العقيدة والفكر

منــارات في عالــم القــراءة

إبراهيم بن عبدالله بن سالم آل ثاني 

القراءة عالم كبير واسع، يضم في جنباته المولعين بالقراءة والشغوفين بها، الذين لم تزل القراءة منبع بهجتهم، وشريعة أنسهم وسرورهم، وموطن راحتهم وهنائهم، ومرابعهم التي تروح وتغدو فيها أوقاتهم، فتجد للذين يتفيؤون ظلال حدائقها الوارفة، ويرتعون في جناتها الغناء، ويشدون في رباها الخضراء؛ في الحديث عنها شجونٌ وذكريات، وآلام وآمال، وتحديات وأمنيات، وبمناسبة اقتراب افتتاح معرض الكتاب الذي عظم اشتياقه لطول غيابه بسبب هذا الوباء –رفعه الله عن عباده بلطفه-؛ تذكرت ملاحظات دونتها منذ سنين عن القراءة، فأخذت أنبش في دفاتري القديمة حتى وقعت عيني عليها، فأخذتها ونفضت عنها غبار السنين، ورممت باليها وأصلحت مبانيها، لتخرج بحلة زاهية وبزة جميلة؛ ولا شك أنه مما لا يجادل فيه عاقل منزلة القراءة الرفيعة وأهميتها العظيمة، وكافيك من جميع ما يقال في ذلك أول ما نزل من آيات الذكر الحكيم على قلب خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1-5]، فدونك هذه النقاط، وهي إلى المختصين بعلوم الشريعة الغراء أقرب.

  • القرآن الكريم أولى كتاب يقرأه القارئ، فهو الحق المطلق الذي يصحح به القارئ الأفكار التي يجدها مبثوثة في الكتب الأخرى، وينظر بنوره مدى قربها وبعدها من الحقيقة، وكم من قارئ يجمع بقراءته الجهالات حين لا ينظر بنور الله!
  • العناية بالكيفية الصحيحة النافعة في القراءة أولى من العناية بكمية المقروء من الصفحات أو الكتب، فكم تجد اليوم ممن يفخرون بإنجازاتهم من قراءة العدد الكبير من الكتب مع ظهور ضحالة التفكير وضعف الملكات العلمية واختلاط المعلومات، وهذا الأمر نسبي تضبطه أحوال عدة؛ فكثرة المقروء ممدوحة في أحوالٍ لا تؤدي فيها إلى الإخلال بالفهم واستيعاب المقروء، وفي آية العلق إشارة مهمة لمعنى النظر في الكيفية، فالأمر بالقراءة جاء مقيدا باسم ربك الذي خلق، ومما ذكر فيها من المعاني “أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك … أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك ..[أو].اقرأ باسم ربك أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله”([1])، وفي هذا الأمر قواعد كثيرة يقطف الآخذ بها ثمرات القراءة دانية يانعة.
  • لم تزل –ولن تزال- وجهات النظر مختلفة في اختيار الكتب التي ينبغي للقارئ التدرج في طلبه للعلم عليها وفي ترتيبها، فلا يمكن أن يتبع الطالب منهجا متفقا عليه، فلا عجب من أن تجد أحدا يقدم كتابا على غيره وآخر يؤخره، ومن يعجبه هذا الكتاب ومن يعجبه غيره، وهكذا؛ فلا ينبغي للقارئ أن يغير من منهجه عند سماعه لأي وجهة نظر جديدة، فيتبع كل يوم منهجا، بل يتبع ما يراه أنفع وأجدى بعد الأخذ من ذوي الخبرة والمشورة والنظر، ومراعاة الظروف والأحوال المناسبة، والثبات على منهج مرجوح خير من القفز بين مناهج أرجح.
  • لا يمكن للقارئ أن يستغني بقراءة الكتب عن المعلم وصاحب الاختصاص ولا عن مشورته في اختيار ما يقرؤه، لا سيما في أوائل طلبه للعلم، فالمشورة تقرب المسافات وتختصر الجهد.
  • ينبغي للمعلم أن يجعل للطالب شيئا من حرية الاختيار، وأن يراعي الرغبة الذاتية له لا سيما بعد أن يقرأ أكثر من كتاب في الفن، فلا يلزمه أن يقرأ كتابا يرغب عنه إلى غيره والحال أن الكتابين متقاربان في أغلب المعايير التي لأجلها ينتقى الكتاب، وهذا في المحاضن التربوية العلمية.
  • على الطالب والمعلم أن يلاحظا ما يقتضيه الواقع العلمي وغيره مما يحيط بالطالب، حيث يؤثر ذلك على جدوله ومنهجه وطريقة تعلمه، وذلك كملاحظة المرحلة العمرية التي هو فيها، والقدرات التي يمتلكها، والمؤسسة العلمية التي يدرس فيها، والمعلمين الذين يستطيع الاستفادة منهم في ذلك الحين، والحلقات العلمية التي يستطيع الانضمام إليها، وهكذا، ثم يسير بناء على تلك المعطيات في التقديم والتأخير، والكمية والكيفية، ونحو ذلك.
  • ينبغي للقارئ أن يبدأ بما يتعلق بحضارته وأمته، ثم ينتقل إلى ما يتصل بالحضارات والأمم الأخرى، حينما يقرأ في التاريخ والأدب والروايات مثلا، وكذلك في الفقه -مثلا- يبدأ بدراسة كتب مذهبه قبل غيرها، والعناية بها أولا، فما يعمل به ويسير عليه أولى بالبدء به، ثم ينطلق في ميادين العلم بعد ذلك.
  • من المهم الاعتناء بتقديم كتب علماء الفن المتخصصين على كتب غيرهم، فلا يستقيم أن يقتصر على كتب المتأخرين في النحو ويترك كتب ابن هشام وابن مالك مثلا، أو يتهاون في قراءة كلام أئمة المذاهب والفقهاء المجددين في دراسته للفقه، وهلم جرا.
  • ينبغي أن يكون للقارئ اعتناء بالكتب الأكثر رواجا وشهرة في العلوم التي يدرسها، فلا يفوته الاطلاع عليها والقراءة منها إن لم يتمكن من قراءتها.
  • من المهم الاعتناء بتقديم الكتب المنظمة المنسقة على غيرها في الدراسة، لتسهيل ضبط العلم وفهمه، لا سيما في بدء الطلب.
  • من الجدير بالعناية الكتب الأقدم زمنا، ما دامت يسيرة الفهم وشاملة ومضبوطة، لأن من جاء بعدهم ينقل عنهم غالبا، فيتعرف على مدى استفادة اللاحق من السابق، وتنكشف لديه بعض معالم خريطة مسير التأليف في ذلك العلم، أما إن كان يعسر فهمها لدى المبتدئ فإنه يبتدئ بغيرها أولا.
  • كثير من الكتب الحديثة تعد قنطرة عبور للكتب القديمة، فلا بد من المرور منها حتى يضبط مبادئ الفن ومصطلحاته ثم يقرأ الكتب القديمة.
  • من الجدير بالعناية أن يتعرف المتعلم على أمهات الكتب وأشهر العلماء في كل علم.
  • ينبغي للدارس أن يتدرج في قراءة الكتب من الأسهل والأقصر إلى ما هو أصعب وأطول، مع الأخذ برأي ذوي الاختصاص فيما يقدم، وبعد قراءة جملة من الكتب في الفن الواحد وفهمها يصبح أملك لأمره في اختيار ما يناسبه ويراه أولى للقراءة.
  • لا يمكن للمتعلم أن يستغني بالكتب عن غيرها من مصادر المعرفة، لا سيما في هذا الزمان، كالبرامج المرئية والمسموعة والمواقع الإلكترونية والمسائل المعاصرة والقضايا الحديثة.
  • مما ينبغي أن يعتني به الطالب قراءته لسير العلماء، فإنها ترفع الهمة وتروح عن النفس وتنشط القارئ لاتباع آثارهم وتبعث على الاقتداء بهم، لذلك ينبغي للمتعلم اقتناء بعض الكتب في سير العلماء والمصلحين، ويتعاهد زاد همته بالغرف منها.
  • مما يعين على ضبط العلوم حفظ المتون، لذلك كان المتقدمون –وبعض المتأخرين أيضا- يحرصون أشد الحرص على حفظ أهم المتون في كل علم، فإن فعل المتعلم هذا فمن المناسب أن يختار من أفضل شروحها ما يقرأه ويضبطه، وينبغي له أن يضبط ما يحفظه ضبطا متقنا وإلا كان حفظه لما يحفظه هدرا للوقت والجهد، ولم يسعفه وقت الحاجة، وأهم ما ينبغي للمتعلم أن يحفظه -أيا كان تخصصه- القرآن الكريم، ثم يوجه عنايته إلى غيره من المتون مما هو بصدده.
  • الكتب الأولى التي يدرسها المتعلم عليه أن يضبط فهمها ضبطا جيدا، ويحفظ ما ينبغي أن يحفظه منها، ويدرسها دراسة متقنة، ولا يمر عليها بالقراءة مرورا، فإنه إن لم يضبط كتبه الأولى كان فيما يقرأه بعدها مشتت الأفكار ضعيف الإدراك قاصر الملكة، فقد يكون جهده ضياعا للوقت، ولا تحصل له منه كثير فائدة، ثم إنه إن أتقن كتبه الأولى كانت بعد ذلك الكتب التي تليها أسهل منها لديه؛ لأنه قد مر بما ذكر فيها من مسائل ورسخ لديه تقاسيمها ونظامها، فيكون كمن يسقي شجرة ثبتت أصولها ونمت أغصانها، ويتعهدها بالرعاية والمتابعة، وتكون قراءته بعد ذلك للكتب قراءة مسترسلة، وهكذا في كل فن يقرأ فيه، وينبغي له أن يجعل الكتب الأولى التي درسها وضبطها عمدته في ذلك العلم، ويتعاهدها بالمراجعة والتكرار، والكتب الأخرى في ذلك الفن زيادة في العلم والمعرفة.
  • عند بداية الطالب في طلبه للعلم يأخذ في حفظ المتون ودراسة بعض الكتب مما قد يورث في نفسه السآمة والملل، لأن الحفظ يتطلب منه جهدا واستمرارا ولا يشعر بالنتيجة إلا بعد مدة، وكذلك حال الكتب الأولى التي يدرسها فإنه لا يمكن أن يتخطاها إلى غيرها دون إتقانها، لذلك من المناسب أن يجعل لنفسه كتبا أخرى يقرأ منها ككتب سير العلماء والكتب الفكرية والتاريخية والأدبية، حتى لا تعاف نفسه العلم والقراءة، فالنفوس مجبولة على حب الراحة والدعة، وهذه الكتب تفتح شهيته للعلم، ويشعر بعد قراءته لكتاب منها بلذة الإنجاز.
  • يحار الكثير من المتعلمين في طريقة القراءة، أيقرأ في فن واحد مدة من الزمن، ثم ينتقل إلى غيره وهكذا، أم ينوع في القراءة؟ لا بد للطالب من أن يقرأ في كل فن ما يمكنه من أخذ مبادئه، فيهتم أولا بما هو أولى به من تعلم القرآن ومبادئ العقيدة والفقه، ثم بعد ذلك يتقن دراسة بعض الكتب المختصرة الحاوية لأبواب في العقيدة والفقه واللغة وغيرها من الفنون، فإذا أتقن مبادئ العلوم، اتجه إلى علوم الآلة فتعمق فيها ودرسها بقدر ما يحوي أهم مسائلها ويستطيع توظيفها في فهمه ودراساته، وأهمها اللغة العربية، ثم الأصول والمنطق، ثم يتجه إلى التخصص الذي يرغب فيه فيقرأ فيه كثيرا ويتبحر.

لتحميل المقال اضغط هنا


([1]) مفاتيح الغيب: الرازي، تفسير سورة العلق.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.82 ( 11 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى