مسألـــةٌ مشكلــةٌ في كتـــاب الإبانـــة

رائد بن ناصر بن خلفان العامري
جاء عند الحديث عن حرف الاستفهام (هل) في الإبانة: “هَلْ خفيفة: حرف استفهام؛ تقول: هل كان كذا؟ وهل لك في كذا؟ فمَن قال: مَن هل له في كذا؟ فهو قبيح. وأما قول زهير:
وذِي نسبٍ ناءٍ بعـبدٍ وصلتَهُ بِهَلْ لك لا تدري متى أنت واصلُهْ
فإنما هو اضطرار”[1].
قلتُ: (بِعَبْدٍ) في الشاهد الشعري تصحيف، والصحيح: بَعِيد، وهي متساوقة مع كلمة (ناءٍ) قبلها، وقد تركتُها في النص كما هي مع أنها مصحفة لسبب أبينه بعدُ.
يتحدث العوتبي عن حرف الاستفهام (هل)، وذكر أنّ مَن قال: مَن هل له في كذا فهو قبيح، لكنه لم يُبَيّن وجه القبح في العبارة، فلعل مراده بالقبح في عبارة (من هل له في كذا) هو دخول اسم الاستفهام (مَن) على (هل)، ولكن أيستقيم المعنى في عبارة (من هل له في كذا)؟
وإنْ قيل إنّ (من) حرف جر، والقبح هو دخول حرف الجر (من) على حرف الاستفهام (هل) فهل يستقيم المعنى في (مِن هل)؟
أأراد العوتبي بالقبح دخول (من) على (هل) أم أراد دخول (أم) على (هل) فإنهم قالوا في بيت علقمة:
أمْ هلْ كبيرٌ بكى لم يَقض عبرتَهُ إثرَ الأحبّة يومَ البين مشكومُ
“جمع بين (أم) و(هل)، ولا يجوز الجمع بين استفهامين”[2]، فذلك نص مشكلٌ في الإبانة، وأشكلُ منه قولُ العوتبي بعد الشاهد الشعري: “فإنّما هو اضطرار” إذ يُفهم منه أنّ الباء دخلت على (هل) ضرورة، ولست أدري أأراد العوتبي ذلك أم لم يرده؟! وإن كان أراده فهل كان ذلك وهما منه أم وجد شاهدا على ذلك؟
والذي يؤكد أنّ في المسألة إشكالا أمور:
أولها: أنّ هذا ما لم أجده – مع البحث- عند غير العوتبي أو في غير الإبانة، ولا ريب في أنّ هذا الأمر وحده غيرُ كاف للاستشكال، لأنك قد تجد في كتابٍ ما لا تجده في غيره.
ثانيها: إذا كان الشاهد الشعري في الإبانة شاهدا على الاضطرار فهو للاضطرار أيضا عند الخليل بن أحمد، ولكن الاضطرارَ عند الخليل دخولُ همزة الاستفهام على (هل)، أي الاستفهام بحرفين معا فالرواية عنده:
وذي نسب ناءٍ بعيدٍ وصلته بمالك لا يدري أهل أنت واصله
قال في العين: “هلْ خفيفةً استفهامٌ تقول: هل كان كذا وكذا، وهل لك في كذا وكذا، وقول زهير: وذي نسب … اضطرار لأن هل حرف استفهام، وكذلك الألف، ولا يُستفهم بحرفي استفهام”[3]، ولا يخفى تشابه النصين في العين والإبانة.
الأمر الثالث: غموض الشاهد في الإبانة مع أنّ الشاهدَ ووجهَ الاستشهاد كلاهما واضحٌ في كتاب العين، بل كل شيء فيه واضح، وفيه أنه لا يُستفهَم بحرفي استفهام، والشاهد في العين له ما يؤيده من الشواهد شعرا ونثرا، ومنها شاهد -سيأتي- أورده العوتبي في الإبانة.
فإذا جئت للمعنى وجدت معنى روايةِ الإبانة بعيدا، ومعنى الوصل فيها غير واضح لأنه يقال: وصلته بمال ووصلته بكذا، ولكن كيف تصله بـ(هل)؟! فهل صحت رواية الشاهد في الإبانة؟ وأين موضع الشاهد؟ وما وجه الاستشهاد في الإبانة؟ وبأي شيء تعلق الباء في رواية الإبانة؟!
أيمكن أن يعني بـ(هل) في البيت أنه حرف استفهام؟ وكيف يكون ذاك؟
وتابع أبو منصور الأزهري (370هـ) في التهذيب ما جاء في العين حذو القذة بالقذة، وتبين أن نَصُّ الإبانة يشبه نَصَّ كتاب العين بل يكاد يطابقه لولا الإشكال الذي رأيناه.
ونقل ابن منظور في لسان العرب ما جاء في العين فقال: “وقال الليث: هل خفيفة استفهام، تقول: هل كان كذا وكذا، وهل لك في كذا وكذا؛ قال: وقول زهير:
أهل أنت واصله
اضطرارٌ لأن (هل) حرف استفهام وكذلك الألف، ولا يستفهم بحرفي استفهام”[4] فالشاهد في لسان العرب دخول الهمزة على (هل) كما جاء في العين وتهذيب اللغة، وقد ذكر صاحب اللسان أنه ينقل عن الليث تلميذ الخليل، فهذه ثلاثة كتب (العين والتهذيب ولسان العرب) تبين أن وجه الاضطرار في الشاهد فيها خلاف ما جاء في الإبانة.
ونعم يجوز أن يكون البيت الشعري بروايتين وفي كل رواية شاهد لا يكون في الرواية الأخرى، ويجوز أن تجد رأيا في كتاب لا تجده في غيره، ولكنَّ الروايةَ في الإبانة غيرُ واضحة المعنى، وهي مع ذلك تعارض رواية كتاب العين.
ورواية البيت في شرح ديوان زهير لثعلب خلافُ روايةِ الخليل في العين وبغير موضع الشاهد وكذلك في ديوانه الذي وقفت عليه! فالرواية فيهما[5]:
وذي نَسَبٍ ناءٍ بعيدٍ وصلتَه بمالٍ وما يدري بأنَّك واصلُه
والبيت – كما ترى – واضح المعنى، وليس فيه موضع للاضطرار، فما باله غامضا برواية الإبانة؟! ولا يتضح فيه معنى الوصل؟ قال ابن دريد في معنى الوصل: “والوصل: وصْلُكَ الشيءَ بالشيءِ نحو الحبل وما أشبهه وصلتُهُ أصِلُهُ وصْلا، والوصل: ضد القطع، ثم كثر ذلك حتى قالوا: وصلتُ ذا قرابة بمال“[6] واستشهد ابن دريد ببيت زهير السابق على معنى الوصل، والرواية عنده:
وذي نسبٍ ناءٍ بعيدٍ وصلتَه بمالٍ وما يدري بأنَّكَ واصلُه
وليس فيها موضع للاضطرار.
وإنْ قلنا إنَّ (بِعَبدٍ) في مطبوع الإبانة صحيحٌ وليس تصحيفا لـ(بعيد) وإنَّ (بعبد) متعلق بـ(وصلته) أي:
وذي نسب ناء بعبد وصلته
فإن الشطر الثاني (بهل لك لا تدري متى أنت واصله) لا يبدو واضحا، فهل يجوز أن يكون الناسخ أو المحققون توهموا أن الوصل في البيت بالعبد لا بالمال؟!
والذي أرجحه أنّ الشاهد في الإبانة غير صحيح لأن الاضطرار إنما هو دخول الهمزة على (هل) كما جاء في العين والتهذيب ولسان العرب، ودخول الهمزة على (هل) أكدته الشواهد الشعرية والنثرية، ومن ذلك قول الشاعر:
سائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ بِشدَّتِنا أَهلْ رأَوْنا بِسَفْح القُفِّ ذِي الأَكّمِ
على أنّ أهل اللغة مختلفون في توجيه الشواهد التي جاء فيها الهمزة وهل، فمنهم من يجعل (هل) بمعنى (قد)، ومنهم من يرى ذلك تأكيدا للاستفهام.
فإن قيل: لمَ لا يقال إنّ البيت في الإبانة محرَّف يقينًا وإنّ الشاهد هو الاستفهام بحرفين اضطرارا كما جاء في العين والتهذيب واللسان؟ قلتُ: ذلك أمر جائز، بل هو الأقرب، ولكن في الإبانة ما يعارض هذا لأن العوتبي يجيز الاستفهام بحرفين، ولا يبدو ذلك اضطرارا عنده، فقد ذكر ذلك في غير موضع من دون التعرض للاضطرار، فهو يقول بعد أنْ ذكر أنّ (هل) حرفُ استفهام: “هل حرف استفهام؛ ودليل ذلك سكونه، والعرب تَستَفهم بحرف وحرفين. قال الأعشى:
أهَلْ يُكَذَّبُ مَن أدْلى بحجتِهِ وهل يُكَذَّبُ أمثالي إذا نَطَقُوا
فقال: أهل؟ فالألف حرف، وهل حرف، فهذان حرفان. ثم قال: وهل؟ وهو حرف؛ فقد جاءنا بالجميع في البيت”[7] فذكر العوتبي الاستفهام بحرفين من دون ذكرٍ للاضطرار! ثم انظر كيف أعاد قوله إنّ (هل) حرف استفهام مع أنه قد ذكر ذلك قبل أسطر معدودات! فكأنه نقل النص الأول مِن كتابٍ ثم نقل النصَّ الثاني من كتابٍ غيره، وقال العوتبي في موضع آخر: “والعرب قد تستفهم بحرف وحرفين وتثبت الألف وتحذفها”[8] أدخل العوتبي في النص الثاني الحرف (قد) الذي أفاد التقليل بدخوله على الفعل المضارع، ومع ذلك فليس في هذا ما يدل على أنه اضطرار عنده، إذ القلّةُ لا تعني الاضطرار.
واستشهد العوتبيُّ على الاستفهام بحرفين في الموضعين ببيت الأعشى السابق، على أنه جاء في الموضع الآخر: “أهل تذكر …” وليس: “أهل يُكذب …”، والظاهر أنّ (أهل يُكَذّب من أدلى بحجته) أحسنُ معنًى مِن (أهل تذكر من أدلى بحجته)، ولم يذكر المحققون اختلاف البيت في الموضعين، ولم يجدوه في ديوان الأعشى الذي حققه محمد محمد حسين، ووجدتُه في الديوان الذي حققه محمود إبراهيم الرضواني، والرواية فيه[9]:
أهل يُذلَّلُ من أدلى بعزته وهل يكذب أمثالي إذا نطقوا
واستشهاد العوتبي بهذا البيت في أحد الموضعين جاء بعد أنْ ذكر الشاهد الذي جاء في العين والتهذيب ولسان العرب، لكنه لم يجعله للاضطرار بل ذكر أنّ العرب تَستفهم بحرف وحرفين كما بيَّنتُ قبلا.
إذن رأينا أنّ الخليل يقول لا يُستفهم بحرفي استفهام، وأنّ قول زهير “أهل أنت…) اضطرار، ورأينا العوتبي يقول إنّ العرب تَستفهم بحرفين! ويجوز أن يكون مثل هذا خلافا بين لغويَّين، وقد ذكر العوتبي شاهدا على التوجيه الذي يراه في اجتماع الهمزة و(هل)، وهو الاستفهام بحرفين تأييدا للرأي الذي قال به، بل لهذا الرأي ما يؤيده من الحديث، ففي مسند أحمد ” عن ثابت، سألت ابن عمر عن نبيذ الجر، أهل نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: زعموا ذلك “[10] فهذا يؤيد ما قاله العوتبي مِن أنّ العرب تستفهم بحرفين، لأنه لا يقال لما جاء في سعة الكلام: اضطرار.
ومع ذلك كله يبدو لي أنّ الاستشهاد ببيت زهير في الإبانة على أنه اضطرار أمرٌ مشكل؛ إذ لا يتضح وجه الاضطرار، ولم أجد من يقول إنّ دخول الباء على (هل) اضطرار كما هو مقتضى مطبوع الإبانة، ولم أجد من يناقشه أو ينكره بل لم أجد من ينقله أو يشير إليه مع غموض الشاهد في الإبانة كما سلف، ويبدو لي أنّ البيت في الإبانة محرف، ولعله من النساخ.
على أن العوتبي نفسه قد يشك في الشاهد الذي ينقله، ومِن ذلك ما قاله بعد قول الشاعر:
رمتْهُ أناةٌ من ربيعة عامر نؤُومُ الضُحى في مأتِم أي مأتَمِ
قال العوتبي: “لعله فتاة”[11].
والذي يؤيد أن بيت زهير في الإبانة غير صحيح ثبوتُ التحريف والتصحيف في الإبانة بل ثبوت الوهم والخطأ[12]، وقد نبَّهَ باحثٌ وازَنَ بين العين والإبانة في صيغ التعجب على “أن النص الوارد في كتاب العين أكثر دقة مما في الإبانة”[13]
وإنْ فرضنا أنّ البيت في الإبانة غيرُ محرف واحتكمنا إلى قواعد الترجيح بين النقلين (رواية العين ورواية الإبانة)؛ رجحت رواية العين. قال أبو البركات الأنباري: “اعلم أنه إذا تعارض نقلان أُخِذ بأرجحهما، والترجيح يكون في شيئين. أحدهما: الإسناد، والآخر: المتن؛ فأما الترجيح في الإسناد؛ فأن يكون رواة أحدهما أكثرَ من الآخر، أو أعلمَ وأحفظَ … وأما الترجيح في المتن؛ فأن يكون أحد النقلين على وفق القياس، والآخر على خلاف القياس”[14] فالترجيح من جهة الإسناد بيِّن، وأما من جهة المتن فلم أجد من يقول: إنّ حرف الجر (الباء) يدخل على حرف الاستفهام (هل) للاضطرار، ولذلك رجحت رواية العين.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] الإبانة، 4/565.
[2] أمالي ابن الشجري، 3/107.
[3] كتاب العين، (هلل).
[4] لسان العرب (هلل)
[5] شرح شعر زهير بن أبي سلمى، تحقيق: فخر الدين قباوة، مكتبة هارون الرشيد، دمشق، ط3، 1428هـ – 2008م، ص113.
[6] جمهرة اللغة، (صلو).
[7] الإبانة، 4/566.
[8] الإبانة، 2/76.
[9] ديوان الأعشى الكبير، تحقيق: محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، ط1، 2010م، 2/290.
[10] مسند أحمد، ج9، ص347، رقم الحديث 5486.
[11] الإبانة، 4/293.
[12] ينظر: مع العوتبي في كتاب الإبانة (1) و (2)، وتحريفات وتصحيفات في كتاب الإبانة (1).
[13] صيغ التعجب في كتاب الإبانة للعوتبي: صلاح جرار، ضمن بحوث ندوة العوتبي الصحاري، منشورات جامعة آل البيت، 2009م، 2/760.
[14] لمع الأدلة: أبو البركات الأنباري، تحقيق: سعيد الأفغاني، دار الفكر، ط2، 1971م، ص136-137.