يــوم البهجــة (درس بألــف أستــاذ)

إبراهيم بن عيسى بن يوسف البوسعيدي
يحدث كثيرًا في الحياة المدرسيّة أن يتفاوت الطلاب في جودة الفهم، وأن يتفاوت الأساتذة في جودة التفهيم؛ لذلك يكون من المعقول أن يسعى الطالب الجادّ الذي لا يفهم أسلوب أستاذه إلى أن يجلس إلى أستاذٍ آخر يشرح له نفس الدرس بأسلوب أيسر وعبارة أدقّ؛ لعل ذلك يجدي نفعًا في تقريب المعنى إلى ذهن هذا الطالب.
هذا يحدث كثيرًا في الحياة المدرسيّة، لكن الذي لا يحدث فيها عادة أن يتعاون لتفهيم الطالب هذا – ولو كان جادًّا صادق الاجتهاد – عشرة أساتذة لشرح نفس الدرس له، بل ولا نصف هذا العدد، فكيف بك إذا قلت لك إني قد شرح لي الدرس اليوم ألفُ أستاذ، بل يزيدون؟!
نعم، ليس هذا ضربًا من الخيال، غير أنه لم يحدث في الحياة المدرسيّة – فنحن اليوم في عطلة – لكنه قد حدث فعلًا في (مدرسة الحياة) التي لا تتعطّل أبدًا.
قد استيقظت اليوم وهناك أمر أهمّني من جرّاء تعاملاتي في حياتي اليوميّة، وقد عظُم خطبُه عليّ جدًّا، غير أنّي استعنت بالله وتجهزت لصلاةِ العيد ومضيت مع الفوج المنطلق نحو مصلى العيد لا يُهِمّنا سوى أمرين: التكبير والتهليل مع الانتباه لمواضع أقدامنا ونحن نقطع الوادي، فالحناجر تكبر والأبصار تنظر خشية أن يلحق الثوب الجديد والزينة الزاهية أي كدر أو غبار.
ومن هنا بدأ الألف أستاذ في شرح الدرس، في تناسق تامّ وانسجام عجيب، الدرس الذي عنوانه: (همُّ اليوم).
قد كانت أفعال القوم أجمعين وأقوالهم وتصرفاتهم تشرح هذا الدرس بدقّة متناهية، والأشد عجبًا أنهم لم يلتقوا يومًا ما لتحضيره ولا للتنسيق فيما بينهم، بل دون أن يتعارفوا من قبل، يقولون بصوت واحد: لا تهتمّ اليوم إلا بالحفاظ على زينتك والحرص على تهنئتك التي ينطقُ بها فمك المبتسم ابتسامة عريضة…
فأقول: “وماذا عن همّي الذي استيقظت عليه يا جيش الأساتذة، وأنا لا أستطيع تركه!”
فيجيبون: “عن أيّ همّ تتكلّم؟ لا همّ اليوم إلا الحفاظ على زينتك والحرص على تهنئتك التي ينطق بها فمك المبتسم ابتسامة عريضة”.
ولم ينقضِ عجبي عندما رأيت هذا الشرح التطبيقي المتناسق يشترك فيه الصغير والكبير والغني والفقير والرجل والمرأة والأعمى والبصير والصحيح والمريض…كلهم بصوت واحد: “لا همّ اليوم إلا الحفاظ على زينتك والحرص على تهنئتك التي ينطق بها فمك المبتسم ابتسامة عريضة”.
غير أني لم أقتنع تمامًا – وإن زادوا على الألف – إلا الليلة قبيل كتابة هذا المقال، فبينما أنا أراجع دروس الحياة اليوم في هدوء المسجد إذ مرّت بي – وأنا أنظر ناحية المحراب – الصورُ التوضيحيّة التي عُرضت عليّ في هذا الدرس، فإن زيارات العيد كشفت لي عن أحوالٍ لأناس حالي لا يساوي شيئًا إذا ما قيسَ لأحوالهم، فأنا بالنسبة إليهم في هناء وعافية ما بعدها عافية، وهم على الرغم من ذلك استطاعوا أن يتركوا كل همّ اليوم إلا همّ الحفاظ على أجمل زينة وأحلى تهنئة.
فتارةً ترى صورة لشابّ في أبهى حلّة وهو يشرح وضعه وأنه عاطل عن العمل، ومرةً صورة أخرى لأب ضاحك السنّ ولديه ابنان مصابان بالتوحّد واقفان أمامه، وهناك عجوزٌ في أطيب نفس ويضع أمامه يديه وقدميه المتورّمتين، وهنالك عجوزٌ آخر قد زاد عمره على قرن من السنين حتى فقد ذاكرته وهو يقول لنا في استقبالنا على كرسيه المتحرّك: “يا حيّ وسهلًا، اعذروني ما عرفت أنكم هنا”!، ولم يؤلمني إلا ذلك الكهل الملقى على فراشه إذ أصيب بجلطتين وقطعت ساقه اليسرى وبترت قدمه اليمنى، وشلّت يمناه وهو شاخص البصر والدمع يتلألأ من عينيه، لكنّ نفوس أبنائه من حوله باهية، وثيابهم زاهية، واستقبلونا باليُمن والترحاب… وهكذا لم تزل الصور تعرض عليّ حتى قضت على همّي واطمأننت بأنه لا همّ اليوم إلا هَمّ الحفاظ على الزينة والحرص على التهنئة التي ينطق الفم المبتسم ابتسامة عريضة.
فهمت وسلّمت أن العبد في هذه الحياة مهما أصيب فيها بالبلايا العظيمة والأحداث الجسيمة فإنه يستطيع أن يتجاوزها نحو النجاح، فهمت وسلّمت أنه لا شيء في حدود هذه الدنيا يستحقّ أن يهتمّ به العبد ليعوق سيره نحو التألّق والعطاء؛ لأنه استطاع في هذا اليوم أن يزيح عن صدره الهموم الثقال كالجبال، ويظهر بأجمل ما يمكن من الزينة، ويتحدّث بأرقى ما يكون من الألفاظ، ويفرح بأصدق ما يكون من المشاعر، ولهذا كان العيد.
لهذا كان العيد درسًا جليلًا من دروس الحياة، درسًا كلُّ فردٍ فيه هو أستاذ وطالب في آن واحد، هو أستاذ يعلّم سائر الناس بأفعاله وأقواله الشأنَ الجديرَ بالاهتمام في دنياهم وإن كان هو محمّلًا بأثقل الهموم، كما أنه في ذات الوقت طالبٌ يتابع جمعَ الأساتذة وهم يصرفون نظره إلى ما هو أحق بالاهتمام وأولى بالعناية.
هذا، وبعد أن أنعم الله علي بإدراك هذا المعنى تأمّلْتُ فوجدت أن شعيرة العيد التي امتنّ المولى بها عليها ليست إلا تجليًا من تجليات عناية الإسلام بجلب دواعي الفرح والسرور إلى قلب المؤمن ودرء دواعي الحزن والهمّ عنه، يقول ابن القيّم: «وَلَمْ يَأْتِ الْحُزْنُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مَنْفِيًّا…وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ مُوقِفٌ غَيْرُ مُسَيِّرٍ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقَلْبِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَحْزَنَ الْعَبْدُ لِيَقْطَعَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَيُوقِفَهُ عَنْ سُلُوكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المجادلة: 10]، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ مِنْهُمْ دُونَ الثَّالِثِ([1])؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ، فَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ، وَلَا مَقْصُودٍ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ»([2]) فَهُوَ قَرِينُ الْهَمِّ…وَكِلَاهُمَا مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ عَنِ السَّيْرِ، مُقَتِّرٌ لِلْعَزْمِ» ([3])، وزيادة على ذلك فإن عليك أن تنتبه أيها المؤمن إلى أن الحزن والهم يُدخلان الضرر على قلبك ويُسببان له من المآسي ما قد يودي بحياة صاحبه كما يصرّح بذلك الأطباء المتخصصون([4])، في عصرٍ تحتلّ فيه أمراض القلب الصدارة على سائر الأمراض المؤدّية إلى الوفاة([5])، وأنت مأمور بحفظ نفسك كما أمرت بحفظ دينك([6])، فتعالَ تتقرّب إلى ربّك بالحفاظ على سرور قلبك في هذا اليوم العظيم.
وختامًا، فإن مقاصد العيد أوضح من الشمس، بل هو شمس تسطُع علينا لتجفّ هموم الدنيا من قلوبنا، ولتمدّنا بالقوّة والعزم لنخوض غمار الحياة غير جازعين لما يلاقينا من نصبها، ولا ضَجِرين لما يواجهنا من لأوائها، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ٣٢﴾ [الحج: 32]، فما أعظمك يا عيد وما أجلّك يا ربّ العبيد!
لتحميل المقال اضغط هنا
- صورة المقال منقولة من حساب المصور شهاب الشندودي
([1]) يشير إلى حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثالث». أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب لا يتناجى اثنان دون الثالث، رقم: 5930. البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ت: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، سوريا – دمشق، ط5، 1414هـ – 1993م.
([2]) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل، رقم: 6008.
([3]) ابن القيّم الجوزيّة، محمد بن أبي بكر، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط3، دار الكتاب العربي، لبنان – بيروت، 1416هـ/1996م، 1/501.
([4]) يُنظر لذلك في موقع مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في أمريكا، https://www.cdc.gov/heartdisease/mentalhealth.htm، تاريخ الدخول: التاسع من ذي الحجة / 1443ه الموافق08/07/2022 02:58:57 م.
([5]) ينظر لذلك إحصاءات منظمة الصحّة العالمية، https://www.who.int/ar/news/item/24-04-1442-who-reveals-leading-causes-of-death-and-disability-worldwide-2000-2019، تاريخ الدخول: التاسع من ذي الحجة / 1443ه الموافق 08/07/2022 02:53:01 م.
([6]) وقد عدّ الشيخ القطب أن من يموت بإدخال الهمّ والحزن على نفسه كالمنتحر القاتل نفسه فيدخل في الوعيد الوارد في الحديث، يقول: «فإن قتل الإنسان نفسه حرام كقتل غيره، سواء كان بمحسوس كحديد وخشبة وسمّ، أو بغير محسوس كالهموم والأحزان والغيظ؛ ففي الحديث تلويح بغير المحسوس…فيجب على الإنسان أن يأخذ حذره من كل ما يعين على مرض أو موت، ولو بتذكّر كلام جرى عليه». يُنظر: أطفيش، امحمد بن يوسف، تحفة الحب في أصل الطب، ت: سليمان بن إبراهيم بابزيز الوارجلاني، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان – مسقط، ط2، 1440هـ/2019م، 89.