطلح إلا ما استوقفني (ص110) فقال: “ومحاضة اللحم قد قيل: لا بأس بها بعد غسل المذبح قياسا على الدمين المحللين”، ولم أقف على معنى محاضة اللحم في كتب اللغة أو الأثر، ويبدو أن ذلك من خطأ النساخ، ومما يؤكد ذلك أن أبا الحسن البسيوي أورد هذا المصطلح في جامعه فقال: “وما أصاب الثياب من الدم نجّسها إلا ما كان من دم الكبد ووخاضة اللحم من غير العروق..”، وقد تتبعت هذا المصطلح –أيضا- فيما بين يدي من مصادر، فلم أقف على معناه إلا ما أورده محقق جامع البسيوي، فعرفه بأنه الدم الخارج من غير عروق اللحم بالطعن فيه، والله أعلم[2].

ومن المصطلحات الواردة أيضا في الكتاب ما أورده في (ص233) عند تفسيره لمصطلح المستغفر، وقد عرفه بأنه هو الجبّان، ولم يزد على ذلك؛ تعويلا على فهم القارئ لمعنى الجبّان.

  1. ذاكرة ألفاظ الحضارة.

لا غرو إن لم نقف على ألفاظ كثيرة في هذا الحقل كون محتوى هذا الكتاب فقهي، ويُعنى بسوق الأحاديث النبوية في الأساس، ثم نقل الأقوال الواردة في الأثر، ومع ذلك فهناك ألفاظ يبدو أنها كانت متداولة في عصر أبي إسحاق، فمن الألفاظ التي لها علاقة بالملبس “الإبريسم” وهو نوع من أنواع الحرير، وقد ورد (ص154) حين قال: “ففي الأثر أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بالحرير ولا الإبريسم”، ويذكر أبو إسحاق (ص458) من متعلقات السكن “تنور وحطب وآنية..”.

ومن لطيف ما يمكن استنتاجه أن هناك ألفاظا عمانية وجدت طريقها إلى حضرموت دون الحاجة إلى شرح إلا فيما ندر كقوله (ص575): “”وعن موسى بن علي في مزارعة طوي –يعني: البئر-..”، ومن هذه الألفاظ: الهد (ص399) بمعنى التهديد، وتريكة (ص429) بمعنى أرملة، ويهدف (ص643) بمعنى يُرمى به، ولعلها هي ألفاظ مشتركة في المعنى عند أهل عمان وحضرموت، والله أعلم.

ومما هو داخل في ألفاظ الحضارة من حياة الناس الاقتصادية: المكاييل، وقد ورد (ص383) في مقدار الإطعام في كفارة اليمين المرسلة: “وقال بعض علمائنا: يعطي مكيالي ذرة طيبة بمد حضرموت“، ولم يبين مقدار المد الحضرمي.

  1. ذاكرة العلوم والمعارف.

يمتاز كتاب الدلائل والحجج عن غيره من الكتب الفقهية المعاصرة له باتباعه للمنهج الذي سارت عليه كتب أحاديث الأحكام، فيورد في بداية كل مسألة الأحاديث النبوية التي اعتمد عليها الأئمة قبله، وهذا ما أوضحه في مقدمة الكتاب (ص58) حيث قال: “ولم أكتب من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسنته إلا ما رأيتهم –رحمهم الله- يعتمدون على صحته”، ويقف أحيانا عند بعض الأحاديث بذكر وجه استشهاد الفقهاء لأقوالهم، ويورد الخلاف إن كان ثمة خلاف في المسألة بإيجاز مفيد، ومن حسن أدبه أنه عندما كان لا يقف على شيء من الأحاديث في المسألة فإنه يتهم نفسه، فيقول مثلا (ص169): “لم أجد في آثارهم في الاستعاذة خبرا منصوصا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولعله غاب عني“، ويقول (ص274): “وأما البقر فلم أجد فيها خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نظرت من آثارهم، وعسى أنه لا يخلو من خبر وغاب عني“.

وقد أكثر أبو إسحاق من سوقه لرأي عالمين في مسائل كثيرة في كتابه، الأول: كان ينقل من كتابه الجامع وهو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد البسيوي، والآخر: ينقل رأيه مباشرة وهو القاضي أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن قيس، وبدرجة أقل كان ينقل من جامع ابن بركة وجامع أبي الحواري وكتاب إبراهيم بن قيس، ولكن مما يحسب للدلائل والحجج أنه نقل لنا من كتب مفقودة حتى الآن من ذلك كتاب أبي المؤثر الصلت بن خميس، وكتاب جده إبراهيم بن محمد بن سليمان.

ومما يثير الإعجاب أمانة أبي إسحاق العلمية في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولا غضاضة عنده بالتصريح بنسيانه نسبة القول إلى صاحبه كما نجد ذلك (ص164) حيث قال: “وحفظت عن القاضي الحسن بن سعيد بن قريش –رحمه الله- أنه يحفظ عن بعض المتقدمين من أئمتنا –والله أعلم قد غاب عني اسمه- …”.

وقد كان موفقا في استعراضه لجميع الأبواب الفقهية واستقصائه لأبرز المسائل الفرعية بأسلوب سهل واضح وبإيجاز مفيد.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] ذكر الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قيس بن سليمان شخصية عيسى بن حجوة (بالواو) في ديوانه السيف النقاد، وقد ذكره هو وآله بالفضل والديانة والشجاعة والقيام بالعدل في قصيدة من (33) بيتا، وفيها يقول:

عيسى ابن حجوة هم أبناؤه وبه         قِدْما وتِركة موسى قامت الدول

هموا فما لبثوا قاموا فما مكثوا          آلوا فما نكثوا عادوا فما نكلوا

لا تبتئس لخزان المال أنفسهم           كلا وكيف وللأرواح قد بذلوا

ينظر: الحضرمي؛ إبراهيم بن قيس، ديوان الإمام الحضرمي (السيف النقاد)، تحقيق: بدر بن هلال اليحمدي، شركة المعالم للإعلام والنشر. مسقط، 1423هـ/2002م، ص356.

[2] البسيوي؛ أبو الحسن علي بن محمد، جامع أبي الحسن البسيوي، دراسة وتحقيق: الحاج سليمان بن إبراهيم بابزيز وداود بن عمر بابزيز، د.ن، د.ت، د.ط، ج2، ص879.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 2.85 ( 2 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى