العقيدة والفكر

يســــمحون فنســــمح!

 عمر بن أحمد بن حمد الخليلي

كثيرا ما يورد بعض الناس استشكالا يرونه في سماح الغرب لنا بالدعوة إلى الإسلام في بلادهم بكل أريحيّة وحرّية، بينما نضيّق نحن -معاشر المسلمين- على الداعين إلى التنصير أو الإلحاد أو أي فكرة مخالفة في بلادنا، وقد يرى المستشكل في هذا الفعل تطفيفا في الكيل، وأننا نمنعهم من حقهم في الدعوة في حين أنهم يسمحون لنا بذلك!

وقد يرى في هذا الفعل مسوّغا لما يحصل في بعض تلك الدول من التضييق على المسلمين في بعض الألبسة أو في إظهار بعض الشعائر التعبدية، وأنه ليس إلا ردة فعل لـ(تضييقنا) على حريتهم في بلادنا!

والإشكال الأكبر أن هذه الشبهة قد بلغ تأثيرها عددا كبيرا من طلاب العلم وأهل الثقافة فضلا عن عامة الناس، وهذا ما يدعو إلى ضرورة تَجلية أوجه الفرق بين الحالتين والجواب عن هذا الاستشكال باختصار، وسأوجز الكلام في جُمل مركّزة:

  • إن الإسلام حقّ في ذاته قطعا، ودينهم باطل في ذاته قطعا، وهو ما يستلزم التفريق بين الأمرين ولا يصح أن يساوى بينهما بدعوى أن الكل يدّعي أن الحق معه، فحالهم كحال من يطلب منك أن تسمح له بتلويث ثوبك بالقَذَر، لأنه سمح لك بأن تدهنه بالطيب!
  • إنّنا لا نسلّم بأنهم يسمحون لنا بالدعوة للإسلام في بلدهم بلا قيود ولا مضايقات، بل قد يصل الأمر إلى الاعتقال وتلبيس التهم وتشويه السمعة للنيل من أحد الدعاة ووقف مشروعه الدعوي، وما حصل في فرنسا في الأيام السابقة من إغلاق المساجد والتحقيق مع الدعاة والتضييق عليهم أقرب مثال لذلك، وإنكار التضييق على المسلمين والمجادلة فيه لا تكون إلا من جاهل أو مكابر للحق.
  • لو تنزّلنا وقلنا إن المبدأ الغربي في الحرية في التعبير والفعل (أنت حر ما لم تضر) هو مبدأ صحيح فإن دعوتهم إلى دينهم في بلادنا مضرة بنا، والضرر فيها على ضربين:
  • دنيوية: فقد نص القرآن الكريم على أن المصائب إنما تكون بذنوب العباد في الأرض،” وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير” “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس” ولا ذنب أعظم من الشرك والدعوة إليه، كما أن ترك النهي عن المنكر -الذي هو الدعوة إلى الشرك- سبب لوقوع اللعنة وحصول السخط من الله تعالى “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون” “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة” وقد فُسّرت هذه الآية بترك الإنكار على المنكر[1]

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال “يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم”[2]

  • أخروية: وذلك بحرمان الذين يضلّونهم من جنة عرضها السماوات والأرض، ولا ضرر أعظم على المرء من هذا، فهذا الضرر أعظم من القتل والتعذيب وجميع الجرائم التي قد تقع على الإنسان؛ لأن قصارى ما في تلك الجرائم أن تُذهب على المرء دنياه، أما هذه ففيها ضياع الدنيا والآخرة
  • إن مرجعية الغرب التي تجعلهم يسمحون للمسلمين بالدعوة إلى الدين -على فرض وجود هذا السماح- مبنية على فلسفة ما بعد الحداثة، التي لا تؤمن بالحقيقة المطلقة، وإنما الصحة في كل شيء أمر نسبي، فالإسلام صحيح عندي والنصرانية صحيحة عند الآخر والإلحاد هو الحق في نظر ثالث ولا إشكال في الموضوع!

يقول فيلسوف العلوم كارل بوبر “لكي نكون عقلانيين، ليس علينا فقط أن نكون متسامحين ولا دوغمائيين بل أيضا حياديين كليا، حتى ولو في إزاء أكثر الآراء سوءاً، وأن نعترف بأن كل الآراء قابلة للدفاع عنها وأن كل الآراء متساوية”[3]

فالغرب الليبرالي -لتبنيه هذه الفلسفة-[4] يجب عليه أن يسمح لنا بالدعوة إلى الإسلام في بلده ليكون متسقا في فعله مع فلسفته ومرجعيته، ونحن لا نسمح لهم بالدعوة إلى دينهم اتساقا مع ديننا الذي لا يساوي بين الكفر والإيمان، وما جاء إلا لمحاربة هذا الفكر المخالف للفطرة والعقل، وبهذا يظهر أن التزامهم بالسماح لنا بالدعوة في بلادهم ليس تفضلا منهم؛ بل هو واجب عليهم وإلا ناقض فعلهم دعواهم ومرجعيتهم.

  • إن هذا الاعتراض مبناه الاعتماد على مبدأ المعاملة بالمثل، وهذا يعني أنه لا يعترض على أصل المنع، وإنما اعتراضه على كون هذا المنع مقابلا لجميل أسدوه إلينا وهو السماح لنا بالدعوة إلى الإسلام في بلادهم، ومقتضاه أنهم لو أساؤوا إلينا فعلينا أن نسيء إليهم، ومقابلة السيئة بالسيئة ليس من خلق المسلم ولا من شيمه، بل الواجب عليه التعامل مع الجميع بمبادئه بغض النظر عن فعلهم هم معه، وفي الأثر عن حذيفة بن اليمان “لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا”[5]

والإسلام لم يأت ليقرر مبدأ المساواة المطلقة، وإنما جاء مرسيا دعائم العدل كما قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر مخاطبا رستم الفارسي “إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”[6] ولم يقل: إلى مساواة الإسلام

“فالإسلام لم يظلم أحدا في حريته، ولكنه لم يساوِ بين المؤمنين حقا وبين المنافقين؛ ولهذا لم يسمح لهم ببناء مسجد الضرار، ومع أنه أعطى أهل الكتاب الحرية في دينهم إلا أنه لم يساو من كل وجه بينهم وبين ما للمؤمنين، ففرّق بينهم في أحكام النكاح والزكاة والقصاص وغيرها، والمساحة التي أعطاها إياهم تحقق فيهم العدل وإن لم تحقق لهم المساواة مع غيرهم من المسلمين”[7]

  • يخطئ من يصف الغرب اليوم بأنه نصراني، بل هو علماني ولا يدعو للنصرانية (في الغالب) لذلك لا إشكال عنده في تغيير النصارى لدينهم، فليست النصرانية مما يحتل مرتبة (الثوابت) معه، لذلك من الطبيعي أن يسمحوا لنا بالدعوة إلى ديننا، بل يكون الغريب ألا يسمحوا بذلك، ولكن إذا اعترض المسلم أو أنكر شيئا من ثوابتهم فإن القاعدة ستتغير، فالحرية صنم من تمر، إذا جاع صاحبه أكله، فمتى كانت الدعوة مخالفة لأيدولوجيات الدولة وتوجهها فإنها تواجه بالقمع والتوقيف، وحتى لا يكون الكلام مرسلا سأذكر بعض الأمثلة على ذلك:
  • في بريطانيا قامت هيئة الرقابة على المصنفات الفنية برفض عرض فيلم وثائقي على شاشات التلفاز عن الراهبة (تريزا)؛ بحجة أنه يمكن تأويله على أنه إهانة للدين النصراني[8]
  • في فرنسا اتهم القضاء المفكر روجيه جارودي سنة 1998م بتهمة معاداة السامية بسبب كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)[9]
  • في ألمانيا يحظر بيع أو شراء أو طباعة كتاب (كفاحي) لهتلر، ويحظر طباعة أو توزيع أي مقال أو كتاب يؤيد النازية بأي شكل من الأشكال[10]
  • الفرق بين المسلمين وغيرهم في نظرتهم للإنسان، فالإنسان عند الغرب هو الإله المعبود من دون الله، وشهوته وهواه مقدّمة على كل مقدّس “أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا” ولذلك كانت حرّيته أمرا مقدّسا عندهم، فلا يجد المرء منهم غضاضة في الإساءة لدينه ولا في الإساءة إلى وطنه، ولكنه يثور غضبه متى انتُهكت حريته ومُنع مما يراه حقا مشروعا له، أما نظرتنا -نحن المسلمين- للإنسان فهي مختلفة، فالإنسان عبد لله تعالى، وما جاء إلى هذه الدنيا إلا لتحقيق هذه العبودية بامتثال أوامره عز وجل واجتناب نواهيه، قال تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وعليه فمقام العبد الامتثال والإذعان لما أُمر به، والوقوف عند الحدود التي حُدّت له، ولا ينظر إلى النعم المسوقة له والخيرات التي سُخّرت له نظرة استحقاق، وإنما إباحتها له منّة من الله خالصة، يقول الشاطبي “ما هو حق للعبد إنما يثبت كونه حقا بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقا بحكم الأصل”[11] فلا تكون حرية التعبير عن الرأي إلا في حدود ما أباحه الله تعالى، وما يتجاوز ذلك لا حق للإنسان في المطالبة به ولا اقتحام حدوده.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] تفسير البغوي (2/283)

[2] رواه ابن ماجة (4019)

[3] كارل بوبر التسامح والمسؤولية الفكرية، ص86.

[4] لتفصيل الموضوع انظر كتاب: (نقد التسامح الليبرالي) فقد فصّل صاحبه مرجع التسامح الليبرالي وعلاقته بالديموقراطية والنسبية.

[5] يرويه البعض مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقفه على حذيفة، وفي رفعه مقال والله أعلم.

[6] تاريخ الطبري (3/518)

[7] فضاءات الحرية، ص.83

[8] حرية التعبير عن الرأي عند الغرب، أحمد الدغشي، مجلة البيان العدد (222) ص.62

[9] حرية التعبير في الغرب، شريف عبد العظيم، ص3.

[10] حرية التعبير والرأي، حمدي عبد الله عبد العظيم، ص 136. والنقول الثلاثة السابقة مستفادة من كتاب (فضاءات الحرية) لسلطان العميري وهو بحث قيّم في بابه.

[11] الموافقات (3/316)

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.99 ( 38 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى