العقيدة والفكر

مصطلـح الخـرافــة

سلطان بن صالح بن سلطان الراشدي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فهذا بيان موجز لمعنى الخرافة التي بدأت تستشري في مجتمعنا وتتسلل إلى عقول شبابنا لتحرفهم عن جادة الطريق السوي وتحجبهم عن نور الإسلام المبين، الذي فيه سعادة الإنسان دنيا وأخرى.

أولا: تمهيد بين يدي المصطلح

  • إن دراسة الخرافة وتمييزها عن الحقيقة أمر مهم للرقي بالعقل البشري وتنقيته من الأوهام، وليس أمرا ترفيا كما يرى ذلك بعض مفكري الغرب، وقد جرّ اختلاط الحق بالباطل وتماهي المصطلحات بعضها في بعض إلى خلخلة كبيرة في العقل البشري جرته إلى الانعتاق في بيئة الحداثة السائلة حيث لا معنى ولا ثوابت.
  • لم أجد للخرافة في تراثنا الإسلامي اصطلاحا يبين حدودها باسم الخرافة، فهي مصطلح حادث يتداخل في سياق الحديث عنه مع جملة من المصطلحات الأخرى كالأوهام والأساطير، وإن كان أصل استعمال الخرافة موجودا عند العرب السابقين إلا أنه لم يكن بعدُ يشكل مصطلحا يجري عليه البحث والاختلاف، وهذا يعني أن مصطلح الخرافة يعتريه شيءٌ من التباين في الاستعمال بين موسع يستصحب الخرافة في كل ما خالف الحقيقة ومضيق يخص الخرافة بأبواب دون أُخَر.
  • لما كانت ثقافة بعض المسلمين متأثرة بالضخ المعرفي الوارد من الغرب -الذي عُنِي كثيرا بتعريف المصطلحات-، جرّهم ذلك إلى فهم الخرافة فهما متسقا مع الفلسفة الغربية، ذلك لأن تعريف الخرافة ينبني أساسا على نظرية المعرفة التي ينطلق منها المعرّف، والغربُ اليومَ يتبنون في كثير من بنائهم المعرفي على المذهب الحسيّ لا العقليّ الذي يحصر المعرفة في واردات الحس، ويجعل المنهج التجريبي وحده سبيلا إلى العلم، ومن هذه القاعدة المعرفية جعلوا كلّ ما هو خارج عن إطار الحس خرافةً غير قابلة للتصديق، فانخدع بذلك بعض المسلمين فأنكروا بعض الغيبيات التي ثبتت معرفتها من طريق الخبر كالسحر والجن، وعدّوها خرافة تماشيا مع النظرة الغربية شعروا أو لم يشعروا.
  • إن الإسلام في نصوص متضافرة ينشدُ تطهير العقل البشري من الأوهام والخرافات وتعزيز مكانته في التفكير من خلال ربط الإيمان بالدليل والبرهان، فقد ذم الله تقليد الآباء في ضلالهم: ﴿بَل قالوا إِنّا وَجَدنا ءاباءَنا عَلىٰ أُمَّةٍ وَإِنّا عَلىٰ ءاثٰرِهِم مُهتَدونَ﴾ [الزخرف: 22] وطالب المشركين بالدليل والبرهان في مواضع كثيرة منها قوله سبحانه: ﴿قُل هاتوا بُرهٰنَكُم إِن كُنتُم صٰدِقينَ﴾ [النمل: 64]. ولذلك بزغ المسلمون في منهج التفكير فألفوا لذلك علما خاصا أسموه أصول الفقه يميزون به بين ما يعد دليلا وما لا يعد، وسدوا بذلك بابا كبيرا لخرافات نفذت في الأمم السابقة لما تهاونت في محورية الدليل، فما انحراف النصرانية إلا نتيجة لقبولهم رؤيا بولس وجعلهم إياها دليلا بنوا عليه أحكام دينهم من بعد، أما الإسلام فمع اعتباره لأهمية الرؤى -إذ جعلها جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة- إلا أنه لا يجعلها تصل إلى درجة الدليل الذي تبنى عليه الأحكام، فلم يعتبر العلماء رؤيا ذلك الرجل الذي رأى النبي ﷺ في منامه يأمره بأمر يتعارض مع حديث آحادي صحيح، وهكذا يربط الإسلام المؤمن في تفكيره بالدليل، ويعوده على ربط الأسباب بمسبباتها، فقد جعل الله للكون سننا يجري عليها لا تنخرم إلا بإذن منه معجزةً لأنبيائه أو كرامةً لأوليائه أو غير ذلك من الاستثناءات التي تُجعل والأصلَ العام في مقام واحد.

ثانيا: تعريف مصطلح الخرافة (الذي توصل إليه الباحث)

الخرافة: هي الاعتقاد المخالف للواقع الناشئ عن غير دليل.

يتضح من التعريف أن الخرافة تقابل العلم، لأنه الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل المطابق للواقع، وليتجلى تعريف الخرافة أكثر فإني أشرحه فيما يأتي:

الاعتقاد:

أي كل ما انعقد في القلب ولو كان غير جازم، فكم هي الخرافات التي يؤمن بها الناس من طريق الظن لا القطع.

المخالف للواقع:

أي أن الخرافة لا تعدو أن تكون كذبا أو وهما يتخيله المصدق بها لكنها غير مؤثرة في الواقع، كما جاء في كتاب (السر) -الذي تُرجم لأكثر من ٣٠ لغة- عن قانون الجذب الذي يدعي بأن على الإنسان أن يفكر فيما يريد بصدق ويقين وستأتيه أمنياته تحبو حبوا، فلو أراد شخص أن يكون طبيبا بارعا ما عليه إلا أن يفكر في ذلك مليا! والعجيب أن الكاتبة تدعي أن هذا القانون «قانون مطلق ولا مجال للخطأ فيه».

والذي يجعل الناس تحسب غير الواقع واقعا هو حبها تفسير الأشياء وربط بعضها ببعض حتى يقعوا في الخلط بين الارتباط والسببية، وكما هو معلوم في علم المنطق أن الارتباط لا يعني السببية، فقد يحصل أن يقع كوب من على الطاولة وينكسر في الوقت الذي يتلقى فيه الرجل اتصالا من زميله، فيفسر هذا الارتباط في الوقت بكون زميله سببا في كسر الكوب فهو تبعا لذلك نذيرُ شؤم! وهل الطِّيرةُ في الزمن الغابر إلا نموذج قديم للخلط بين الارتباط والسببية. وهذا أيضا شأن الدجالين، فهو وإن أصاب مرة أخطأ مرات، فليس صوابه ذلك سببا في الحكم بصدقه وبراءته من الخرافة، قال ابن قتيبة: «من شأن النفوس حفظ الصواب للعجب به والاستغراب وتناسي الخطأ…ومن ذا الذي يتحدث أنه سأل منجما فأخطأ، وإنما الذي يتحدث به وينقل أنه سأل فأصاب».

وتسويق الخرافة ورواجها بين الناس يزيد من قابليّة تصديقها، من ذلك أن علاجا سمي (مرهم السلاح) ذاع صيته في القرن السابع عشر، كان يدهن به السلاح فيبرأ الجرحُ في ظن كثير من الناس حتى صدقه رائد المنهج التجريبي فرنسيس بيكون! مع أنه لا يؤمن بما يخالف التجربة الحسية.

الناشئ عن غير دليل:

أي أن الخرافة لا تصدر عن دليل صحيح، وإنما تستند على خيالات وأوهام وظنون، توافق هوى في النفوس، وهذا شأن الحائدين عن سواء الصراط في كل حين كما يقول الحق سبحانه: «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس». فكلما فشا الجهل زادت نسبة تصديق الناس بالخرافات لأنها غير قائمة على أدلة وبراهين.

ولبيان معنى الدليل المعول عليه لا بد لنا من استحضار مصادر المعرفة في الإسلام، التي تتكون من ثلاثة مصادر أساسية تتكامل فيما بينها ولا تتعارض: الحس والعقل والخبر، فالحس يفتح للإنسان باب المعرفة في المحسوسات التي يراها ويلمسها ويسمعها، ولا يتعدى الحس إلى ما وراء المادّة إلا بالخبر الذي يمكّن المؤمن من معرفة عالم الغيب وما كان وما سيكون، ويأتي العقل ليعمل في واردات الحس والخبر منطلقا من المبادئ الضرورية التي فطر عليها كل البشر -كمبدأ السببية- ليكون بعد ذلك معرفة صلبة متماسكة.

وهذا يعني أن الأمر يكون خرافة إذا عارض الدليل الحسي أو العقلي أو النقلي، فلو كان الأمر حسيا فلا بد من عدم معارضته للحقائق العلمية الثابتة بالحس المباشر أو الاستقراء والتجربة، ولو كان عقليا فلا بد من صحة الدليل العقلي فلا يقع في التناقض مثلا، ولو كان نقليا فلا بد من النظر في ثبوته ودلالته حتى يحكم عليه قوةً وضعفا.

ومثال ذلك الكرامة المنسوبة إلى الإمام أبي عبيدة -رحمه الله- من انشقاق الغار والسماوات، فقد ردها سماحة شيخنا الخليلي من الأوجه الثلاثة الحسي والعقلي والنقلي في كتابه (العقل بين جماح الطبع وترويض الشرع):

أولا: النقد من جهة الدليل النقلي، يقول سماحته:

«أولها: أن القرآن الكريم دل على أن انشقاق السماوات إنما يكون عند انتهاء الكون، وتداعي بنائه وتفكك نظامه».

ثانيا: النقد من جهة الحس والعلم التجريبي، يقول سماحته:

«ثانيها: أن دلائل العلم كشفت -بما لا يدع مجالا للشك- أن انشقاق السماوات مؤذن بانتهاء الكون وزواله».

ثالثا: النقد من جهة النظر العقلي، يقول سماحته:

«ثالثها: أن القصة لم يتعرض لها أحد قط في عهد أبي عبيدة وتلامذته ومن جاء من بعده».

وهذا يعني أن الإسلام لا يحصر المعرفة في المحسوسات كما عليه الثقافة الغربية اليوم، بل يشمل ما وراء الحس بشرط دلالة الدليل عليه، فممّا دل على وجوده الدليل: (الرقية الشرعية، تأثير الدعاء، الحسد، السحر، الكرامة، الرؤيا، الجن) لكنّ وجودها لا يعني لزاما مشروعيتها، فقد حرم الله السحر والتقرب إلى الجنّ، ووصف الله كيد الشيطان بأنه كيد ضعيف تهوينا له وصرفا للناس عن التعلق بغير الله، فقد تضافرت الآيات التي توجّه المؤمن إلى الاستعانة بالله وحده، وعدم الالتجاء إلى أي مخلوق سواه، فهو سبحانه القادر على كل شيء، وبيده تصريف كل شيء: «وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله»، وهذا كله يصرف الإنسان عن التعلق بالسحر والجان وما يتبعهما من أوهام وخرافات.

ومن خلال التعريف يتبين أن جملة من المعتقدات اليوم لا تعدو أن تكون خرافات تلقفها بعض الناس بالقبول، لأنها تمثل اعتقادات مريحة للإنسان، وقد جبل الإنسان على حب السهل، كبلوغ الشفاء دون عناء ولا ألم، واكتساب العلم دون اجتهاد، والتنبؤ بالمستقبل الآمن، وتعظيم طاقة الإنسان إلى درجة تأليهه! وكل واحدة تحتاج إلى بيان وجه بطلانها وتفنيدها، لكن القصد هنا التمثيل فحسب: (التنجيم، الكهانة، العرافة، اليوجا، الريكي، بعض علوم الطاقة، بعض ما يقال في دورات تنمية الذات، تحضير الأرواح، الإسقاط النجمي، قانون الجذب، وسطاء الاتصال بالأموات)

لتحميل المقال اضغط هنا

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.72 ( 3 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى