العقيدة والفكر

“وقــرن فــي بيـوتكــن”

أنيسة بنت علي بن ناصر الفارسية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي كرم المرأة بالإسلام، والصلاة والسلام على خير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:

يقول الله تبارك وتعالى في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب “وقرن في بيوتكن”، قرأ نافع وعاصم “قَرن” بفتح القاف بمعنى: اقرَرن، أي: الزمن بيوتكن، فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ونُقلت حركتها إلى القاف، وقرأها الباقون بكسر القاف بمعنى: اقرِرن، أي: كنّ أهل وقار وسكون فحذفت الراء ونّقلت حركتها للقاف، وقرأ الجمهور “بيوتكن” بكسر الباء، وقرأها ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.

وفي هذا المقال أود أن أتحدث عن القراءة التي قرأ بها نافع وعاصم: “وقّرن في بُيُوتِكُن” والتي جاءت فيها قَرن بمعنى الزمن بيوتكن، فلماذا نسب الله تعالى البيت للمرأة؟ ولماذا خص الله في خطابه نساء النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهل هذا الأمر مقيد بهن دون غيرهن أم أنه مطلق للنساء عامة؟ وهل يكون لزوم المرأة لبيتها أمر مطلق؟ وما الحكمة من لزوم المرأة لبيتها؟ وماذا يقول الفقهاء عن خروج المرأة من البيت؟.

البيوت المذكورة في الآية الكريمة هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ورغم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تنسب إليه صلى الله عليه وسلم بل نسبت إلى زوجاته، فنسب القرآن الكريم البيت للزوجة دون الزوج رغم تعب الرجل في بناء البيت ماديًا وتملكه شرعاً وقانونًا، وهذا يعد من لطائف القرآن الكريم ليجعل العلاقة بين المرأة والبيت علاقة وطيدة، فإضافة البيت للمرأة هنا يجعلها تزداد حرصاً على الاعتناء به، وتدرك أن كثرة خروجها منه قد يكون سبباً يسلب منها تشريفها بنسبة البيت لها، وأن ملازمة بيت الزوجية والاعتناء به يكون سببا لزيادة المحبة بين الأزواج، فهي تملك هذا البيت إن ملكت قلب زوجها بالحب، فإذا ملكت قلب زوجها كان امتلاكها لما يملك من الأشياء أسهل.

ويقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: إضافة البيوت إليهن-يقصد نساء النبي صلى الله عليه وسلم- لأنهن ساكنات بها أسكنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حجرة عائشة وبيت حفصة، وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهن لأن البيوت التي بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد، ولما توفيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يعطِ عوضًا لورثتهن.[1]

وقد رأيت أن البيوت قد نسبت للنساء في أكثر من موضع في القرآن الكريم كإضافتهن إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: “لا تخرجوهن من بيوتهن” فهنا نسب البيت لها رغم أنها مطلقة ووهبها حق السكنى فيه ما دامت معتدة، وفي قوله تعالى “وراودته التي هو في بيتها عن نفسه” نسب الله تعالى البيت لامرأة العزيز رغم أنها خانت زوجها بفعلها ذاك وهمت بالمعصية، فكأن المرأة مالكة البيت الفعلي لكونها القائمة بشؤونه، ويقول تعالى: “واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة” آيةٌ أخرى نسبت البيت للمرأة. ولكن عندما تعدت المرأة حدودها وضيعت بيتها بيدها أخذ الله منها هذا التكريم فلم ينسب البيت لها وذلك في قوله تعالى: “واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا” فهنا قال تعالى: البيوت ولم يقل: بيوتهن.

وقد يقول قائل لِمَ لم يُسحبُ هذا التكريم عن امرأة العزيز رغم أنها كادت أن تضيع بيتها بمراودتها يوسف عليه السلام، فلعل ذلك لأنها ما دامت لم ترتكب الفاحشة لم تُسلب هذا الشرف بل أمرها زوجها بالاستغفار وأمر يوسف عليه السلام بنسيان الواقعة من أجل الاستمرار في الحفاظ على بيت الزوجية هذا، فحفظُ البيوت وعدم تضييعها ومحاولة إصلاحها أمر عظيم.

أما عن توجيه الخطاب في الآية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم “يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا* وقرن في بيوتكن” فهو خطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولنساء المؤمنين عامة، لأن الخطاب لهن في مثل هذه الأمور هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى، “وإنما خص نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب تشريفاً لهن، لأنهن قدوة لسواهن”.[2]

ولئن أمر الله تعالى أمهات المؤمنين بهذا الأمر وهن صاحبات الحشمة والستر، فالأمر لغيرهن من النساء من باب أولى، ونساء المؤمنين تبع لأمهات المؤمنين في هذا الأمر وفي كل أمر جاء فيه الخطاب بهذه الصيغة إلا ما استثناه الدليل كقوله تعالى: “يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا” فهذا مثال على الخطاب الخاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهن.

“وقرن في بيوتكن” أي: “الزمن بيوتكن لا تخرجن إلا لحاجة شرع الله الخروج لقضائها” [3]. وفسرها القطب محمد بن يوسف أطفيش: “اثبتن فيها بمعنى لا تخرجن منها إلا لضرورة أو ما لا بد منه، وأما فيها فلهن التحرك”[4].

وقال سيد طنطاوي في تفسير نفس الآية: “أمرهن سبحانه بالاستقرار في بيوتهن وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية”[5].

فيتضح مما سبق ذكره من تفسيرات أن هذا الأمر ليس على إطلاقه، وإنما يصح للمرأة أن تخرج لحاجة شرعية ولقضاء حاجاتها التي لا تُقضى إلا بخروجها، وأكد ذلك سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن بقوله: “وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناءً طارئاً لا يثقلن فيه ولا يستقررن، إنما هي الحاجة تُقضى وبقدرها”[6].

ومما يؤكد هذا المعنى ما ورد في السيرة عن خروج الصحابيات رضوان الله عليهن لأداء الصلاة والحج، وخروجهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألنه في أمور دينهن فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله، تطهري، فاجتذبتها إلي فقلت: تتبعي بها أثر الدم.[7] وخروجهن لعيادة المريض وصلة الرحم، والمشاركة في الغزوات بمداواة الجرحى والمرضى وصنع الطعام، وما رُوي عن أم المساكين زينب بنت جحش أنها كانت تغزل الصوف وتدبغ وتخرز وتبيعه في السوق وتتصدق بثمنه على المساكين، وما رواه البخاري عن أم عطية قالت أمرنا أن نخرج

الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحُيَّض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب. قال: “لتلبسها صاحبتها من جلبابها”[8]، ومما يدل على ذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن”[9].

وقال بعض العلماء أن الحكمة في هذا الأمر-أمر ملازمة المرأة لبيتها وعدم الخروج إلا للضرورة- أن ينصرفن إلى رعاية شؤون بيتوهن، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن ولا يحسنها الرجال، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما، فللرجال أعمال من خصائصهم لا تحسنها النساء، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال، فإن تعدى أحد الفريقين عمله اختل النظام في البيت والمعيشة [10].

هذا وقد ذكر بعض الفقهاء قيوداً لجواز خروج المرأة المسلمة من البيت للحاجة من أهمها:

1-أن لا يخرجن متجملات أو متطيبات، وقد دل على ذلك ما رُوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات”[11] أي: غير متطيبات.

2-أن تكون الطريق مأمونة من وقوع المفسدة.

3-أن لا يفضي خروجها إلى اختلاطها بالرجال اختلاطا محرماً شرعاً والدليل عليه حديث أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن؛ فإنه ليس لكنَّ أن تحقُقنَ الطريق، عليكن بحافات الطريق. قال: فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.[12]

4-أن يكون خروجها على تستر تام، ويدل على ذلك ما رُوي عن نساء المهاجرات الأول أنهن شققن مروطهن فاختمرن بها عندما نزل قول الله تعالى “وليضربن بخمرهن على جيوبهن”، “عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها”[13].

5-أن يكون خروجها بإذن زوجها أو ولي أمرها، ويدل على ذلك ما رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها”[14]، فإن كانت تستأذن للخروج للمسجد فاستئذانها للخروج إلى غيره من باب أولى، ولو كان لها أن تخرج بلا استئذان لوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الخطاب للنساء آمراً إياهن بالخروج للمسجد دون أن يوجهه للرجال.

6-إن كانت في سفر فلا تسافر إلا مع ذي محرم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها”[15].

ختاماً: اللهم أصلحنا وأصلح بنا واستخدمنا ولا تستبدلنا، واجعلنا ممن اتبع أوامرك واجتنب نواهيك واستحق جنتك، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج22، ص11.

[2] محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط، ص182.

[3]  لجنة القرآن والسنة والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، المنتخب في تفسير القرآن الكريم، ص627

[4] محمد بن يوسف أطفيش، تيسير التفسير، ج11، ص297.

[5] سيد طنطاوي، التفسير الوسيط،ج11، ص206(المكتبة الشاملة الحديثة).

[6] سيد قطب، في ظلال القرآن،ج5، ص2859.

[7] البخاري، صحيح البخاري، ر314.

[8] البخاري، صحيح البخاري، ر351.

[9] مسلم، صحيح مسلم، ر2170.

[10] محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط،ج11، ص206(المكتبة الشاملة الحديثة).

[11] ابن حبان, صحيح ابن حبان, ر2214.

[12] أبو داود، سنن أبي داود، ر5272.

[13] أبو داود، سنن أبي داود، ر4102.

[14] البخاري، صحيح البخاري، ر5238.

[15] مسلم، صحيح مسلم، ر1339.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.06 ( 9 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى