الكتب والتراجم

مع العوتبي في كتاب الإبانة (1)

رائد بن ناصر بن خلفان العامري

 

كتاب الإبانة للعلامة الفقيه سلمة بن مسلم العوتبي من أهم الكتب اللغوية العمانية، وقد اهتم به كثير من الدارسين والباحثين، ومسائله وقضاياه جديرة بالدرس والتحليل والمناقشة، وقد رأيت في الإبانة جملة من المسائل التي تستدعي الوقوف عندها، وقد تستدعي بعض مسائله إعادة النظر، وسأعرض في هذه السلسلة بعض مسائله للمناقشة، لعل في الباحثين من يستدرك ويصحح.

أولا: استشهاد برواية لا شاهد فيها:

    جاء في الإبانة: “قال الكسائي: ولم أرَ العرب قالت: لا وحدها حتى تتبعها بأخرى أو تُشبه بها. لا يقولون: لا عبد الله خارج حتى يقولوا: ولا فلان أو ولا قادم، ولا مررت برجل لا محسن حتى يقولوا ولا مجمل، وبهذا جاء القرآن {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن}[الممتحنة:10] وقد جاءت مفردة في الشعر، وهو جائز. وأنشد لسعد بن مالك جد طرفة: [من مجزوء الكامل]

من فـرَّ عن نيرانها      فأنا ابنُ قـيــسٍ لا براحُ

وقال الضحاك بن هشام: [من الطويل]

وأنت امرؤٌ منا خُلِقْتَ لغيرنا       حياتُك لا تُرجى وموتُك فاجعُ”[1]

وجوب تكرار (لا) في نحو: زيد لا محسن ولا كريم … لأن (لا) “متى وقعت قبل خبر أو نعت أو حال وجب تكريرُها”[2] عند النحاة خلافا للمبرد[3] وابن كيسان[4]، فتقول: زيد لا محسن ولا كريم، ومررت به لا قائما ولا قاعدا، ولا يجوز في سعة الكلام أن تقول زيد لا محسن، وجاز ذلك في الشعر، ومن شواهدهم على ذلك قول الشاعر: [من الطويل]

وأنت امرؤٌ منَّا خُلِقْتَ لغيرنا      حيـاتُك لا نفــعٌ ومـوتُك فـاجـعُ

وموضع الشاهد قوله: حياتك لا نفع وموتك فاجع، إذ ترك الشاعر تكرار (لا)، وهو أمر مخصوص بالشعر، وقد رأيتَ أن رواية العوتبي بغير موضع الشاهد!

    ومن البيِّن أن العوتبي أراد الاستشهاد على جواز ترك تكرار (لا) في الشعر إذ قال: “وقد جاءت مفردة في الشعر، وهو جائز” وقوله: مفردة أي من دون تكرار، ورواية الإبانة: حياتك لا ترجى…، لا شاهد فيها لأنه يجوز أن تقول في سعة الكلام: حياتك لا ترجى، ولا يلزم معه تكرار (لا)، كما تقول: زيد لا يقوم، فهذا غير موجب لتكرار (لا)، فدخول لا على الفعل المضارع لا يلزم معه تكرار.[5]

    وجاء في كتاب سيبويه: “واعلم أنه قبيح أن تقول: مررت برجل لا فارس، حتى تقول: لا فارس ولا شجاع. ومثل ذلك: هذا زيد لا فارسا، لا يحسن حتى تقول: لا فارسا ولا شجاعا. وذلك أنه جواب لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجل شجاع مررت أم بفارس؟ وكقوله: أفارس زيد أم شجاع؟

   وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجل من بني سلول: [من الطويل]

وأنت امرؤ منا خُلقتَ لغيرنا    حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجع”[6]

     وموضع الشاهد: حياتك لا نفع وموتك فاجع، ومسألة الإبانة هي مسألة كتاب سيبويه، وقد قال يوسف بن أبي سعيد السيرافي(385هـ) في شرحه لأبيات سيبويه: “ويروى: (حياتك لا ترجى) وليست فيه حجة على هذا الإنشاد”[7] فالرواية التي نفى يوسف بن أبي سعيد السيرافي أن يكون فيها حجة هي نفسها رواية الإبانة، وقد بينتُ من قبل عدم الشاهد فيها.

    وبعد أن تبيّن أن الرواية في الإبانة غير الرواية المرادة ننبه على أننا لا نجزم بأن رواية الإبانة من وضع العوتبي، فلعل الناسخ رأى الشطر الأول ولم يتبين له الشطر الثاني فنقل الرواية الأخرى من كتاب آخر، وإن كانت من وضع العوتبي نفسه فلعله أراد الرواية ذات الشاهد المراد فسبقت إلى ذهنه الرواية الأخرى غير ذات الشاهد.

ثانيا: الخلط بين الشواهد

    تحدث العوتبي عن معاني الباء، فذكر للباء معنى (مِن) ومعنى (على) ‏ومعنى (مع) فقال: “والعرب تقيم الباء مقام (مِنْ)، حُكي عنهم أنهم يقولون: ‏سقاك الله بحوض الرسول صلى الله عليه وسلم، أي من حوض الرسول.

‏وتجعلُه في موضع (على) كقوله:‏ [من الوافر]

ألم تلمم على الدِّمن البوالي …

أي بالدِّمن.

وفي موضع مع قال:‏ [من السريع]

داويته بالمحض حتى شتا        بحيـــدب الآري بالمرود

أي: مع المرود”‏[8]

   فأنت ترى أنه في المثال الأول ذكر للباء معنى (من) واستشهد بقولهم ‏سقاك الله بحوض الرسول أي من حوض الرسول، وفي المثال الثالث ذكر للباء معنى (مع) ‏واستشهد بقول الشاعر بالمرود أي مع المرود، ولا إشكال في المثالين الأول ‏والثالث وشاهديهما، ولكن الإشكال في شاهد المثال الثاني لأنه أراد أن يأتي بشاهد على أن ‏الباء تأتي بمعنى (على) ولكنه عكس بينهما فذكر شاهدا على أن (على) ‏بمعنى الباء وهو قول الشاعر … على الدمن، فهذا موضع لمعاني (على) ‏وليس لمعاني الباء.

وأنبه على أن في البيت الثاني تصحيفا، وصوابه: ‏

داويتُه بالمحض حتى شتا        يـجــتـــــذب الآري بالـمــــرود

وقد فات المحققين تصحيحُه.

 

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] الإبانة: سلمة بن مسلم العوتبي، تحقيق: د. عبد الكريم خليفة وآخرين، ط1، 1420هـ – 1999م، 2/36.

[2] الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: أبو العباس بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، تحقيق: علي محمد معوض وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2، 2013م، 1/254.

[3] المقتضب: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي/ مصر، ط2، 1994م، 4/359 فما بعدها.

[4] شرح التسهيل: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله الطائي، تحقيق عبد الرحمن السيد ومحمد بدوي المختون، هجر للطباعة والنشر والإعلان، ط1، 1410هـ – 1990م، 2/66.

[5] ينظر: تعليق الفرائد: محمد بدر الدين الدماميني، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن المفدى، ط1، 1403هـ – 1983م، 4/114.

[6] كتاب سيبويه، 2/305.

[7] شرح أبيات سيبويه: أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، تحقيق: محمد علي الريح هاشم، دار الفكر، القاهرة، 1/363.

[8] الإبانة 2/209.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 1.55 ( 1 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى