العقيدة والفكر

مـركزية الإيــمان

عبدالرحمن بن كهلان بن نبهان الخروصي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان

حقا لا تنقضي أسرار القرآن الكريم؛ كنت أستمع يومًا إلى آيات الكتاب العزيز متدبرا ومتفكرًا في معانيه ولطائفه التي لا تخلَق ولا تبلى على كثرة الرَّدِّ، فبدأت بفواتح سورة البقرة حتى إذا بلغت قول الحق سبحانه: ﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ استَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] شعرت كأن الآية انتزعتني من نفسي؛ أَلنَا نحن خلق الله سبحانه وتعالى ما في الأرض جميعًا والسماوات؟ ثم لم ألبث حتى تداعت إليَّ تقريرات القرآن الكريم في آيات كثيرة لهذا المعنى وتكريره بأساليب متعددة.

تسخير الكون للإنسان

فالأجرام الكونية وآثار حركاتها مسخرة للإنسان، قال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ﴾ [إبراهيم: ٣٣]، وقال عز وجل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾ [النحل: ١٢]، وما ينزل إلى الأرض وما يخرج منها مسخر للإنسان، بل الأرض كلها مسخرة له ماؤها ويبسها وسماؤها وجميع ما فيها، قال سبحانه: ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي الأَرضِ وَالفُلكَ تَجري فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وَيُمسِكُ السَّماءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرضِ إِلّا بِإِذنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءوفٌ رَحيمٌ﴾ [الحج: ٦٥]، وقال عز من قائل: ﴿اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهارَ﴾ [إبراهيم: ٣٢].

وامتنَّ سبحانه بتسخير الحيوانات القوية الجموحة فقال: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا خَلَقنا لَهُم مِمّا عَمِلَت أَيدينا أَنعامًا فَهُم لَها مالِكونَ* ‌وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ * وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ﴾ [يس: 71-73].

ومن تسخير الكون للإنسان أن خلق فيه الجمال والحُسن فتلتذ العين بالنظر والأذن بالاستماع وسائر حواسِّه فتنشرح نفسه وتبتهج بجميل صنع الله، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا ‌وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ﴾ [الحجر: 16]، وقال تعالى عن الأنعام: ﴿وَلَكُمۡ فِيهَا ‌جَمَالٌ ‌حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ﴾ [النحل: 6]، وقال تعالى عن ألوان النبات: ﴿وَما ذَرَأَ لَكُم فِي الأَرضِ مُختَلِفًا أَلوانُهُ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَذَّكَّرونَ﴾ [النحل: ١٣]، وقال تعالى عن طُعوم ثمارها: ﴿وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ ‌مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ﴾ [الأنعام: 141].

لماذا سُخِّر الكون للإنسان؟

وبعد التقاط هذا المعنى القرآني البديع رحتُ أقلّبه في فكري، وضمَّني سؤال لم يُرسلني حتى أُلفي جوابه: لماذا سخَّر الله السماوات والأرض وما فيهما للإنسان؟ فكان المفتاح لهذا اللغز أن الحكمة وبداهة العقول تقتضي تسخير الأدنى للأعلى والأقل للأشرف والأضعف للأقوى، والله تعالى عليم حكيم.

ولا أخفي أن افتراض عِظَم خلق الإنسان فوق السماوات والأرضين سقى بذرة الغرور الآدمية في طينتي، فبحثت في القرآن الكريم عن مصداق ذلك فإذا بالآيات البينات تسحق نبتة الغرور وتزرع اليقين الجليَّ أن السماوات والأرض أكبر وأشد خلقا من الإنسان الضعيف، فقال سبحانه: ﴿لَخَلقُ السَّماواتِ وَالأَرضِ أَكبَرُ مِن خَلقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾ [غافر: ٥٧]، واستنكر الله تعالى تنفَّخ الإنسان وإعجابه بنفسه فقال عز وجل: ﴿أَأَنتُم أَشَدُّ خَلقًا أَمِ السَّماءُ بَناها﴾؟! [النازعات: ٢٧].

ويستمر تذكير الإنسان بأصله وضعف خلقته إزاء السماوات والأرض والكواكب حينما أمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقرِّر المشركين ويفُشَّ تكبّرهم، فقال تعالى: ﴿فَاستَفتِهِم أَهُم أَشَدُّ خَلقًا أَم مَن خَلَقنا إِنّا خَلَقناهُم مِن طينٍ لازِبٍ﴾ [الصافات: 11].

بل أقام الحقُّ سبحانه وتعالى خَلْق السماوات والأرض -وهما أشدُّ خلقًا- دليلا على إمكان إحياء الموتى وهو أهون عليه، فقال سبحانه: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَلَم يَعيَ بِخَلقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَن يُحيِيَ المَوتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [الأحقاف: ٣٣]، وقال أيضا: ﴿أَوَلَيسَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ بِقادِرٍ عَلى أَن يَخلُقَ مِثلَهُم بَلى وَهُوَ الخَلّاقُ العَليمُ﴾ [يس: ٨١].

وهذا المنهج القرآني بتذكير الإنسان بأصل خلقته وضعفها وقاية له من مزالق الغرور؛ فإن الاستعلاء والتكبر بعظمة الخلق منهج شيطاني، فهو الكبر نفسه الذي أخرج إبليس من الجنة وصدّه عن السجود لآدم كما حكى الله قوله: ﴿قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ ‌خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ﴾ [الأعراف: 12].

غاية خلق الإنسان

واستكمالا للبحث عمَّا يشرِّف الإنسان حتى تسخر له السماوات والأرض عُدْتُ إلى الوراء قبل لحظة خلقه -فلا شك أنه أضعف خلقًا-، عدتُ إلى الغاية من خلقه، فوجدت أن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

لقد أفردَ المولى سبحانه الغايةَ من خلق الإنسان في عبادته جل جلاله، وحصرُ أوامر الله تعالى والغاية من خلق الإنسان في عبادته تعالى وحدها لهو مما أثبتته الآيات البينات مرارًا، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وقوله: ﴿قُل إِنَّما يوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ فَهَل أَنتُم مُسلِمونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨]، بل ليست للنبي صلى الله عليه وسلم وظيفة إلا هذه خالصةً -عبادة الله والدعوة إليه- كما قال سبحانه: ﴿قُل إِنَّما أُمِرتُ أَن أَعبُدَ اللَّهَ وَلا أُشرِكَ بِهِ إِلَيهِ أَدعو وَإِلَيهِ مَآبِ﴾ [الرعد: ٣٦]، وكقوله أيضا: ﴿قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم يوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ فَاستَقيموا إِلَيهِ وَاستَغفِروهُ وَوَيلٌ لِلمُشرِكينَ﴾ [فصلت: ٦].

فوجود الإنسان في الحياة دون هذه الغاية عبثٌ لا قيمةَ له ولا معنى -تعالى الله الحكيم عن ذلك- كما قال سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، ولذلك أنكر المولى على مَن يحسب أن وجوده دون تكليفٍ وعبادةٍ داخلٌ في دائرة الحكمة الإلهية فقال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً﴾؟ [القيامة: 36].

فعلمتُ أن الإنسان إنما شرُف على السماوات والأرض بحمله للأمانة دونهما وتعرضه لمحنة التكليف وعبادة الله اختيارًا بعد إبائهما، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ ‌فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا﴾ [الأحزاب: 72].

غاية خلق السماوات والأرض

ثم نظرتُ في غاية خلق السماوات والأرض فإذا بها تابعة لغاية خلق الإنسان ومتممة لها، فلئن كان الإنسان مخلوقا لاختباره وتكليفه بعبادة الله تعالى، فإن السماوات والأرض هما ساحة هذا التكليف ومحل الفتنة والبلاء.

وهذا المعنى مما شدَّ القرآن الكريم وَثاقه وأوسعه بيانًا وجلاءً ناصعًا في آيات كثيرة، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ وَكانَ عَرشُهُ عَلَى الماءِ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧]، وقوله: ﴿إِنَّا ‌جَعَلۡنَا ‌مَا ‌عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ [الكهف: 7]، وقوله: ﴿الَّذي خَلَقَ المَوتَ وَالحَياةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزيزُ الغَفورُ﴾ [الملك: ٢]، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ لِيَجزِيَ الَّذينَ أَساءوا بِما عَمِلوا وَيَجزِيَ الَّذينَ أَحسَنوا بِالحُسنَى﴾ [النجم: ٣١]([1]).

تفضيل الطاعة على نعيم الدنيا

وبعد تمكُّن هذا المعنى في نفس المؤمن وإيقانه أن السماوات والأرض إنما سُخِّرتا له لابتلائه وأن غاية خلقهما تابعة لغاية خلقه فإن ضباب مسيره في الحياة ينقشع ويُبصر ببصر من حديد طريقه إلى الله تعالى، ويزول ما خالطه من عَجَبٍ لآياتٍ وأحاديثَ متكاثرةٍ متواترةٍ في الوحي الشريف تفضِّل طاعة الله تعالى على السماوات والأرض وما فيهما، وينجلي وجه المقارنة في ذهنه ويفطن لوجه الشبه بينهما. فهي مقارنة بين غايتين؛ غاية خلق الإنسان وغاية خلق الكون، مقارنة بين الإيمان بالغيب والاستكانة للدنيا، مقارنة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة بالتشبث بلُعاعة من الشهوات العاجلة الزائلة.

ومن هذه النصوص الشرعية التي تفضِّل الطاعة على متاع الدنيا قول الله تعالى: ﴿المالُ وَالبَنونَ زينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: ٤٦]، ، وقوله تعالى: ﴿فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ ‌خَيۡرٞ ‌وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 36]، وكذا جاءت أحاديث تفضل طاعات قليلة الزمان عظيمة الميزان على الدنيا وما فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» [متفق عليه]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» [البخاري 4/35]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» [مسلم 1/501].

ومنه أيضا تفضيل الطاعة والإيمان على ما طلعتْ عليه الشمس -والشمسُ تطلع على جميع ما في الدنيا-، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الربيع/ رقم11]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» [مسلم 4/2072].

ومنه تفضيله الطاعة على حُمْر النَّعَم -وكانت خيرَ ما يرجوه الرجل العربي من متاع الدنيا-، كقوله صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» [البخاري 4/47]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي، وَأَنَا غُلَامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ» [أحمد 3/193].

ولما كانت الدنيا بحذافيرها مُسخّرةً لمرضاة الله وطاعته وابتغاء الآخرة واتقاء مساخط الرب سبحانه فقد جاءت بعض النصوص الشرعية بتحقير متاع الدنيا إزاءَ عمل الآخرة ونعيمها، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» [مسلم 4/2272]، وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» [الترمذي 4/560].

ومن طريف ما في هذا الباب قصة فاطمة الزهراء مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حكى زوجها علي بن أبي طالب: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِا السَّلَامُ شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ: «مَكَانَك». فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» [البخاري 8/70]، فبيّن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل ذلك الذكر على ما جاءت تسأل عنه من متاع الدنيا.

زوال الدنيا أهون من معصية الله

وفي الكفة الأخرى جاء ذم المعصية وبيان أن ذهاب الدنيا أهون من عصيان الله، كما في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» [الترمذي 4/16]، وشُبِّهت المعاصي بأبشع ما يتصوره الإنسان من شأن الدنيا لأنها على الحقيقة شرٌّ مما يتصوَّره في عقله، قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا ‌يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ﴾ [الحجرات: 12]، وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً» [أبو داود 4/264]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ ‌كَالْكَلْبِ ‌يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» [متفق عليه].

ولهذا فإن القرآن الكريم قطع الأماني الكاذبات للكفار والمشركين يوم القيامة بمفاداة أنفسهم بما في الأرض جميعا ومثله معه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [المائدة: 36]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦ مِن سُوٓءِ ٱلۡعَذَابِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يَكُونُواْ يَحۡتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47]، وقال سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ [الرعد: 18]، فإن شؤم الكُفر والمعصية وعدم الاستجابة لله للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يُفدى بجميع ما في الأرض ومثله معه.

وإذ استحب الكفار نعيم الدنيا وقدَّموه على مراضي الله تعالى فقد استحقوا العذاب الأليم في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا ‌وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 20]، فهم فضّلوا المتاع العاجل على الطاعة، وإنما يراد نعيم الدنيا لعمل الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ ‌الْمَالُ ‌الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ».

فإيثار الحياة الدنيا على الطاعة ديدن المنافقين، قال رب العزة: ﴿كَلَّا بَلۡ ‌تُحِبُّونَ ‌ٱلۡعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ﴾ [القيامة: 20-21]، وقال أيضا: ﴿بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا * وَٱلۡأٓخِرَةُ ‌خَيۡرٞ ‌وَأَبۡقَىٰٓ﴾ [الأعلى: 16-17]، ولذا رأيتهم آثروا المحقّرات وفضلات الطعام على أجَلِّ شعائر الإسلام (الصلاة)! فهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرِّق عليهم بيوتهم، فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ ‌فَيُؤَذَّنَ ‌لَهَا، ‌ثُمَّ ‌آمُرَ ‌رَجُلًا ‌فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ([2]) لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» [الربيع رقم 184 ومتفق عليه]، وأما أهل الإيمان فلا يعدلون بطاعة الله شيئا من الدنيا، كما قال السحرة لفرعون بعد إيمانهم -وقد تهدّدهم بالعذاب الشديد-: ﴿قَالُواْ ‌لَن ‌نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ﴾ [طه: 72].

فرقُ ما بين المؤمن والكافر

إن الفرق بين المؤمن والكافر أعظم مما بين السماوات والأرض؛ فإن المؤمن حقق الغاية التي خُلق لها وسُخِّرت لأجلها السماوات والأرض وما فيهما وبُعِثتْ الرسل وأُنزِلت الكتب وخُلِقت الجنة والنار، وأما العاصي فقد خالف ما خُلِق لأجله وما خُلِقت له السماوات والأرض وما فيهما فهو حطيط القدر بعيد من الله، وليس في كتاب الله تعالى تباين بين شيئين كالتباين والافتراق بين الإيمان والكفر، وهذا البون الشاسع هو قدر علو المؤمن وسفول الكافر عنه.

وقد أنكر الله تعالى تساوي المؤمن بالكافر والعاصي والفاسق في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿أَفَمَن كانَ مُؤمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا لا يَستَوونَ﴾ [السجدة: ١٨]، وقوله سبحانه: ﴿مَثَلُ الفَريقَينِ كَالأَعمى وَالأَصَمِّ وَالبَصيرِ وَالسَّميعِ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾ [هود: ٢٤]، وقوله: ﴿أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعوا أَهواءَهُم﴾ [محمد: ١٤]، وقوله تعالى: ﴿لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في أَحسَنِ تَقويمٍ * ثُمَّ رَدَدناهُ أَسفَلَ سافِلينَ * إِلَّا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنونٍ﴾ [التين: ٤-٦].

وهذا المباينة بين الفريقين أوضحتها السنة المطهرة أيضا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «‌مَثَلُ ‌الَّذِي ‌يَذْكُرُ ‌رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» [البخاري 8/86]، بل تتباين الأماكن تبعًا لغاياتها، فما يطلب فيه رضا الله ليس كما يُطلب فيه متاع الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «‌أَحَبُّ ‌الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» [مسلم 1/464].

ولهذا لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحد صحابته الميزان الصحيح الذي توزن به الأشياء والأشخاص علّمه بمثال حيٍّ أمامه، ففي الحديث: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ‌هَذَا ‌رَجُلٌ ‌مِنْ ‌فُقَرَاءِ ‌الْمُسْلِمِينَ، ‌هَذَا ‌حَرِيٌّ ‌إِنْ ‌خَطَبَ ‌أَنْ ‌لَا ‌يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» [البخاري 8/95].

حائط الإيمان

انكشاف تفضيلِ المؤمنين وعلو مقامهم عند الله عز وجل، وضعةِ مقام الكافرين الجاحدين عنده تعالى، وبُعدِ ما بينهما كما بين السماء والأرض يورث المسلم يقينا تتضعضع أمامه كثير من الشبهات، واعتزازًا يفكُّ به هيمنة عقائد المبطلين على كثير من ضَعَفة الإيمان.

بل ويمكن للمسلم أن يتوخى وجوهًا من الحكمة الربانية في بعض التشريعات: كتشريع الجهاد في سبيل الله؛ فإن فيه تعريضًا للنفس ونفوس الأعداء لخطر الإزهاق، لكن الجهاد إنما شُرِع لأن حفظ الدين أولى من حفظ الدنيا وفقدان الدين أعظم من فقدان الحياة، قال الله جل جلاله: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ ‌أَشَدُّ ‌مِنَ ‌ٱلۡقَتۡلِۚ﴾ [البقرة: 191] وقال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ ‌أَكۡبَرُ ‌مِنَ ‌ٱلۡقَتۡلِۗ﴾ [البقرة: 217] ففتنة الإنسان وصده عن الدين الحق أشد من قتله؛ فكانت مقاتلة المشركين الذين يصدون عن سبيل الله لأجل تبليغ دعوة الإسلام لعموم الناس أولى من القعود عن إقامة الحجة عليهم خوفًا من القتل: ﴿وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء: 95]، فقيمة نشر الدين وحفظه أعلى وأولى بالرعاية من المحافظة على الحياة نفسها -إذا تعارض حفظهما معًا-.

وليس في إجازة قول كلمة الكفر عند الإكراه عليها تفضيل لحفظ الدنيا على الدين، فإنما الترخيص في تحريك اللسان لا في تحريك الإيمان من القلوب: ﴿‌إِلَّا ‌مَنۡ ‌أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾ [النحل: 106] فإن محل التصديق هو القلب كما قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [مسلم 4/1986].

ويمكن استشفاف المصلحة الشرعية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «‌لَا ‌يُقْتَلُ ‌مُسْلِمٌ ‌بِكَافِرٍ» [البخاري 4/69] باستبقاء المسلمين وإعلاء كلمتهم وعدم تسلط المشركين عليهم؛ فإن المسلم يزعه وازع الدين عن قتل المشرك الذمي والمعاهد والمستأمن، ولا وازع للمشرك عن قتل المسلم والتسلط عليه والاستخفاف بدمه -كما هو مشاهد والله المستعان والنصير- إلا القصاص.

وهكذا فإن أحكام الشريعة الإسلامية كما أنها ترعى في معاملة المشركين أصل تكريم الإنسان، فإنها ترعى أيضًا أصل علو الإسلام، وهو ما بيّنه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «‌الْإِسْلَامُ ‌يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» [البخاري 2/93].

أختم،،، لأجل الإيمان خُلِقت السماوات والأرض وما بينهما، فالمؤمن أكرم خلق الله وأرفعهم قدرًا، والأعمال الصالحة -ولو قلَّت- خير من كل حطام الدنيا، ولا يملك جميعُ ما في الأرض ومثلُه معه أن يفدي صاحبه العاصي من عذاب الآخرة، وتمكُّنُ هذا المعنى وقوة حضوره في قرارة نفس المؤمن حائط تتساقط أمامه الشبهات ويأمن من شظايا الفتن بإذن الله، ولا أملك إيجازًا أبلغ من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتى جوامع الكلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى ‌صُوَرِكُمْ ‌وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» [مسلم 4/1987].

لتحميل المقال اضغط هنا


(([1])) وأشارت لهذا المعنى آياتٌ بعضها أصرح من بعض (انظر مثلا: [البقرة: ١٦٤] [آل عمران: ١٩٠-١٩١] [الأنعام: ١] [الأنعام: ١٦٥] [يونس: ٣] [إبراهيم: ٣٢-٣٤] [النحل: ٣] [العنكبوت: ٦١]).

([2]) العَرْق: العظم الذي عليه بقايا لحم، والمِرْماتان: ما بين ظِلفي الشاة.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.92 ( 7 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى