أبو مسلم البهلاني -رحمه الله- بين ناقديه (1)

رائد بن ناصر بن خلفان العامري
أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني (1339هـ) شاعر العلماء وعالم الشعراء، من أبرز الشعراء العمانيين في عصره بل هو من أبرزهم في تاريخ الشعر العماني قديمه وحديثه، وربما اختلف الباحثون في شعره وفي المنزلة التي يوضع فيها موازنة بشعراء عصره في الوطن العربي، وهو مثل كثير من الشعراء الكبار الذين تعرضوا للانتقاد والتخطئة كالفرزدق وأبي نواس والمتنبي، فمما أخذ على الفزدق مثلا قوله: [من الطويل]
وعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ مـن المـال إلَّا مُسْـحَـتًا أو مُجَـلّـَفُ
وهذا البيت تكلف النحويون في إعرابه حتى قال الزمخشري “لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه”[1].
والاعتراضات على العلامة أبي مسلم ومناقشتها من العظائم التي (متى ما تَحِنْ تُؤْخَذْ لها أهَباتُها) فـ(قبل الرماء تُملأ الكنائن). وأشهر مسألة أخذت على أبي مسلم وخُطِّئ فيها هي رفع كلمة (وسنان) في قوله: [من البسيط]
تلك البوارق حاديهن مرنان فما لطرفك يا ذا الشجو وسنانُ
فقد كان الأَولى في (وسنان) النصب على الحال، لأن “(ما لك) ونحوها تلازمها حال بعدها نحو {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين} “[2] ونحو قول الشاعر ساعدة الهذلي: [من الوافر]
فما لك إذ مررت على حنين كظيما مثل ما زفر اللهيد
وقول أبي الأسود الدؤلي: [من الطويل]
فَما لَكَ مَسهومًا إِذا ما لقيتَني تُقَطِّعُ عني طرفَ عَينيكَ كَالمُغضي
وقول ليلى بنت طريف ترثي أخاها: [من الطويل]
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وجاء في كتاب الجمل في النحو المنسوب للخليل بن أحمد[3]: “والنصب بخبر (ما بال) وأخواتها. قولهم ما بال زيد قائما ومالك ساكتا وما شأنك واقفا؟ قال الله جلّ ذكره في (سأل سائل) {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِين} وفي المدثر {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين} … قال الشاعر الراعي:
ما بال دفِّك بالفراش مذيلا أقذى بعينك أم أردت رحيلا
نصب (مذيلا)، لأنه خبر (ما بال)”[4]، والحرف (ما) في هذه الأمثلة للاستفهام كما ترى، فما كان بعد الاستفهام في مثل ما بال وما شأنك تبعه حال منصوبة، وقد يكون الحرف (ما) للنفي فلا تلزمها حال بعدها، وتأمل إن شئت قول أبي مسلم البهلاني في وصف الدنيا: [من البسيط]
ما شأن صولاتها البقيا على أحدٍ وإنما أجـل يتـــلو خُـطا أجـل
فـ(ما) في البيت نافية، أي ليس شأن صولاتها البقيا على أحد.
ويقول في النونية: [من البسيط]
يا للرجال احفظوا أوطان ملتكم فما لكم بعد خذل الدين أوطان
أي ليس لكم بعد خذل الدين أوطان.
وبيت أبي مسلم (تلك البوارق …) من قصيدته النونية، وهي من أشهر قصائده، وهذا البيت هو مطلع القصيدة، فلا عجب أن تكون هذه المسألة أشهرَ مسألة خُطِّئ فيها أبو مسلم، وإذا علمتَ أنّ البيت مطلع قصيدة شهيرة اعتنى بها أبو مسلم فكيف يُخطئ فيرفع كلمة (وسنان)؟ أكان ذلك خطأ وسهوا أم كان أمرا معروفا ملحوظا عند أبي مسلم؟
ويبدو أن طلاب العلم في عصر أبي مسلم البهلاني ناقشوا هذه المسألة، فسألوا الشاعر ابن شيخان السالمي (1346هـ) عنها، فقد جاء في ديوانه: “وسُئِل (أي ابن شيخان) عن رفع كلمة (وسنان) …”[5] وبناء الفعل (سُئل) للمجهول يدل على أن مِن طلاب العلم من تنبه لهذه المسألة فتوجه بالسؤال إلى ابن شيخان، وهو لغوي يدلك على ذلك ما جاء في ديوانه من أجوبة لمسائل نحوية ولغوية، ومنها جواب لمسألة في الاستعارة سأله إياها تلميذه في علوم العربية[6] الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري المفتي السابق، ولعل في هذا إشارة إلى أن ابن شيخان كان مرجعا لأهل اللغة.
وأما جواب ابن شيخان في مسألة (وسنان) فقد قال: “أقول: لحن الشيخ ناصر في قوله (وسنان) حيث رفعه، وإنما يجب نصبه على الحال، أو على التمييز، أي أتعجب من سنة طرفك يا صاحب الشجو مع ظهور هذه البوارق ولمعانها وشدة رنة صوت حاديها المزعج لها، ولا وجه فيه للرفع …”[7]، ومن البــيّن أن ابن شيخان في كلامه السابق يُخطِّئ أبا مسلم، وينفي أن يكون للرفع وجه! لكنه التمس بعد ذلك وجها للرفع! فقال: “ولعله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي هو وسنان، وذلك على بُـعـد لأن المقام مقام إنشاء لا مقام خبر”[8] ثم قال: “والعجب من أذكياء زنجبار وعمان كيف لم ينتبهوا على هذه الورطة والله أعلم”[9]
وأنت ترى أن ابن شيخان لـحّن أبا مسلم بل وصف ما فعله بأنه ورطة!
وقد رد على ابن شيخان السالمي الشيخ سالم بن سليمان البهلاني تلميذ أبي مسلم وابن أخيه في رد سماه (الحجة والبرهان في الرد على ابن شيخان “انتصر فيه لشيخه وعمه أبي مسلم”[10] ثم كتب الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري رسالة سماها (سواطع البرهان في الانتصار لابن شيخان) أيَّـد فيها شيخه ابنَ شيخان في تخطئة أبي مسلم[11].
ويرى الأستاذ محمد الحارثي محقق الديوان أن “شاعرا علامة كأبي مسلم ما كان ليوقع نفسه في خطأ إعرابي يصيب مقلة قصيدته الخالدة في مقتل” وأن اختياره رفع وسنان “حتمته فطنة الشاعر”، بل ذهب – وأبعد المذهب – إلى أن “لأبي مسلم حجة في القرآن الكريم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين} التي نصبت فيها معرضين رغم أن مقامها الرفع في السياقات النحوية السائدة”[12] هكذا قال! ولم يبين وجه الحجة ولا كيف يكون مقامها مقام الرفع في السياقات النحوية السائدة!
ومن أهم ما يعين على تعليل الرفع أو النصب في (وسنان) فهمُ معنى البيت ومعرفةُ نوع (ما). وسوف نبسط – إن شاء الله- ما قيل في هذه المسألة في ختام هذه السلسلة (أبو مسلم البهلاني بين ناقديه).
وقد وحُــقِّـق ديوان أبي مسلم غير مرة، وقامت على الديوان دراسات وبحوث أكاديمية فظهرت اعتراضات ومآخذ على شعره، منها ما ينبغي التوقف عندها ومناقشتها، ومنها ما دون ذلك، وإن نوقشت فليتبين طلاب العلم أمرها. ومن أعجب المآخذ والاعتراضات التي رأيتُها أن باحثا أخذ على أبي مسلم تسكين اللام في كلمة (كلمة) حين قال: [من الطويل]
تجرد يعلي كلْمةَ الله همه ليُصبحَ مغزى كلمْةِ الكفرِ أسفلا
قال المعترض: “والأصل (كَلِمَة) غير أن البيت يتداعى إذا تمت القراءة على هذا الوجه فلزم لإقامة البيت تسكين اللام في (كلمة)، وهذا مما لا تجيزه اللغة”[13] قلت: وهذا اعتراض متعجل، (وقد يكون مع المستعجل الزلل) فقوله: “وهذا مما لا تجيزه اللغة” يدل على أنه لم يفتش عن الكلمة في المعاجم وكتب اللغة، فكان كالرامي الذي لم يرش سهمه. جاء في كتاب العين: “والكَلِمَة: لغة حجازية، والكِلْمة: تميميَّة”، وذكر ابن قتيبة (كَلِمَة وكِلْمَة) في الأمثلة التي ذكرها مما جاء على وزن (فَعِلَة وفِعْلَة). وقال ابن هشام الأنصاري (761هـ): “في الكلمة ثلاث لغات، ولها معنيان، أما لغاتها: فـ(كَلِمَة) على وزن (نَبِقَة)، وهي الفصحى ولغة أهل الحجاز، وبها جاء التنزيل … و(كِلْمَة) على وزن (سِدْرة)، و(كَلْمَة) على وزن (تَمْرَة)”[14].
واعترض المحقق علي النجدي ناصف – وهو من كبار اللغويين المعاصرين[15] – على أبي مسلم البهلاني لحذفه النون من (يكن) وقد وليها ساكن. قال أبو مسلم: [من الخفيف]
سيدي إن يكُ اقْترافي عظيما فهْـوَ في حلمِ الله عينُ الأقلِّ
قال المحقق: “إن يك اقترافي: حذف نون يكن هنا ممتنع، لأنها متصلة بسكون قاف اقترافي”[16].
واعترض المحقق على البهلاني في موضع آخر مثل هذا عند قوله: [من الكامل]
الله بسم الله يا ذا القوة اد فع كيد خصمي وليكُ النكس الأذل
قال المحقق: “حذف نون ليكن هنا لا وجه له، لأن ما بعدها ساكن”[17].
قلت: ذكر النحاة شروطا لحذف نون يكن، وهي:
- ن يكون الفعل بلفظ المضارع.
- أن يكون المضارع مجزومًا بالسكون.
- ألا يقع بعد النون ساكن.
- ألا يقع بعده ضمير متصل، وذلك كقوله تعالى ” ولم يكُ من المشركين”.
وقد خالف أبو مسلم الشرط الثالث فحذف النون مع أن ما بعدها ساكن، لكن أبا مسلم لم يكن بدعا، بل سار في هذا على ما جاء في الشعر القديم المحتجّ به، وهو من الضرورات الشعرية الجائزة، بل هو جائز في سعة الكلام عند الكوفيين[18] ويونس وابن مالك.
قال ابن مالك: “وممّا تختص به كان جوازُ حذف لام مضارعها الساكن جزمًا، كقوله تعالى: (ولم يكُ مِنَ المشركين) وكقوله تعالى: (ولا تكُ في ضيق مما يمكرون) فإن ولي ساكن امتنع الحذف عند سيبويه، ولم يمتنع عند يونس، وبقوله أقول؛ لأن هذه النون إنما حذفت للتخفيف، وثقل اللفظ بثبوتها قبل ساكن أشد من ثقله بثبوتها دون ذلك، فالحذف حينئذ أولى، إلا أن الثبوت دون ساكن ومع ساكن أكثر من الحذف”[19].
وقد اعتُرض على أبي الطيب المتنبي من قبل بمثل ما اعترض على البهلاني؛ لأنه حذف النون وقد وليها ساكن في قوله: [من الكامل]
جلَلاً كما بي فليَكُ التّبريحُ أغِذاء ذا الرَّشأ الأغنِّ الشّيحُ
“فقال أهل الإعراب: حذف النون من تكن إذا استقبلتها اللام خطأ؛ لأنها تتحرك إلى الكسر، وإنما تحذف استخفافًا إذا سكنت، فقال لهم المحتجّ عن أبي الطيب: لعمري إن وجهَ الكلام ما ذكرتُم، لكنّ ضرورة الشعر تُجيز حذف النون مع الألف واللام”[20].
وفي عصور الاحتجاج حذف الشعراء النون وقد وليها الساكن كثيرا ومنه قول الشاعر: [من الرمل]
لم يك الحقّ سوى أن هاجه رسمُ دار قد تعفّى بالسّرر
وقول ابن صخر الأسدي:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وقول الآخر:
إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى فليس بمغن عنه عقد التّمائم
ولعل زعم المحققّ أن حذف النون ممتنع ولا وجه له – مع جوازه عند بعض النحاة ومع كثرة الشواهد- ناشئ من أنه يرى أن الضرورة استعملها الشعراء قديما ولا يجوز للمولّدين استعمالها، وهذه مسألة خلافية ناقشها أبو الفتح ابن جني في (باب هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا).
وقد سأل ابن جني شيخه أبا عليّ الفارسي عن ذلك فأجاب: “كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرَنا على شعرهم، فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا“[21] وذكر ابن جني ما قد يعترض به المانعون من استعمال الضرورة للمولدين وأجاب عنه ثم قال: “فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر للمولدين أسهل، وهم فيه أعذر“[22]، ولهذا لا يلام أبو مسلم في حذف النون من (يكن).
ولأبي مسلم قصيدة فائية مكسورة قالها في الشيخ عبد الرحمن بن سالم الرواحي مطلعها:
يا أخا عبس الحماة الأنوف والكريم الموصوف بالمعروفِ
هزك الفضل والفتوة والسُّؤ دد والمجد كاهتزاز السيوفِ
ومن أبياتها قوله:
عجبًا ليس يسلَمُ المجدُ فيه كـلّ حرّ بصخرةٍ مقذوف
تنازع الأدباء في وجه كسر كلمة (مقذوف)[23] في قوله: “كل حر بصخرة مقذوف” والأصل أنها خبر مرفوع، فهل لأبي مسلم حجة؟ وما وجه الخفض فيها؟ وهل تكلم النحويون في مثل هذه المسألة؟
سوف نناقش هذه المسألة في المقال التالي من السلسلة إن شاء الله.
لتحميل المقال اضغط هنا
صورة العرض مأخوذة من تصميم شركة Short Arch
[1] تفسير الكشاف: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، اعتنى به: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1423- 2002م، ص659.
[2] التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، د.ط، 1984م، 29/199.
[3] ذهب محمد خير حلواني إلى أن الكتاب ليس للفراهيدي بل للخليل بن أحمد السجزي.
[4] الجمل في النحو، ص57 فما بعدها.
[5] ديوان ابن شيخان، جمعه: محمد بن عبد الله السالمي، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، ط3، 1437هـ – 2017م، ص374.
[6] ينظر: تبصرة المعتبرين في تاريخ العبريين: إبراهيم بن سعيد العبري، تحقيق: محمد بن عامر العيسري، ذاكرة عُمان، مسقط، ط1، 1436هـ – 2015م، ص8.
[7] ديوان ابن شيخان، ص 374.
[8] ديوان ابن شيخان، ص374.
[9] المرجع السابق، ص374.
[10] الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، ص550.
[11] النقد اللغوي في التراث العماني: سلطان بن مبارك الشيباني، ص30، ضمن بحوث ندوة الدور العماني في خدمة اللغة العربية.
[12] الآثار االشعرية لأبي مسلم البهلاني، ص55.
[13] الانحراف الأسلوبي في شعر أبي مسلم البهلاني (1860 – 1920م): أحمد علي محمد، مجلة جامعة دمشق، المجلد 19، العدد (3+4)، 2003، ص99.
[14] شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب: ابن هشام الأنصاري، بتعليقات محمد محي الدين عبد الحميد وتعليقات منتقاة من حاشيتي الأمير والعدوي، حققه وعلق عليه: أحمد جاسم المحمد، مكتبة ابن عطية/ دمشق، ط1، 2009م. ص27.
[15] انظر ترجمته من أعلام اللغة المعاصرين (24) في مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية. http://www.m-a-arabia.com/vb/showthread.php?t=23846
[16] ديوان أبي مسلم البهلاني، تحقيق: علي النجدي ناصف، وزارة التراث، سلطنة عمان، ط2، 1437 – 2016م، ص138.
[17] المصدر السابق، ص272.
[18] تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد 1/268.
[19] شرح التسهيل، 1/366.
[20] الوساطة بين المتنبي وخصومه: علي بن عبد العزيز الجرجاني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت/ لبنان، د.ط، 1431هـ – 2010م، ص366.
[21] الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة التوفيقية، ط1، 2015م، 1/412.
[22] المرجع السابق، 1/418.
[23] النقد اللغوي في التراث العماني: سلطان بن مبارك الشيباني، ص30، ضمن بحوث ندوة الدور العماني في خدمة اللغة العربية، ذاكرة عمان، مسقط، 1436هـ 2015م.