لا صوم إلا بنية([1])

عزان بن سعيد بن سيف الخوالدي
أصل هذا الضابط حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”([2]), فلا صوم إلا بنية, كما هو ظاهر الحديث.
الأمر الأول: شرح الضابط:
المراد بهذا الضابط أنه لا صوم صحيح إلا بنية من الليل, فمن أصبح ولم يبيت نية
الصيام فصيامه غير صحيح؛ لأن صحة الأعمال مرهونة بنياتها- كما سيأتي-.
وقد ذهب الجمهور([3])؛ الإباضية([4]), والمالكية([5]), والشافعية([6]), والحنابلة([7]) إلى اشتراطها في الصوم, فلا يصح عندهم الصوم إلا بنية, فالنية شرط صحة للصيام.
الأمر الثاني: أدلة الضابط:
الدليل الأول: عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”([8]).
وجه الدلالة:
أولا: أي صوم يصومه الإنسان فرضا كان أو نفلا داخل في عموم لفظ الحديث, وذلك أن قوله: “لا صيام” نكرة في سياق النفي فتعم كل صيام, ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت([9]) كما سيأتي في صيام النفل.
ثانيا: الظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة؛ لأنها أقرب المجازين إلى الذات, أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية, فيتم الاستدلال به على عدم صحة صوم من لم يبيت النية([10]).
وقد علق الإمام السالمي في طلعة الشمس على حديث: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”([11]) بقوله: “ولولا تقدير الصحة في الحديث ما صح هذا الكلام شرعا”([12]).
ثالثا: قوله: “من الليل”, يشير إلى وقت النية, فالنية المعتبرة هي التي تكون قبل الفجر, فإذا لم يبيت الصوم من الليل فلا صوم له([13]).
كما أنه لابد من تحقيق النية وأن تكون جازمة, أما المتردد والشاك فلا يعتد بنيته, كمن يصبح صائما على قصد الاحتياط مخافة أن يكون من رمضان ثم يصح الخبر أنه منه, فهذا لا يجزئه عن قضاء ذلك اليوم, لأنه إنما بنى صومه على الشك, والفرض لا يؤدى بالشك([14]).
فنخلص مما سبق أنه لا صوم صحيح إلا بنية جازمة من الليل.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عباس عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَات وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”([15]).
وهذا الحديث يدل أيضا على اشتراط النية في الصوم مطلقا, ووجه الدلالة منه أن الصوم عمل من الأعمال, فيدخل في عموم الحديث.
قال الإمام السالمي: “الأعمال لا تجوز حتى يتقدمها النيات”([16]), أي أنها لا تصح من غير نية تتقدمها, بدليل قوله في شرح الجامع عند تعليقه على الحديث: “والصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال, فالحمل عليها أولى”([17]).
الأمر الثالث: تطبيقات الضابط:
- تبييت النية لصوم النفل: صوم النفل كغيره من الصيام يدخل في عموم حديث: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”([18]), فالأصل في مريد صوم النفل أن يبيت النية من الليل –كما تقرر سابقا- , فإن لم يبيت النية فلا صوم له, والخلاف الحاصل في اشتراط تبييت النية لصوم النفل وعدم الاشتراط إنما هو قائم على وجود أدلة جاءت في النفل خاصة([19]), فمن لم يشترط تبييت النية أخرج النفل من العموم بتلك الأدلة.
فدل ذلك على أن الأصل هو تبييت النية “ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت”([20]).
- من أصبح صائما على قصد الاحتياط مخافة أن يكون من رمضان فصح الخبر فعليه بدل يومه؛ لأنه إنما بنى على شك, والفرض لا يؤدى بالشك([21]).
- المسافر إن نوى الإفطار من الليل ثم رد النية إلى الصوم قبل أن يصبح فلا بأس عليه؛ لأن النية المعتبرة هي التي تكون قبل الفجر ولو بقليل, وإن لم ينزع نية الإفطار حتى أصبح فقد أصبح مفطرا, أكل أو لم يأكل, ولزمه بدل يومه([22]).
- المسافر إن أصبح مفطرا ثم دخل بلده, فإن أكل قبل دخول البلد يستحب له الإمساك عن الأكل, فإن لم يمسك فلا بأس عليه, وإن لم يأكل قبل الدخول فليس له أن يأكل في بلده؛ لأنه بمنزلة من أصبح صائما في وطنه, وقد كان الفطر مباحا في السفر وهو قد خرج عن حكمه([23]).
هكذا أورد الإمام السالمي المسألة في معارج الآمال, والقول بأن من لم يأكل قبل الدخول يصبح بمنزلة من أصبح صائما في وطنه فيه نظر, فإما أن يقال بلزوم الإمساك مطلقا أكل أو لم يأكل, أو يقال بعدم اللزوم مطلقا أكل أو لم يأكل؛ لأن العبرة بالنية قبل أن يصبح وليس بالأكل, فمن أصبح على نية الإفطار فهو مفطر ولو لم يأكل.
لتحميل المقال اضغط هنا
([1]) هذا هو الضابط الثاني من ضوابط الصيام عند الإمام السالمي من كتاب معارج الآمال.
([2]) النسائي, السنن الكبرى, رقم الحديث 2655, مرجع سابق ج3, ص170.
([3]) بل نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك في المغني حيث قال: “لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا”, ابن قدامة, عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي, المغني, تحقيق: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو, ط3, (الرياض: دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع, 1997م), ج4, ص333, ويعكر عليه مخالفة عطاء ومجاهد والزهري وزفر لهذا القول, حيث قالوا: يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية, فرمضان عندهم لا يصح فيه غير صوم رمضان لتعينه, فلا يفتقر إلى نية؛ لأن الزمن معيار له فلا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد, انظر: الكاساني, أبو بكر بن مسعود, بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع, ط1, (مصر: مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر, 1328هـ), ج2, ص83, وابن عابدين, حاشية ابن عابدين, ج2, ص403, والنووي, المجموع, مرجع سابق, ج6, ص300, والسالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص228, وستأتي أدلة الجمهور في المسألة والنصوص التي اعتمدوها.
([4]) انظر: ابن بركة, عبد الله بن محمد البهلوي, كتاب الجامع, تحقيق: د. مصطفى بن صالح باجو, د.ط, (سلطنة عمان: وزارة التراث والثقافة, 2017), ح2, ص1054, و الشماخي, عامر بن علي, كتاب الإيضاح, ط6, (سلطنة عمان: مكتبة مسقط, 2014م), ج2, ص285, والسالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص229.
([5]) انظر: الحطاب, مواهب الجليل, مرجع سابق, ج2, ص418.
([6]) انظر: النووي, المجموع, مرجع سابق, ج6, ص300.
([7]) انظر: ابن النجار, محمد بن أحمد الفتوحي, منتهى الإرادات مع حاشية ابن قائد, تحقيق: عبد الله التركي, ط1, (بيروت: مؤسسة الرسالة, 1999م), ج2, ص17, وابن قدامة, المغني, مرجع سابق, ج4, ص333.
([9]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص228. وابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص1054.
([10]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص229.
([12]) السالمي, طلعة الشمس, مرجع سابق, ج1, ص257.
([13]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص137.
([14]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص137.
([16]) السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص134.
([17]) السالمي, عبد الله بن حميد, شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي, ط10, (سلطنة عمان: مكتبة الإمام السالمي, 2004م), ج1, ص12.
([19]) كحديث السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: “هل عندكم شيء؟” فقلنا: لا, قال: “فإني إذن صائم”, ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس, فقال: “أرينيه فلقد أصبحت صائما”, فأكل. انظر: مسلم, مسلم بن الحجاج النيسابوري, الجامع الصحيح, رقم الحديث: 1154, د.ط, تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي, (بيروت: دار إحياء التراث العربي, د.ت), ج2, ص809.
([20]) السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص236.
([21]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص236.
([22]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص168.
([23]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص172.