بحوث ودراسات

هل يقول أبو صفرة بحرمة ربا الفضل؟

هل يقول أبو صفرة[1] بحرمة ربا الفضل؟

عبدالله بن أحمد بن سعيد السليمي

عندما كنت أكتب موضوع علة الربا عند الإباضية أردت التحقق من صحة ما ينسب إلى أبي عبد الله محمد بن محبوب[2] من أنه يقول بحرمة ربا الفضل[3]، ومن ضمن ما راجعته جامع أبي صفرة وتعليقات أبي عبدالله عليه، فوجدت ما يفيد صراحة أن ربا الفضل جائز عند أبي عبد الله إلا أنه استوقفني كلام أبي صفرة نفسه، ففيه ما يوحي أنه يقول بحرمة ربا الفضل خاصة أن كلامه قد أشكل على أبي سعيد وأبي عبدالله في تعليقاتهما عليه، لذلك أحببت أن أكتب في هذا الموضوع ليُبحَث هل يقول أبو صفرة بحرمة ربا الفضل؟

ولمناقشة الموضوع فإني سأنقل النصوص التي يمكن أن يستفاد منها القول بحرمة ربا الفضل ثم أقوم بتحليلها وبيان ما يقوي نسبة القول بحرمة ربا الفضل إلى أبي صفرة كما سأذكر ما قد يقدح في صحة هذه النسبة أيضا بإذن الله تعالى، وكل نصوص أبي صفرة منقولة من كتاب من جامع أبي صفرة مع تعليقات أبي عبدالله وأبي سعيد وآخرين بجمع وترتيب الأستاذ إبراهيم بن علي بولرواح، فسأقتصر على ذكر الصفحة فقط بعد النص مباشرة.

  • قال أبو صفرة: “قلت: أرأيت الرجل يشتري بيض الدجاج ببيض البط بيضتين ببيضة يدا بيد؟ قال: لا بأس بذلك، قلت: لم؟ قال: لأنه لا يكال ولا يوزن، ولأنه مختلف ليس بواحد” (ص134-135)، فإذا كان أبو صفرة يرى جواز ربا الفضل فلماذا يعلل الجواز بهاتين العلتين، وهما أن البيض غير مكيل ولا موزون وأنه مختلف، ولو كان يرى جواز ربا الفضل لقال: جائز لأنه يدا بيد.
  • قال أبو صفرة: ” قلت: فما ترى في لبن الغنم بلبن البقر ولبن البقر بلبن اللقاح وفي سمن البقر بسمن الغنم اثنتين بواحد؟ قال: لا بأس به. قلت: لم؟ قال: لأنه مختلف.”(ص136-137) فتعليله بالاختلاف يوحي بما سبق بيانه في النص السابق. وقال أبو سعيد تعليقا على التعليل بالاختلاف: “ولو لم يختلف في بيعه لو كان من لبن واحد من صنف واحد مثلا بمثلين يدا بيد لا بأس به في قول أصحابنا فيما عندي”(ص136-137).
  • وقال أيضا: ” قلت: فما ترى في رطلين من زيت مطبوخ بأربعة أرطال من زيت يدا بيد؟ قال: لا بأس.

قلت: فما ترى في رطلين من زيت بأربعين رطلا من زيتون، ولا يدري ما فيه من الزيت، ولا يعلم فيه رطلين أو أكثر؟ قال: لا خير فيه، قلت: لم؟ قال: لأنه يأخذ مثل زيته وفضل ما بقي من الزيتون. قلت: فما ترى في رطل من زيت بنصف الربع زيتونا، وهذا يعرف أنه لا يكون فيه فضل ولا قريب؟ قال: لا بأس. قلت: لم؟ قال: ما خرج من زيت كان بمثله من هذا، وما بقي من الرطل فهو بفضل الزيتون. وقال: إذا كان يدا بيد فلا بأس. “(ص135)

وفي هذا النص قد يتبادر إلى الذهن أن أبا صفرة يقول بجواز ربا الفضل حيث جوز رطلين من زيت بأربعة أرطال من زيت إلا أن الجواز قد لا يكون بسبب جواز ربا الفضل، وإنما بسبب اختلاف الجنسين حيث إن الرطلين مطبوخان والأربعة غير مطبوخة، ويتأيد هذا الأمر بما جاء بعده حيث منع رطلين من زيت بأربعين رطلا من زيتون، ولا يدري ما فيه من الزيت ولا يعلم فيه رطلين أو أكثر؟ وعندما سئل عن السبب قال: لأنه يأخذ مثل زيته وفضل ما بقي من الزيتون، والمسألة كما يبدو من سياقها يدا بيد، ولو كان يبيح ربا الفضل ما منع هذه المعاملة، وقد يقال بأن المنع لكونها نسيئة، ولكن يشكل على هذا الاحتمال المسألة التي تليها وهي قوله: “قلت: فما ترى في رطل من زيت بنصف الربع زيتونا، وهذا يعرف أنه لا يكون فيه فضل ولا قريب؟ قال: لا بأس”، فلو كان المنع السابق لأجل النسيئة لمَ أباحه في هذه المسألة وما فائدة قوله: “وهذا يعرف أنه لا يكون فيه فضل ولا قريب” إذا كان الجواز في هذه المسألة الأخيرة لكونها يدا بيد؟ ثم إنه علل سبب إباحته لذلك فقال: “ما خرج من زيت كان بمثله من هذا، وما بقي من الرطل فهو بفضل الزيتون“، وهذا يذكرنا بمسألة مدي عجوة بمد عجوة ودرهم، وهذه المسألة مفروضة عند القائلين بحرمة ربا الفضل[4].

إن أفضل توجيه لكلامه هذا فيما يبدو لي هو أنه يرى حرمة ربا الفضل.

ومما يدل على ذلك استشكال أبي سعيد رحمه الله تعالى لكلامه حيث علق على هذه المسائل فقال: ” لا يبين لي معنى ما أراد بهذا، فإن كان بالنسيئة فمعي أنه لا يجوز، وإن كان يدا بيد فمعي أنه يجوز ولو كان يعلم أنه يخرج من الزيتون أكثر من الزيت أضعاف، ولا يجوز الزيت بالزيون عندي نسيئة على ما قال، لأن الزيت من الزيتون.”(ص135)

بقي الكلام على آخر عبارة في النص المذكور، وهي قوله: “وقال: إذا كان يدا بيد فلا بأس“، فإن هذه العبارة تدل صراحة على أنه يقول بجواز ربا الفضل إلا أني أتساءل، هل هي حقا “وقال” ؟ أم الصواب أنها: “وقيل”؟ ينتابني شك أنها حرفت من المبني للمجهول إلى المبني للمعلوم خطأ، ولكن قد يقدح في هذا الشك أنها تكررت أكثر من مرة كما سيأتي، فهل تكرر الخطأ كذلك؟ إلا إن كان التغيير عمدا من الناسخ إذ لم يتصور أن أبا صفرة يقول بحرمة ربا الفضل، فأتى بها بصيغة المبني للمعلوم عمدا ظنا منه أن هذا هو الصواب.

وقد تكون تلك العبارة من تعليقات أبي عبد الله أو غيره، فلم تتميز بسبب النسخ.

  • قال أبو صفرة:” قلت: فما ترى في قفيز من خل بقفيزين من تمر يدا بيد؟ قال: لا بأس به، قلت: لم؟ قال: لأن الخل فيه أكثر من التمر. قلت: وكذلك التمر بالنبيذ؟ قال: نعم.” (ص136). وهذه تشبه مسألة مد عجوة ودرهم كما تقدم، وهي مفروضة عند من يقول بحرمة ربا الفضل.
  • قال أبو صفرة: ” قلت: فما ترى في قفيز من تمر يابس بقفيز من رطب؟ قال: لا خير فيه، لأنه يجف فينقص. قلت: فما ترى في قفيز من عنب بقفيز من زيت (لعلها زبيب)، والعنب إذا جف نقص؟ قال: لا بأس به. قلت: لم؟ قال: ما فيه من ماء يفضل ما فيه من الزيت عليه”(ص136) ، فهذا التعليل يذكر بحديث أينقص الرطب إذا جف؟ وهو وارد في منع ربا الفضل.

ولكن يشكل عليه ما جاء في المسألة بعده حيث قال:”فما ترى في قفيز من عنب بقفيز من زيت (كذا وجدتها، ولعلها زبيب) والعنب إذا نقص جف؟ قال: لا بأس به.” (ص136) فظاهر قوله هنا أنه يرى جواز ربا الفضل إلا أن الذي يشكك في ذلك تعليله للجواز بقوله: “قلت لم؟ قال: ما فيه من الماء بفضل[5] ما فيه من الزيت (الزبيب) عليه”، فظاهر هذا التعليل أن الجواز لأمر آخر، وأن المسألة من باب مسألة مد عجوة ودرهم بمدي عجوة.

والقول بجواز العنب بالزبيب مع حرمة التمر بالرطب مروي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد جاء المحيط البرهاني في الفقه النعماني (ج6، ص353): “وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح بيوعه: أنه يجوز بالإجماع إذا تساويا كيلاً يداً بيد، وأما بيع العنب بالزبيب، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز إذا تساويا كيلاً هكذا ذكر في «نوادر هشام»، وذكر في موضع آخر أن على قول أبي يوسف إنما يجوز هذا البيع على سبيل الاعتبار، وتفسيره: أن يكون الزبيب أكثر حتى يكون الزبيب بالزبيب من العنب، والباقي بإزاء الماء العالمة للحال، وعلى قول محمد: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن بيع العنب بالزبيب نظير بيع التمر بالرطب على قول أبي حنيفة يجوز إذا تساويا كيلاً، أو على قولهما: لا يجوز، فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخسي لا يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين بيع العنب بالزبيب، وبين بيع الرطب بالتمر، وعلى ما ذكره هشام يحتاج الى الفرق.

والفرق: أن الرطوبة التي في الرطب من أجزاء التمر، ولهذا ينطلق عليه اسم التمر، ولو كانت الرطوبة شيئاً آخر وأجزاء التمر شيئاً آخر لكان لا ينطلق على الرطب اسم التمر كما لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، فإذا اعتبرت الرطوبة من أجزاء التمر كانا شيئاً واحداً إلا أن المجانسة بينهما قائمة من وجه دون وجه، والمماثلة في الحال في مثل هذا لا يكتفي بجواز البيع، فأما الرطوبة التي في العنب ليست من أجزاء الزبيب ولهذا لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، بل هما شيئان ماء وتفل فكانا كالسمسم مع الدهن. “اهـ[6]، وعلى هذا يكون تفسير كلام أبي صفرة أن العنب إذا نزع منه الماء كان أقل مما في قفيز الزبيب، فما زاد في قفيز الزبيب يقابل بما في العنب من ماء، والله أعلم.

إلا أنه روي عن أبي يوسف الرجوع عن قوله في العنب بالزبيب، فقد جاء في عيون المسائل للسمرقندي: “العنب بالزبيب: وقال أبو يوسف: العنب بالزبيب لا بأس به، والعنب أقل يداً بيد؟ وروى هشام عن محمد قال: لا بأس بقفيزي زبيب بقفيز عنب للماء الذي في العنب، فقلت له: إن قلت يجوز من قبل الماء فالرطب بالتمر يجوز لأن في الرطب ماء، فلم أزل أناقشه حتى رجع عن قوله في العنب بالزبيب وقَالَ: لا خير فيه.”اهـ[7].

  • قال أبو صفرة: “قلت: فما ترى في رطل من سمن بخمسة أرطال من لبن وهو يعلم أن ليس في اللبن رطل من سمن؟ قال: لا بأس به، (وفي نسخة بذلك يكون فضل السمن بما بقي من اللبن بعدما يخرج منه السمن)

قلت: فإن لم يعلم ما في اللبن من السمن أيكون أقل أو أكثر؟ قال: لا خير فيه. وقال (أظنها قيل): إذا كان يدا بيد فلا بأس” (ص137-138)، وهذا النص واضح في حرمة ربا الفضل لولا العبارة الأخير التي أظنها محرفة، ولذلك علق أبو سعيد على قوله هنا: “هذا لا نعلمه في قول أصحابنا في النقد، والله أعلم ما أراد بهذا”

  • قال أبو صفرة: ” قلت: فما ترى في قوصرة بقوصرتين من تمر؟ قال: أكرهه، قلت: لم؟ قال: لأني لم أعد الظرف وإنما هو بمنزلة النوى، وأما القياس، فإنه جائز لأن ظرف هذين بتمر هذه بظرف هاتين، وقال: يدا بيد لا بأس، قال أبو سعيد: لم أقف على معنى هذا، والله أعلم” (ص137)

يبدو أن أبا صفرة يميل إلى جعل المسألة من باب ربا الفضل، مع أنه ذكر أن القياس جوازها إذا قيل بأن الظرف من القوصرة بالتمر من القوصرتين، والظرفين من القوصرتين بالتمر من القوصرة، فيكون مختلفا، إلا أنه لم يلتفت للظرف كما لم يلتفت المانعون من التمر بالتمر تفاضلا للنوى، ولا يقال بأن فرض المسألة إذا كانت نسيئة، لأنه في النسيئة لا يمكن أن يقال بجوازها قياسا، وأما عبارة: “وقال: يدا بيد فلا بأس” ، فقد تقدم أنها قد تكون من تعليقات أبي عبدالله أو غيره أو أصلها “قيل” وحرفت بسبب النسخ، وذلك ليستقيم الكلام.

نصوص توحي أن أبا صفرة يقول بجواز ربا الفضل:

  • قال أبو صفرة: “قلت: فما ترى في عنب أبيض بعنب أسود يدا بيد مثلا بمثلين؟ قال: لا بأس به؟” (ص137) فهذا شبه صريح في الجواز إلا أن يقال: إن السبب في الجواز هنا هو اختلاف العنب الأسود عن العنب الأبيض.
  • قال أبو صفرة: “قلت: فما تقول في درع من حديد بدرع أثقل منها؟ قال: لا بأس به.

قلت: وكذلك كل شيء من الحديد مصنوع قد خرج من الوزن.

قلت: فما ترى بنصل سيف بآخر أثقل منه ليس مع أحدهما منه شيء؟ قال: لا بأس به.

قلت: وغير مصنوع بوزن وأحدهما خفيف ومع الخفيف درهم أو عروض أو شيء من الطعام أو غيره؟ قال: لا بأس به.” (ص114)

فظاهر هذا النص جواز ربا الفضل إلا أنه يحتمل أن يكون سبب الجواز هو أنها مصنوعة أي خرجت عن كونها موزونة التي هي علة الربا عند أبي صفرة كما يفهم من كلامه، ولذلك حين سئل عن بيع الحديد بالحديد موزونا وأحدهما خفيف وكان مع الخفيف شيء من دراهم أو عروض أو طعام أو نحوه ليقابل الزيادة في الآخر لم ير فيه ربا.

 

 

نص مشكل من كلام أبي صفرة:

  • قال أبو صفرة: “قلت: فما ترى في طيلسان بطيلسانين يدا بيد؟ قال: لا بأس به. قلت: فإن كان صوفا كله؟ قال: وإن كان صوفا كله.

قلت: لم؟ قال: لأنه قد خرج من الوزن وصار ثوبا.

قلت: فما ترى فيه؟ قال: لا خير فيه.

قلت: لم؟ قال: لأنه نوع واحد.

قلت: فما ترى في مسك بمسكين يدا بيد؟ قال: لا بأس به.

قلت: أيكره نسيئة؟ قال: نعم.

قلت: فما ترى في كساء من خز بكساءين من خز يدا بيد؟ قال: لا بأس به.

قلت: والخز يوزن وهو منسوج؟ قال: لأنه فيه غير ملحمة ليست بخز، فما كان من فضل في أحدهما فهو بذلك.”(ص111)

هذا النص مشكل، فقد أجاز أولا طيلسان بطيلسانين يدا بيد؟ وربما كانت الإجازة هنا لأنه خرج عن الكيل والوزن اللذين هما علة الربا عند أبي صفرة كما يفهم من كلامه، ويدل على ذلك تعليله للجواز بقوله: ” لأنه قد خرج من الوزن وصار ثوبا.” إلا أنه رجع فقال حين سئل: فما ترى فيه؟ ” لا خير فيه”، فهل يفهم من هذا النص أنه متردد في بيع طيلسان بطيلسانين يدا بيد أم أن قوله: “لا خير فيه” يكون في حال بيعهما نسيئة، أظن أن هذا الاحتمال أرجح من القول بأنه تردد في الحكم خاصة أنه قال بعد ذلك في مسك بمسكين يدا بيد جائز، فعندما سئل عن النسيئة كرهه، ويكون قوله: لأنه من نوع واحد تعليلا لمنع النسيئة في بيع طيلسان بطيلسانين.

وأما تجويزه لمسك بمسكين يدا بيد فقد يظن البعض أنه بسبب جواز ربا الفضل عنده إلا أني أظن أن السبب في ذلك هو أن المسك هنا معدود بدليل تثنيته في قوله ” مسكين”، فلو كان يباع بالوزن أو الكيل ما قال مسكين أو لأنهما مسكان من نوعين مختلفين.

وأما إجازته لكساء من خز بكساءين من خز، فسببه كما قال أبو صفرة ما به من اللحام الذي يمكن من خلاله جعل الفضل في أحدهما مقابلا بذلك اللحام، والله أعلم.

وأخيرا، فهذا النص أقرب إلى القول فيه بمنع ربا الفضل من القول بجوازه، ولذلك استشكله أبوسعيد رحمه الله تعالى فقال: ” كل شيء من البيوع عند أصحابنا يد بيد إذا لم يدخل فيها شيء من الشرط يفسدها فلا يقع فيها ربا، وإنما الربا في النسيئة، ولا يجوز ثوب خز بثوبي خز ولو كان فيها من اللحام ما يفضل بعضه على بعض، وعلى كل حال لا يجوز ثوب خز بثوبي خز، ولا يبين لي في ذلك اختلاف، وكذلك عندي مسك بمسكين يجوز نقدا ولا يجوز نسيئة.”

والخلاصة:

أن ما أغلب ما ذكره أبو صفرة من الصور التي قد يفهم منها جواز ربا الفضل علل جوازها باختلاف الجنسين أو لكون المبيعين خرجا عن الكيل والوزن، أو لكون التفاضل لم يتحقق بسبب وجود شيء آخر مع البدل الأقل يقابل الزيادة في البدل الآخر، وربما لم يصرح بهذه العلة وإنما تفهم من سياق كلامه، وأما عبارة: “وقال: إذا كان يدا بيد فلا بأس”، فأظن أنها قد حرفت والأصل أنها: “وقيل”، فهي بهذا أكثر تناسقا مع سياق الكلام، وهناك صور تفيد حرمة ربا الفضل مثل منعه بيع التمر بالرطب، وأخرى تفيد جوازه مثل جواز بيع العنب الأسود بالعنب الأبيض مع اختلاف القدر يدا بيد، وربما كان كلام أبي صفرة هذا هو السبب فيما نسبه أبو يعقوب الوارجلاني خطأ إلى أبي عبدالله من القول بحرمة ربا الفضل[8] خصوصا أن أبا عبدالله ممن علق على كلام أبي صفرة، أما أبو عبدالله فواضح من تعليقاته على كلام أبي صفرة أنه يقول بجواز ربا الفضل إلا إن كان تراجع عن قوله بجواز ربا الفضل، وقال بحرمته ونقل عنه أبو يعقوب ذلك وغاب عنا تراجعه في هذا، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

تتمة وفوائد:

  • مما يؤيد أن أبا صفرة يرى علة ربا البيوع هي الكيل والوزن قوله في باب السلم “قلت: لو أن رجلا أسلم شيئا مما يكال فيما يوزن وما يوزن فيما يكال؟ قال: لا خير فيه.”، فجعل علة المنع من ذلك الوزن والكيل إلا أن أبا عبدالله قيد ذلك بالطعام، وأما غير الطعام فلا بأس، وكذلك إذا اختلف النوعان من غير الطعام فلا بأس (ص102)، وهو أيضا يقول بمنع بيع الشيء بجنسه نسيئة ولو لم يكن من المكيلات والموزونات كما قال في بيع طيلسان بطيلسانين نسيئة ومسك بمسكين.
  • ورد القول بكراهة ربا الفضل في فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم للشيخ عبد الله بن محمد الخراسيني (ج2، ص200): “وكره بيع الفضة والذهب بالذهب يدا بيد إذا كان فيه تفاضل. قال غيره: وأكثر القول عندنا جواز ذلك”
  • نص مشكل لا أعرف له توجيها:

قال أبو صفرة: “قلت: فما ترى في دهن ورد برطلين دهن حنّاء؟ قال: لا بأس به كلّه يدا بيد، فأمّا نسيئة فلا خير فيه. قلت: أو رطلين وردا برطلين دهن يدا بيد، قال: لا بأس به.قلت: لِمَ؟ قال: أمّا الذي رخّصت فيه بالنّسيئة من قبل أنّه كلّه نوع واحد، ولا يرجع واحد منهما إلا أن يكون مثل صاحبه، فلذلك زعمت أنّه لا بأس يدا بيد اثنين بواحد. وأمّا الذي كرهت فيه النّسيئة من قبل أنّه كلّه من نوع واحد.

قلت: ولِمَ، وهو إنّما يكال كيلا؟ قال: كلّ كيل بالرّطل فهو عندنا والوزن سواء في هذا كلّه، وإن كان يُكال أو يوزن فهو مكروه نسيئة.

قال أبو سعيد: لا يَبِينُ لي معنى ما قال هذا.” (ص137).

الفرض في هذا النص أنه ليس من باب ربا الفضل لأن البدلين مختلفان دهن ورد بدهن حناء، والإشكال أنه يشير إلى شيء رخص فيه نسيئة ويعلل سبب الترخيص مع أنه لم يرد فيما سبق شيء رخص فيه نسيئة، ثم إنه أشار إلى ما يمنع منه نسيئة وعلله بالعلة ذاتها التي ذكرها في جواز الأول نسيئة، وهي أنه كله من نوع واحد، فكيف تكون العلة نفسها سببا للترخيص والمنع؟!

  • أشار أبو صفرة في مواضع من جامعه إلى الاستحسان الأصولي المعروف عند الحنفية، فقد جاء في جامعه (ص100-101): ” قلت: هل يجوز أن يسلم في الطّعام فيعطي رأس ماله منه جارية، أو ثيابا، أو شيئا من العروض مِمّا لا يكال ولا يوزن؛ يسلم ذلك بالطّعام بعينه؟ قال: هذا جائز.

قلت: فهل تعلم رأس ماله في هذا وقيمته؟ قال: لا. قلت: لِمَ أجزته؟ قال: لأنّه فعل الناس، وهذا استحسان منّا لا يستقيم غيره، ولو كان هذا فاسدا لم يستطع أن يبيع ثوبا بطعام نسيئة، ولم يستطع أن يكتري أجيرا ولا دابّة، ولا يثبت بطعام، وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه اشترى جزورا بتمر، والتّسلم إنّما هو شراء.

قلت: أرأيت الرّجل يسلم في الطّعام الدّراهم وهو لا يعلم ما وزنها، والدّراهم تبرا، ويسلم فيه الفضّة والذّهب، ولا يعلم ما وزن ذلك؟ قال: السّلم فاسد. قلت له: لِمَ أفسدته في هذا؟ قال: قد أخذت فيه بالقياس، وأخذت في الباب الأوّل بالاستحسان، لأنّه إذا لم يعلم ما وزن الورق والفضّة والذّهب فسد السّلف. قلت: من أيّ وجه أفسدته؟ قال: الذي قلت لأنّه لا يعلم من رأس ماله، والأثر الذي بلغنا عن ابن عمر أنّ رجلا أسلم دراهم في حنطة وشعير وتمر، فكره ذلك ابن عمر.

وجاء (ص109): “في السّلم في الطّعام بالحيوان، أو بدراهم لا يعلم وزنها؟ قال: بالحيوان جائز استحسانا، وفي الدّراهم لا يجوز قياسا.”

ومن أمثلة الاستحسان من غير تصريح ما ذكر سابقا (ص137): ” قلت: فما ترى في قوصرة بقوصرتين من تمر؟ قال: أكرهه. قلت: لِمَ؟ قال: لأنّي لم أعدّ الظرف، وإنّما هو بمنزلة النّوى. وأمّا القياس فإنّه جائز، لأنّ ظرف هذين بتمر هذه بظرف هاتين”

لتحميل المقال اضغط هنا

المراجع:

  • أبو صفرة، من جامع أبي صفرة وفقه، جمع وترتيب: إبراهيم علي بولرواح، (سلطنة عمان: مكتبة مسقط، ط1، 1433هـ/2012م).
  • الخراسيني، عبدالله بن محمد بن حنبش، فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم، تحقيق: محمد صالح ناصر، مهني عمر التيواجني، مسقط، ط1، 1415هـ/1994.
  • السمرقندي، نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عيون المسائل، تحقيق: صلاح الدِّين الناهي، (بغداد: مطبعة، دط، 1386هـ.) من المكتبة الشاملة.
  • النجاري، محمود بن أحمد بن الصدر، المحيط البرهاني، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، دط، دت). من المكتبة الشاملة

[1] – أبو صفرة عبد الملك بن صفرة، عالم فقيه من علماء القرن الثاني الهجري وأول القرن الثالث الهجري، من البصرة، حدث عن محبوب بن الرحيل وسأل أبا أيوب وائل بن أيوب، وحفظ عن جهانة ابنة أبي عبيدة، ونقل عنه محمد بن محبوب، وغيره، من آثاره: جامع أبي صفرة، وكتب بعثها لمحمد بن محبوب، ورواياته عن الربيع. معجم الفقهاء والمتكلمين الإباضية (قسم المشرق): فهد بن هاشل السعدي، ط1: 1428هـ/2007م، مكتبة الجيل الواعد-مسقط، ج2 ص329.

[2] – أبو عبد الله محمد بن محبوب بن الرحيل القرشي المخزومي، عالم فقيه، وقاض نزيه، وداعية مجتهد، وسياسي محنك، ولد بالبصرة، نشأ في أسرة علم وصلاح، أخذ عنه كثير من أهل العلم، ارتحل إلى عدة بلدان واستقر بعمان في آخر المطاف، له مجموعة من الكتب والآثار، توفي 260هـ. المرجع السابق، ج3 ص154.

[3] – المشهور في المذهب الإباضي أن ربا الفضل جائز، وأن الحرمة في النسيئة فقط اتباعا لابن عباس في ذلك، وهم لا يرون رجوعه عن قوله بجواز ربا الفضل، ينظر: الخراساني، مدونة أبي غانم الخراساني (مسقط، مكتبة الجيل الواعد، ط1، 1426هـ/2006م)، ص 478-479.

[4] – مسألة (مدي عجوة بمد ودرهم عجوة) لها علاقة بربا النسيئة كذلك فيما لو تأخر الجنس المماثل فلو عجل الدرهم وأجل مد العجوة كانت ممنوعة بسبب النساء للجنس المماثل، ولكن حمل كلام أبي صفرة على هذا المعنى بعيد فيما يبدو.

[5] – في الكتاب وردت “يفضل”، ولكني كتبتها بفضل لأنها أقرب للتعليل كما سيأتي عن الحنفية، والله أعلم.

[6]النجاري، محمود بن أحمد بن الصدر، المحيط البرهاني، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، دط، دت). من المكتبة الشاملة، ج6، ص353.

[7] – السمرقندي، نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عيون المسائل، تحقيق: صلاح الدِّين الناهي، (بغداد: مطبعة، دط، 1386هـ) من المكتبة الشاملة، ص158.

[8] – الوارجلاني، يوسف بن إبراهيم، الدليل والبرهان لأهل العقول، تحقيق: سالم بن حمد الحارثي، (سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، دط، 1417هـ/1997م)، ج2، ص106.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.59 ( 4 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى