القرآن وعلومه

الدلالة الصوتية لبعض الكلمات القرآنية: أول سورة الزلزلة أنموذجا

سعيد بن سالم بن سعيد آل ثاني

الأصوات العربية هي المكوّنة للكلمة العربية بما يحتويه كل صوت من صفات خاصة به تميزه عن غيره، أو تعطيه جرسا تحسينيا به تعيدنا إلى الحالات الشعورية واللاشعورية التي تتضمنها تلك الصفات أو تدل عليها، فمن حسن صياغة الكلمة العربية نستطيع أن نستوحي دلالتها بما يطابق أصداءها، وخاصة إذا تكلمنا عن كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي عجز العرب أن يأتوا بمثله؛ فقد وُضِعَ كل صوت لغوي في مكانه دون أن يخل بنظام الكتاب العزيز، فالقرآن الكريم استوعب كل مظاهر الدلالة وعبر عنها بصور مختلفة “حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح، ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظ القرآن الكريم”[1].

وقد اخترت لدراسة هذا الموضوع وهو الدلالة الصوتية لبعض الأصوات القرآنية أول سورة الزلزلة، واخترت كلمة (زلزلت، وأخرجت) أنموذجا لذلك، والمنهج المناسب لهذا الموضوع هو المنهج الوصفي التحليلي، حيث أقوم برصد الظاهرة الصوتية ثم أُبَيِّن ما تدل عليه صفات كل صوت، وفي الغالب تكون تلك الدلالة مستمدة من طبيعة الأصوات، وقد يرى بعض القراء في تحليل بعض الأصوات غرابة أو تحميل للصوت والمعنى ما لا يحتملانه، فلينظر فيه ولا يؤخذ إلا بما يصح منه، فما كان من صواب فمن الله وحده.

تعرف الدلالة الصوتية بأنها الدلالة التي تُستمد من طبيعة الأصوات في الكلمات اللغوية؛ فالدلالة الصوتية للألفاظ تشكل في القرآن الكريم الواقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة؛ فشكلت أصواتا مختارة، ولم تأت الأصوات إلا لتؤدي غرضا ووظيفة[2] ، فكل صوت من الأصوات العربية حدد له العلماء صفات معينة يتصف بها لا تفارقه ويعبر عنها بالصفات اللازمة للحرف.

وفي هذا السياق نذكر تحليلا لكلمتي زلزلت وأخرجت في قوله تعالى: “إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها”.

زلزلت فعل ماض مبني على الفتح مبني على ما لم يسمّ فاعله، والتاء تاء التأنيث حركت بالكسر منعا للاتقاء الساكنين، وبُني الفعل على ما لم يسم فاعله لدلالة الحدث، فيبنى الفعل على ما لم يسم فاعله في أحوال منها؛ أن الفاعل معلوم ولا داعي لذكره، وسيُعرف مع عدم ذكره، فالإنسان عند حدوث هذه الظاهرة العنيفة يكون شارد الذهن مشتت الانتباه والفكر فهو على غير بينة من أمره إلى أن يعود إلى وعيه ورشده، فيعلم بحقيقة الأمر، وأن هذا بقدرة الله تعالى الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون؛ فإنما أمره بين الكاف والنون فيظهر الانسجام بين اللفظ والمعنى. والله أعلم.

حركة التاء في كلمة “زلزلتِ الأرض” جاءت لتناسب المشهد؛ فالأصل أن التاء ساكنة فهي تاء تأنيث مبنية على السكون، ولكن هنا بسبب التقاء الساكنين وهما حرف التاء وحرف اللام الساكنة من كلمة الأرض حُركت التاء بالكسر؛ فالعلاقة بين الصوت الذائب – الكسر- ودلالته على الحدث ظاهرة بارزة فكما حدث وكسرت التاء بسبب التقاء الساكنين ولم تبق على أصلها؛ كسرت الأرض بما حدث لها وأصابها من قوة الزلزال، وما نتج عنه من تشقق وتصدُّع وتغيَّرت عن الأصل الذي كانت عليه.

حركة الذوائب في كلمة “زُلزِلَتِ” فالحركات التي شُكلت منها هذه الكلمة تبدأ بضم الشفتين، ثم رجع الشفتين إلى الوضع الطبيعي، ثم كسر الشفتين، ثم فتح الشفتين، ثم كسر الشفتين بحركة التاء وصلا يُبيِّن ما يؤديه الصوت اللغوي من معاني وإيحاءات؛ فهذه الحركات المختلفة للكلمة وعدم استقرار الشفتين في وضع واحد عند النطق بها، وكذلك تحركت الأرض عند الزلزال وعدم استقرارها بحالة واحدة يكشف عن القيمة الصوتية والدلالة المستوحاة من ترتيب الأصوات الذائبة بهذه الكيفية فسبحان المبدع الخالق.

ونلاحظ كذلك بأنه لا يوجد فاصل في النطق بين صوت الزاي الأولى وصوت اللام عند تحليلها صوتيا، كما لا يوجد فاصل زمني كبير بين وقوع الزلزال والانحراف الذي يحدث بعد ذلك؛ فيدل على سرعة حدوث الأمر بدون فاصل وإنما هي هزة سريعة تخطف الأنظار وتُفَطِّر القلوب.

تتحدث سورة الزلزلة عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة حيث يندك كل صرح شامخ، وينهار كل جبل راسخ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ما يندهش له الإنسان كإخراج الأرض ما فيها من موتى وإلقائها ما في بطنها من كنوز ثمينة من ذهب وفضة، وزلزلت أي حركت تحريكا عنيفا[3].

وجاء في تفسير الآية أيضا إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها أي إذا رُجَّت الأرض رجّا شديدا فاضطربت بحركة عنيفة؛ فأخرجت ما في باطنها من موتى وكنوز[4].

ولننظر الآن إلى دلالة صفات الحروف على المعنى، أو المعاني المستفادة من نطق أصوات كلمة زلزلت وأخرجت، فنلاحظ تكرارا لحرفي الزاي واللام في الفعل  زلزلت فتكرار الحرف يعطي اللفظ أبعادا تدل على الحالة النفسية التي يكون عليها البشر، ويكسب اللفظ تأثيرا أقوى على القارئ والسامع، فهذان الحرفان يتفقان في  صفات الجهر والاستفال والانفتاح، والجهر هو انقطاع النفس عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على المخرج، وهذا يحدث في لحظة من لحظات وقوع الزلزال فترى الأنفس منقطعة الصوت لقوة وشدة الأمر، ومن ناحية أخرى يعرف علماء الصوت المحدثون الجهر بأنه اهتزاز الأوتار الصوتية عند النطق بالحرف، ويمكنك معرفة ذلك بوضع راحة يديك على أذنك مع نطق حرف الزاي مكررا فتسمع دويا ناتجا من اهتزاز الأوتار الصوتية، وهذا هو الحادث في الأمر من انقطاع للنفس مع اهتزاز للمكان الذي تولد فيه الزلزال.

وأما صفتا الاستفال والانفتاح فدلالتها على الحدث واضحة ظاهرة من تسفل وانخفاض وانفتاح حادث من أثر الزلزال فكأنما سِيقت الحروف بأصواتها الملازمة لها لتدل على الحدث الواقع وما ينشأ عنه بعد ذلك كما مر في تفسير الآية.

ولننظر إلى الصفات التي يتصف بها كل حرف ولم يشارك فيها الآخر، وهي الرخاوة للزاي والتوسط للام، فالرخاوة هي جريان الصوت عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج، والتوسط هو اعتدال جريان الصوت عند النطق بالحرف[5] وهذا مناسب لبداية الحدث وما يتصف به صوت الزاي؛ فالأصوات ترتفع بشدة من كل ناحية في بداية الحدث، ولكن بعد فترة وجيزة ونحن نتقدم إلى صوت اللام يحدث للصوت أمر آخر وهو المناسب لصفة التوسط التي يتصف بها اللام؛ فالصوت بعد علوه في الزاي وجريانه بشدة يبدأ بالتخافت في اللام فلا يجري مثل الزاي ولا ينقطع نهائيا، فهو بين بين أي بين من يصرخ لشدة هول المنظر، ومن يقف لينظر في الأمر الحاصل لعله يفعل شيئا وصوته متوسط النطق من شدة ما يشاهد من منظر تقشعر له الأبدان، ومن صوت كان يصرخ بشدة، ومن صوت متوسط يغلب عليه الأنين لصعوبة النطق بصوت شديد.

ولو نظرنا إلى الصفات التي لا ضد لها ويتصف بها الحرفان (الزاي، واللام) وهما الصفير للزاي، والانحراف للام لنبين علاقة صفة الصفير والانحراف بالمعنى؛ فالصفير كما وصفه الطحان: “حدة الصوت كالصوت الخارج عن ضغط ثقب”[6]، وعلل مكي تسميتها بذلك فقال: “وإنما سميت بحروف الصفير لصوت يخرج عند النطق بها يُشبه الصفير، فالصفير من علامات قوة الحرف[7]“، ووصف سيبويه اللام بأنه حرف منحرف[8]، وعلل القرطبي انحراف اللام فقال: “لأن اللام ينحرف فيه الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما على الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما[9]“.

وبالنظر إلى هذه الصفات وما تحمله من معنى ودلالة وما يحدث في الزلزال كما ذكره علماء الزلازل “تتصادم القشرة الأرضية وتُضغط، وفي بعض الحالات يكون الضغط شديدا فتُزاح القشرة عن مثيلتِها فيحدث الزلزال[10]“، نلاحظ انطباق دلالة الصفات بالحدث من صفير يخرج عند النطق بالحرف وصفير يخرج من وقع الزلزال وصفير يصدر من البشر.

ومن دلالة صفة الانحراف التي في اللام، والتي بانحرافها عن مخرجها اتصلت بمخرج غيرها، وعن صفتها إلى صفة غيرها؛ دلالة واضحة على الانحراف الذي يحصل عند وقوع الزلزال من تغير في المكان، فينتقل جزء من المكان إلى موضع آخر، وتتغير الصفة التي كان يتصف بها الموقع إلى صفة أخرى.

انتهت الكلمة بحرف التاء وهو حرف شديد مهموس يبدأ نطقه كما يذكر علماء التجويد بالشدة، وينتهي بالهمس، والشدة هي انقطاع جريان الصوت عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على المخرج، والهمس هو الخفاء وهو جريان للنفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج[11]؛ فكأنما هذا الصوت في نهاية لفظ زلزلت يلخص المشهد ويختصره فالأمر بدا بشدة مع انقطاع للأصوات، واتنهى بهمس وخفاء وجريان للنفس مع مرحلة صعبة مرت على الإنسان مع ما يتصف به الصوت من انفتاح واستفال، وهذه الصفات دالة على ما يكون بعد الحدث.

بقي أن أشير إلى أمر أخير في كلمة أخرجت وهو ما اتصف به حرف الخاء الساكنة، وما يدل عليه من معنى يتناسب مع الحدث؛ فحرف الخاء يخرج من أدنى الحلق[12]، والمعنى كما ذكر سابقا فأخرجت الأرض ما في باطنها من موتى وكنوز، وما يؤديه هذا الصوت اللغوي من معاني وإيحاءات جمالية وفنية، هو ما نجده يتشابه مع ما يفعله الإنسان عندما يريد إخراج ما علق في صدره فيستعمل صوت الخاء الساكنة (إِخ أو أَخ) فيخرج ما علق في صدره ليتخلص منه، وكذلك المعنى عندما تخرج الأرض ما في بطنها من أثقال لتتخلص منها؛ فكأنما هذا الصوت اللغوي بما يحمله من صفات يشكل له ملامح موحية بما يطابق صداها ويستوحي دلالتها.

وما هذا الزلازل التي تحدث في الحياة الدنيا إلا نماذج محدودة ومصغرة من الزلزال العظيم والكبير والأخير.

لتحمــيل المقال اضغــط هنا


[1] – بيان إعجاز القرآن، الخطابي أحمد بن محمد، تحقيق محمد زغلوا و محمد علاف، دار المعارف، ص24

[2] – الصفات التي لا ضد لها ودلالتها الصوتية في الخطاب القرآني، امحمد فراكيس، المجلد الخامس، العدد 10، العربية، تاريخ النشر 15/9/2018

[3] – صفوة التفاسير، الصابوني، محمد بن علي، دار الصابوني القاهرة، الطبعة العاشرة، ج3، ص569

[4] – نزهة المؤمنين في تفسير الجزء الثلاثين، البوسعيدي، سالم بن سعيد، مكتبة الأنفال، الطبعة الثانية،1429هـ/ 2008م، ص281

[5] – الرعاية، القيسي، مكي بن أبي طالب، تحقيق، أحمد حسن فرحات، دار عمار، الأردن، الطبعة السادسة، 1432هـ/2011م

[6] – نقلا من كتاب الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، الحمد غانم قدوري، دار عمار الأردن،1430هـ/ 2009م، الطبعة الثالثة، ص268

[7] – الرعاية، القيسي، مكي بن أبي طالب، تحقيق، أحمد حسن فرحات، دار عمار، الأردن، الطبعة السادسة، 1432هـ/2011م، ص124

[8] – الكتاب، سيبويه، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دار الكتاب العربي القاهرة،ص435

[9] – الموضح، القرطبي، أبو القاسم عبدالوهاب بن محمد، دار عمار الردن، ص157

[10] – موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة، النابلسي، محمد راتب، الفرسان للنشر والتوزيع الأردن، الطبعة الأولى،1435هـ /2014م، ص130

[11] –  الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، الحمد غانم قدوري، دار عمار الأردن،1430هـ/ 2009م، الطبعة الثالثة، ص128

[12] –  الرعاية، القيسي، مكي بن أبي طالب، تحقيق، أحمد حسن فرحات، دار عمار، الأردن، الطبعة السادسة، 1432هـ/2011م،  ص168

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.25 ( 3 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى