تخصيـص عـام القـرآن بخبـر الآحـاد

داود بن سليم بن سليّم الحبسي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
فإن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع ويليه في المرتبة الثانية السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهما مصدران متكاملان فكما يرد كل واحد منهما مستقلا بالتشريع قد يأتي أحدهما مبينا للآخر أو ناسخا له أو مخصصا له.
ومما لا يمكن لأحد أن يماري فيه الأهمية الكبيرة لمعرفة حالات التكامل بين القرآن والسنة من بيان أحدهما للآخر أو نسخه أو تخصيصه ومعرفة آراء العلماء فيما يتعلق بذلك من أحكام ومعرفة سبب اختلافهم وما لذلك من أثر في الاختلاف في الفروع والفتاوى.
فمن هنا كان اختيار موضوع تخصيص عام القرآن الكريم بخبر الآحاد وآثاره الفقهية محلا للبحث ذا أهمية لمعرفة آراء العلماء في ذلك وما ترتب على تباين وجهات نظرهم من آثار.
تمهيد
قبل الخوض في غمار بحث المسألة موضوع البحث يجدر بنا أن نمهد بذكر تعريفات لمصطلحات تتعلق بالمسألة، وتوضيح لبعض الأمور التي لا تتضح المسألة بدون توضيحها.
تعريف العام والخاص والتخصيص
- العام لغة: الشامل، والعموم الشمول، يقال: هذا الكساء يعم من تحته، أي: يشملهم.
واصطلاحا: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.
خرج بقيد ” المستغرق لجميع أفراده ” مالا يتناول إلا واحداً كالعلم، والنكرة في سياق الإثبات كقوله تعالى: ﴿فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ ﴾ [النساء: 92] لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول وإنما تتناول واحداً غير معين.
وخرج بقولنا: ” بلا حصر ” ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد مئة وألف ونحوهما.[1]
- وأما الخاص فهو لغة ضد العام، فهو بمعنى المنفرد من قولهم اختص فلان بكذا أي انفرد به.
واصطلاحا: هو (اللفظ الموضوع لواحد ولو بالنوع، أو لمتعدد محصور) فاللفظ جنس، و”الموضوع” قيد مخرج المهمل الذي لم يوضع لشيء). أي أن وضعه هنا كقيد تحسبا لمن عرف الخاص بأنه: (ما ليس بعام) فاعترض عليه بدخول المهمل فيه فهو ليس بعام ولا خاص.
واحترز بقيد “ولواحد” من العام و “ولو بالنوع” قيد لإدخال المطلق والنكرة في الإثبات لأنهما من الخاص باعتبار وحدة النوع، وقولنا ” أو لمتعدد محصور” قيد ليشمل التعريف أسماء الأعداد والمثنى المنكر لأنها وضعت لأكثر من واحد مع الحصر.[2]
- وأما التخصيص فمعناه عند الجمهور قصر العام على بعض أفراده، بدليل مستقل أو غير مستقل، مقارن أو غير مقارن.
وهو عند الحنفية قصر العام على بعض أفراده، بدليل مستقل مقارن.[3]
والمراد بالمخصص المستقل ما لا يكون جزءًا من النص العام الذي ورد به اللفظ، ويسمى أيضًا مخصصًا منفصلًا، كقوله تعالى ﵟوَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ ﵞ [البقرة: 228] مخصص بقوله تعالى ﵟوَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ ﵞ [الطلاق: 4] وغير المستقل هو ما لا يستقل بنفسه، بل يكون جزءًا من النص المشتمل على العام كالاستثناء والصفة والشرط، ويسمى مخصصًا متصلًا كقوله تعالى ﵟوَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ ﵞ [النساء: 12].[4]
والمراد بالمخصص المقارن هو الدليل الخاص الذي ورد في نفس زمن ورود الدليل العام.
وبالتأمل في معنى التخصيص عند الجمهور وعند الحنفية يتبين أن الحنفية يشترطون في المخصص شرطين:
- أن يكون المخصص مستقلا في المعنى؛ بحيث يكون نصاً مفيداً تام المعنى في ذاته.
- أن يكون مقارناً للعام في زمن تشريعه[5]، وأما غير المقارن للعام، وهو المتأخر عنه فيسمى نسخًا ضمنيًّا أو جزئيًّا[6].
والمخصصات عند الجمهور نوعان:
- مخصصات متصلة كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض.
- مخصصات مستقلة كالحس والعقل والعادة والنص.
وأما المخصصات عند الحنفية فهي المخصصات المستقلة فقط أما غير المستقل كالشرط والاستثناء فيسمى عندهم قصرًا للعام لا تخصيصًا.[7]
تعريف المتواتر والآحاد
- تعريف الخبر المتواتر:
لغة: التَّواتُرُ: التَّتابُعُ، أو مَعَ فَتَراتٍ. وواتَرَ بين أخبارِهِ ووَاتَرَهُ مُواتَرَةً ووِتاراً: تابَعَ، أو لا تكونُ المُواتَرَةُ بين الأشياءِ إلا إذا وقَعَتْ بينها فَتْرَةٌ، وإلا فهي مُدَارَكَةٌ ومُواصَلَةٌ.[8]
واصطلاحا: هو ما رواه جماعة لا يمكن تواطؤ مثلهم على الكذب عادة عن جماعة مثلهم حتى ينتهي به النقل كذلك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.[9]
وحكم المتواتر القطع بصدقه فلذا يفيد العلم الضروري فينبني على ذلك أنه يحتج به في مسائل الاعتقاد والعمل ويفسق من خالفه.[10]
- تعريف الخبر المشهور:
وهو ما رواه عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، ورواه عنهم جمع مثله، أي: إن الحديث المشهور كان آحاديًّا في الطبقة الأولى من رواته، ثم تواتر في الطبقة الثانية والثالثة.[11]
- تعريف خبر الآحاد:
وهو ما رواه عن رسول الله شخص أو اثنان أو عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء مثلهم وهكذا حتى وصل الحديث إلى عصر التدوين فاشتهر، ويمثل هذا القسم الغالبية العظمى من السنة.
وحكمه: أنه يفيد غالبية الظن من حيث وروده عن رسول الله متى توافرت فيه شروط الراوي التي وضعها علماء الحديث كالثقة والعدالة والضبط، وغير ذلك، ولكنه يجب العمل به مع الشك في ثبوته.[12]
ويقصد بالشك في ورود خبر الآحاد عدم القطع بوروده كالخبر المتواتر، وليس معناه التردد في قبوله بل لا يجوز رده إذا غلب على ظننا ثبوته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول:
تأصيل المسألة وتحرير محل النزاع
المطلب الأول/ تأصيل المسألة
القول في مسألة حكم تخصيص عام القرآن الكريم بخبر الآحاد منبن على الكلام في دلالة العام على أفراده من حيث الاستغراق وعدمه ومن حيث القطعية والظنية وهذا ما سنسلط عليه الضوء في الفرعين القادمين بإذن الله.
الفرع الأول/ دلالة العام على أفراده من حيث الاستغراق وعدمه
العام إن ورد اختلف العلماء في الحكم بدلالته على كافة مدلولاته إلى ثلاثة أقوال:
- القول الأول: التوقف في حكمه حتى ورود البيان بمدلوله كالمشترك والمجمل وقال بهذا القول جمهور الأشاعرة وسموا بالواقفية.
- القول الثاني: الجزم في أقل ما يدل عليه اللفظ كالواحد في الجنس والثلاثة في الجمع والتوقف فيما فوق ذلك، وسمي هؤلاء أرباب الخصوص.
- القول الثالث: إثبات الحكم في جميع ما يتناوله العام من الأفراد وهو قول الجمهور وسمي هؤلاء أرباب العموم.[13]
ومع اتفاق الجمهور -كما رأيت- على إثبات حكم العام على كافة مدلولاته إلا أنهم اختلفوا في هذا الإثبات هل هو قطعي أم ظني.
الفرع الثاني/ دلالة العام على أفراده من حيث القطعية والظنية
اختلف العلماء في حكم دلالة هذا العام على مدلولاته من حيث القطعية والظنية إلى مذهبين:
- القول الأول: دلالة العام على أقل ما يطلق عليه قطعية كالثلاثة في الجمع والواحد في الجنس، وما زاد عن ذلك فدلالته عليه ظنية، قال الجويني: “وأما الفقهاء فقد قال جماهيرهم الصيغ الموضوعة للجميع نصوص في الأقل وظواهر فيما زاد عليه لا يزال اقتضاؤها في الأقل بمسالك التأويل وهي فيما عدا الأقل ظاهرة مؤولة”[14].
واستدل الجمهور لمذهبهم بالآتي:
- التخصيص في العموم أمر شائع حتى قيل ما من عموم إلا وقد خصص إلا قوله تعالى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ﴾ (البقرة 29) فإذا كان كذلك فالعموم محتمل للتخصيص أينما وجد فدلالة العام على كل أفراده ظنية لاحتمال أن يكون أي واحد منها قد خصص[15].
- يصح إخراج بعض أفراد العام بالاستثناء وبعضها بالإجماع، ولو كانت دلالته على أفراده قطعية لم يصح ذلك، كما لو نص على فرد ثم استثناه لم يصح فكما لا يصح الاستثناء في قولك (جاء زيد وعمرو إلا زيدا) باتفاق لأجل النص كان يلزم ألا يصح ذلك في (جاء الطلاب إلا زيدا) إذا جعلنا دلالة لفظ الطلاب قطعية كدلالة زيد وعمرو على مدلولاتها، ولأجل ذلك تبين الفرق بين دلالة العام ودلالة الخاص[16].
- القول الثاني: دلالة العام على مدلولاته قطعية، وهذا قول الحنفية -عدا مشايخ سمرقند منهم فإنهم يوافقون الجمهور- قال صاحب تقويم الأدلة وهو حنفي المذهب: “وقال علماؤنا رحمهم الله: العام يوجب الحكم بعمومه قطعاً وإحاطة، بمنزلة الخاص، أمراً كان أو نهياً أو خبراً. إلا عاماً يمتنع القول بعمومه لكون المحل غير قابل له”[17].
واستدل الحنفية لمذهبهم بالآتي:
- ” المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ والحقيقة مَا كَانَت الصِّيغَة مَوْضُوعَة لَهُ لُغَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لمقصود الْعُمُوم فَكَانَت حَقِيقَة فِيهَا وَحَقِيقَة الشَّيْء ثَابت بِثُبُوتِهِ قطعا مَا لم يقم الدَّلِيل على مجازه كَمَا فِي لفظ الْخَاص فَإِن مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ يكون ثَابتا بِهِ قطعا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على صرفه إِلَى الْمجَاز”[18].
- خاطب الشارع المكلفين بلسان العرب وإنما يفهم من خطاب الشرع ما يفهم من خطاب الناس بعضهم لبعض؛ ومن قال لغيره (أعط هذه المائة الدرهم لهؤلاء بالسوية) وهم مائة رجل علمنا قطعا أنه بمنزلة قوله (أعط كل واحد منهم درهما) ومن قال لغيره (لا تعتق عبدي سالما) ثم قال له (أعتق عبيدي البيض كلهم) وكان سالم أبيض عد المأمور ممتثلا قطعا إن أعتق سالما معهم، فالعام والخاص استويا في الدلالة[19].
المطلب الثاني/ تحرير محل النزاع
تخصيص عام القرآن الكريم يكون بواحدة من الطرق الآتية:
- تخصيص عام القرآن بالقرآن، كتخصيص قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ ﴾[البقرة: 228] بقوله تعالى ﴿وَأُو۟لَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ ﴾ [الطلاق: 4] فالآية الأولى عامة في كل مطلقة والآية الثانية خاصة في ذوات الأحمال.
- تخصيص عام القرآن بالحديث المتواتر.
- تخصيص عام القرآن بالحديث المشهور والمشهور أعلى رتبة من حديث الآحاد فهو ” ما كان وسطه وآخره على حد المتواتر وأوله على حد خبر الواحد”[20] فالقائلون بجواز تخصيص عام القرآن بخبر الواحد يجيزون -من باب أولى- تخصيصه بالحديث المشهور، وأما المانعون من تخصيص عام القرآن بخبر الواحد -وهم الحنفية- فإنهم يلحقون الحديث المشهور في كثير من الأحكام ومنها جواز تخصيصه لعام القرآن[21] بالحديث المتواتر.
- تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد، وهذا هو محل النزاع.
المبحث الثاني:
آراء العلماء في تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد
على ضوء ما سبق اختلف العلماء في حكم تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد وقد كانت أبرز الأقوال قول الجمهور وقول الحنفية، وبقية الأقوال إما راجعة إلى هذين القولين أو هي مجرد توقف عن القول وعدم القدرة على الترجيح، ولذا سنفرد مطلبا لقول الجمهور وأدلتهم ومطلبا لقول الحنفية وأدلتهم ومطلبا لرأي الباحث في المسألة بإذن الله.
المطلب الأول/ رأي الجمهور وأدلتهم[22]
ذهب الجمهور القائلون بظنية دلالة العام على أفراده إلى جواز تخصيص عام القرآن الكريم، مستدلين بالآتي:
- العموم وإن كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة والخبر الآحادي إنما خصص هذه الدلالة الظنية.
- إجماع الصحابة على جواز تخصيص عام القرآن الكريم بخبر الآحاد، فإنهم خصوا قوله تعالى: ﴿یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ ﴾ الآية[النساء: 11] بقوله – عليه السلام -: «إنا معشر الأنبياء لا نورث»[23] وخص الميراث بالمسلمين عملا بقوله – عليه الصلاة والسلام -: «لا يرث المسلم الكافر»[24] وخصوا قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟﴾ [البقرة: 275] بحديث «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ»[25]. وخصوا قوله تعالى: ﴿فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ [التوبة: 5] بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»[26] والمجوس مشركون.
المطلب الثاني/ رأي الحنفية وأدلتهم
ذهب الحنفية القائلون بقطعية دلالة العام إلى أنه لا يجوز تخصيص عام القرآن الكريم ابتداء بخبر الآحاد، وإنما يجوز ذلك إذا خصص عام القرآن قبل ذلك بدليل قطعي كآية أو حديث متواتر أو خبر متأيد بالاستفاضة أَو مَشْهُور فِيمَا بَين السّلف أَو إِجْمَاع، وذلك لأن عام القرآن قطعي الدلالة عندهم، فإذا خصص بدليل قطعي نزلت دلالته من رتبة القطعية إلى الظنية لأن دلالته كانت قطعية لاستعماله في حقيقته وهو الاستغراق فلما ثبت أنه مستعمل في غير حقيقته لم يعد قطعيا فيصح تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد.[27]
والحنفية يلحقون الحديث المشهور بالمتواتر فلذلك جوزوا تخصيص عام القرآن به ابتداء.[28]
وقد استدل الحنفية على عدم حواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد بالآتي[29]:
- حديث النبي صلى الله عليه وسلم “كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ”[30] وَالْمرَاد كل شَرط هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى لَا أَن يكون المُرَاد مَا لَا يُوجد عينه فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن عين هَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي كتاب الله تَعَالَى وبالإجماع من الْأَحْكَام مَا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن كَانَ لَا يُوجد ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ تنصيص على أَن كل حَدِيث هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُود.
- لم يقبل عمر رضي الله عنه حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فِي أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة[31] لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ ﴾[الطلاق: 6] .
- الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَفِي اتِّصَال الْخَبَر الْوَاحِد برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُبْهَة فَعِنْدَ تعذر الْأَخْذ بهما لَا بُد من أَن يُؤْخَذ بالمتيقن وَيتْرك مَا فِيهِ شُبْهَة وَالْعَام وَالْخَاص فِي هَذَا سَوَاء.
المطلب الثالث/ رأي الباحث في حكم تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد
تبين مما سبق أن كل فريق من الفريقين بنى رأيه في مسألة حكم تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد على رأيه في مسألة دلالة العام على أفراده هل هي قطعية أم ظنية، فالذين رأوا أن دلالة العام على أفراده ظنية -وهم الجمهور- رأوا جواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد، والذين رأوا أن دلالة العام على أفراده قطعية -وهم الحنفية- رأوا عدم جواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد.
والذي ترجح لدى الباحث بعد التأمل في أدلة كل فريق هو رأي الجمهور القائلين بجواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد للأسباب الآتية:
- قوة أدلة الجمهور فالجمع بين الأدلة أولى من اطراح البعض وفي الجمع تتحقق طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم المقرونة بطاعة الله تعالى في قوله عز وجل ﴿وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢ ﴾[آل عمران: 132].
- للحديث المشهور حكم المتواتر عند الحنفية فيما يتعلق بجواز تخصيصه لعام القرآن الكريم مع أن أصله آحادي، وما احتجوا به لعدم جواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد كقوله عليه الصلاة والسلام “كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ”[32] ينطبق على الحديث المشهور بل حتى على المتواتر.
المبحث الثالث:
بعض الآثار المترتبة على مسألة تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد
المطلب الأول/ حكم الذبيحة المتروكة التسمية
ذهب الحنفية إلى عدم حل الذبيحة المتروكة التسمية عمدا عملا بقوله تعالى ﴿وَلَا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ ﴾ [الأنعام: 121] ولم يخصصوه بما ورد من أحاديث تبيح أكل ذبيحة المسلم وإن ترك التسمية كحديث ”ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ”[33] وغيره لأن الآية قطعية وهذا الحديث وأمثاله ظني والقطعي لا يخصص بالظني، إلا أنهم أجازوا أكل ذبيحة المسلم الناسي لإعطائه حكم الذاكر.[34]
وأما الجمهور القائلون بجواز تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد فمنهم من نسخ الأحاديث بالآية كالإمام مالك، ومنهم من لم تثبت عنده الأحاديث كالإمام أحمد، ومنهم من خصص الآية بالأحاديث وقال بسنية التسمية وحل الذبيحة المتروكة التسمية.[35]
المطلب الثاني/ حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
اختلف العلماء في حكم قراءة الفاتحة في الصلاة بناء على اختلافهم في حكم تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد؛ فالحنفية قالوا بجواز الصلاة بدون قراءة الفاتحة، ولم يروا قول النبي صلى الله عليه وسلم “لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ”[36] مخصصا لقوله تعالى ﴿فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ ﴾ [المزمل: 20] لأنه خبر آحادي فلا يخصص عموم الآية.[37]
وذهب الجمهور من الإباضية[38] والمالكية[39] والشافعية[40] والحنابلة[41] إلى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة للخبر المتقدم.
قائمة المراجع
- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ط1 تحقيق: مجموعة من العلماء بيروت: دار طوق النجاة، 1422ه
- البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، ط3، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1424ه-2003م
- ابن ماجة، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، د.ط، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي، د.ت
- ابن قدامة، عبدالله بن أحمد، عمدة الفقه، د.ط، تحقبق: أحمد محمد عزوز المكتبة العصرية، 1425ه-2004م
- البهلاني، ناصر بن سالم، نثار الجوهر في علم الشرع الأزهر، ط3 سلطنة عمان: مكتبة مسقط، 1430ه-2009م
- الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، تحقيق: بشار عواد معروف بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1996م
- الثعلبي، عبدالوهاب بن علي، التلقين في الفقه المالكي، ط1، تحقيق: ابي أويس محمد بو خبزة الحسني التطواني دار الكتب العلمية، 1425ه-2004م
- الجويني، أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله، البرهان في أصول الفقه، تحقيق صلاح بن محمد بن عويضة، ط1 لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ – 1997م
- الخن، مصطفى سعيد، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، ط3 بيروت: مؤسسة الرسالة، 1402هـ – 1982م
- الدبوسي، أبو زيد، عبيد الله بن عمر، تقويم الأدلة في أصول الفقه، تحقيق خليل محي الدين الميس، ط1 لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1421هـ – 2001م
- الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر، سنن الدارقطني، ط1 تحقيق شعيب الأرنؤوط وأخرين، لبنان-بيروت: مؤسسة الرسالة، 1424ه-2004م
- الرازي، فخر الدين، محمد بن عمر، المحصول، ط3، تحقيق: طه جابر فياض العلواني مؤسسة الرسالة، 1418ه-1997م
- الزحيلي، محمد مصطفى، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ط2 سوريا، دمشق: دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع 1427هـ – 2006م
- الزركشي، محمد بن عبدالله، البحر المحيط في أصول الفقه، ط1 دار الكتبي، 1414ه-1994م
- السالمي، عبدالله بن حميد، طلعة الشمس شرح شمس الأصول، تحقيق عمر حسن القيام، د.ط سلطنة عمان-ولاية بدية: مكتبة الإمام السالمي، 2010م
- السرخسي، أو بكر محمد بن أحمد، أصول السرخسي، تحقيق أو الوفا الأفغاني، د.ط لبنان-بيروت: دار المعرفة، د.ت
- الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ط1، تحقيق: أحمد عزو عناية دار الكتاب العربي، 1419ه-1999م
- الصاعدي، حمد بن حمدي، المطلق والمقيد، ط1 المملكة العربية السعودية: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1423ه – 2003م
- الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، الوسيط في المذهب، ط1، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم , محمد محمد تامر القاهرة: دار السلام، 1417ه
- الفيروزآبادي، أبو طاهر محمد بن يعقوب، القاموس المحيد، ط8 لبنان-بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1426ه-2005م
- المنياوي، أبو المنذر محمود بن محمد، الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول، ، ط1 مصر: المكتبة الشاملة، 1432هـ ـ 2011م
- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، د.ط تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي القاهرة: دار إحياء الكتب العربية: فيصل عيسى البابي الحلبي د.ت
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] المنياوي، أبو المنذر محمود بن محمد، الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول، ، ط1 (مصر: المكتبة الشاملة، 1432هـ ـ 2011م) ص235
[2] المنياوي، الشرح الكبير، مرجع سابق، ص258
[3] انظر: الخن، مصطفى سعيد، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، ط3 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1402هـ – 1982م) ص206
[4] انظر: الزحيلي، محمد مصطفى، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ط2 (سوريا، دمشق: دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع 1427هـ – 2006م) ج2 ص62
[5] الصاعدي، حمد بن حمدي، المطلق والمقيد، ط1 (المملكة العربية السعودية: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1423ه – 2003م) ص436
[6] الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، مرجع سابق، ج2 ص71
[7] المرجع نفسه، ج2 ص62-71
[8] الفيروزآبادي، أبو طاهر محمد بن يعقوب، القاموس المحيد، ط8 (لبنان-بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1426ه-2005م) ص490 مادة (الوتر)
[9] انظر: السالمي، عبدالله بن حميد، طلعة الشمس شرح شمس الأصول، تحقيق عمر حسن القيام، د.ط (سلطنة عمان-ولاية بدية: مكتبة الإمام السالمي، 2010م) ج2 ص14
[10] انظر: المرجع نفسه ج2 ص20
[11] انظر: الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، مرجع سابق، ج1 ص208
[12] انظر: الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، مرجع سابق، ج1 ص208
[13] انظر: السالمي، طلعة الشمس، مرجع سابق، ج1، ص227-228 ، والدبوسي، أبو زيد، عبيد الله بن عمر، تقويم الأدلة في أصول الفقه، تحقيق خليل محي الدين الميس، ط1 (لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1421هـ – 2001م) ص96 ، والسرخسي، أو بكر محمد بن أحمد، أصول السرخسي، تحقيق أو الوفا الأفغاني، د.ط (لبنان-بيروت: دار المعرفة، د.ت) ج1، ص132
[14] الجويني، أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله، البرهان في أصول الفقه، تحقيق صلاح بن محمد بن عويضة، ط1 (لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ – 1997م) ج1، ص112
[15] السالمي، طلعة الشمس، مرجع سابق، ج1 ص230
[16] السالمي، طلعة الشمس، مرجع سابق، ج1 ص230
[17] الدبوسي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص96
[18] السرخسي، أصول السرخسي، مرجع سابق، ج1 ص137
[19] انظر: السرخسي، أصول السرخسي، مرجع سابق، ج1 ص141
[20] الدبوسي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص211
[21] المرجع نفسه ص212
[22] انظر: السالمي، طلعة الشمس، مرجع سابق، ج1، ص233-235، والرازي، فخر الدين، محمد بن عمر، المحصول، ط3، تحقيق: طه جابر فياض العلواني (مؤسسة الرسالة، 1418ه-1997م) ج3، ص85-91، والزركشي، محمد بن عبدالله، البحر المحيط في أصول الفقه، ط1 (دار الكتبي، 1414ه-1994م) ج4، ص482، رالشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ط1، تحقيق: أحمد عزو عناية (دار الكتاب العربي، 1419ه-1999م) ج1، ص388
[23] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، رقم الحديث 3092، ط1 تحقيق: مجموعة من العلماء (بيروت: دار طوق النجاة، 1422ه) ج4، ص79
[24] الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر، سنن الدارقطني، رقم الحديث 3028، ط1، تحقيق شعيب الأرنؤوط وأخرين، (لبنان-بيروت: مؤسسة الرسالة، 1424ه-2004م) ج4، ص21
[25] مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، رقم الحديث 1585، د.ط تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية: فيصل عيسى البابي الحلبي د.ت) ج3، ص1209
[26] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، رقم الحديث 18654، ط3، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا (لبنان-بيروت: دار الكتب العلمية، 1424ه-2003م) ج9، ص319
[27] البزدوي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص103، والسرخسي، أصول السرخسي، مرجع سابق، ج1، ص142
[28] البزدوي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص212
[29] السرخسي، أصول السرخسي، مرجع سابق، ج1، ص365
[30] ابن ماجة، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، رقم الحديث2521، د.ط، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي (دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي، د.ت) ج2، ص842
[31] مسلم، صحيح مسلم، مرجع سابق، رقم الحديث 1480، ج2، ص1114
[32] سبق تخريجه.
[33] البيهقي، السنن الكبرى، مرجع سابق، رقم الحديث 18895، ج9، ص402
[34] انظر: البزدوي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص284، والسرخسي، أصول السرخسي، مرجع سابق، ج1، ص133-134
[35] انظر: الخن، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ص211
[36] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، رقم الحديث 247، ط1، تحقيق: بشار عواد معروف (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1996م) ج1، ص330
[37] البزدوي، تقويم الأدلة، مرجع سابق، ص96
[38] البهلاني، ناصر بن سالم، نثار الجوهر في علم الشرع الأزهر، ط3 (سلطنة عمان: مكتبة مسقط، 1430ه-2009م) ج2، ص280
[39] الثعلبي، عبدالوهاب بن علي، التلقين في الفقه المالكي، ط1، تحقيق: ابي أويس محمد بو خبزة الحسني التطواني (دار الكتب العلمية، 1425ه-2004م) ج1، ص42
[40] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، الوسيط في المذهب، ط1، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم , محمد محمد تامر (القاهرة: دار السلام، 1417ه) ج2، ص109
[41] ابن قدامة، عبدالله بن أحمد، عمدة الفقه، د.ط، تحقبق: أحمد محمد عزوز (المكتبة العصرية، 1425ه-2004م) ص26