كـلانــا علـى خيـــر

عمر بن أحمد بن حمد الخليلي
إن من حكمة الله -عز وجل- أن جعل الناس على طبائع وسجايا مختلفة، وأفكار وقدرات متباينة، وفضّل بعضهم على بعض في نِعم “ليتخذ بعضهم بعضا سُخريّا”.
وعلى الرغم من بداهة هذا الأمر وجلاء ضرورته لاستقامة الحياة، إلا أن في الناس من لم يدرك سنة الله في خلقه، فما في الأعمال عمل تقوم به الأمة إلا عمله، وليس في طرق الدعوة إلى الله طريق سديد إلا ما اختطّه لنفسه، وما في الجوادّ المسلوكة في تعليم الأجيال وتربيتهم جادّة صحيحة إلا ما رآه!
وعلى ما سمعت فقِس!
وقد كانت هذه النظرة الضيقة قديمة في أفراد هذه الأمة، وإليك قصة حدثت لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رواها الحافظ ابن عبد البر في التمهيد يقول:
“إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيَّ العابد كَتَبَ إِلَى مَالِكٍ يَحُضُّهُ عَلَى الانْفِرَادِ وَالْعَمَلِ، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ : إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ الأَرْزَاقَ، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلاةِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الْجِهَادِ، ولم يفتح له في الصلاة، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وتعليمه مِنْ أَفْضَلِ أعْمَالِ البرّ، وَقَدْ رَضِيتُ بمَا فُتِحَ الله لِي فِيهِ من ذلك، وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيهِ بِدُونِ مَا أَنْتَ فِيهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ كِلانَا عَلَى خَيْرٍ وَبِرٍّ، ويجب على كلِّ واحدٍ منَّا أن يرضى بما قُسِمَ له، والسَّلام”[1]
وعلّق الذهبي على النقل السابق في ترجمته لمالك في (تاريخ الإسلام) بقوله “ما أحسن ما جاوب مالكٌ العمريَّ عليه بسابق مشيئة الله في عباده، ولم يُفضّل طريقته في العلم على طريقة العمري في التألّه والزهد”[2]
وفي هذا الجواب من إمام دار الهجرة قبس من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتلمّس المتأمل في سيرته ما يدل على هذا المعنى، فمن ذلك ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من اختلاف الإجابة عن سؤال واحد هو “أي العمل أحب إلى الله؟”
فكانت إجابته عليه الصلاة والسلام مختلفة مع اتحاد السؤال، ويعلّل الحافظ ابن حجر اختلاف الإجابات بقوله “ومحصّل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم…”[3]
ومن مأثور الكلام عن سيّدنا المحدَّث الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله “من بورك له في شيء فليلزمه”[4]
وفيه دلالة على أن المرء قد يُفتح له في باب من الخير دون غيره، ولا يلزم أن يسحب الناس إلى هذا الباب سحبا، “فكلٌّ ميسّر لما خلق له”[5]
وإذا تأمل متأمل في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وجد ظاهرة ما يمكن أن يسمى (ترشيد المواهب) ظاهرا جليّا في سيرتهم، وفي تعامل النبي صلى الله عليه وسلّم معهم.
فهذا سيدنا أبو ذر رضي الله عنه الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة منه يقول للنبي صلى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال “يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها”[6]
وهذا سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه لم يؤثر عنه الفتوى في الفقه، بل كان محفوظه من كتاب الله يسيرا لاشتغاله بقيادة الجيوش وتسيير جحافل الجهاد.
وذاك أبو هريرة رضي الله عنه كان اهتمامه بحفظ السنة شاغلا له عن التكسُّب والإنفاق.
بل حتى في العلم، كان التخصص في أبواب منه والتميُّز ببعضها ظاهرا في ذلك الزمن فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم -والحديث لا يخلو من مقال- “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح”[7]
ومن طريف الشكوى من عدم فهم هذه السنة في الحياة ما سطّره الأديب الكبير ياقوت الحموي في مقدّمة موسوعته (معجم الأدباء) “وإني لجِدُّ عالم ببغيض يندّدُ ويزري عليَّ، ويُقبل بوجه اللائمة إليّ، ممن قد أُشربَ الجهلَ قلبُه، واستعصى على كرم السجية لُبّه، يزعم أن الاشتغال بأمر الدين أهمّ، ونفعه في الدنيا والآخرة أعمّ؛ أما علم أن النفوس مختلفة الطبائع، متلونة النزائع؟ ولو اشتغل الناس كلهم بنوع من العلم واحد لضاع باقيه، ودَرَسَ الذي يليه.
وإن الله جلّ وعزّ جعل لكل علم من يحفظ جملته، وينظم جوهرته، والمرء مُيسّر لما خُلق له.
ولستُ أنكر أني لو لزمتُ مسجدي ومصلّاي، واشتغلت بما يعود بعاقبة دنياي في أخراي [لكان] أولى، وبطريق السلامة في الآخرة أحرى، ولكنّ طلب الأفضل مفقود، واعتماد الأحرى غير موجود، وحسبُك بالمرء فضلا ألا يأتي محظورا، ولا يسلك طريقا مخطورا”[8]
وهذا لا يعني أن يُغلق المرء على نفسه بابا فتحه الله له، فقد يُفتح للمرء من سبل الخير أبواب متنوعة، ليستكثر منها لنفسه الخير، وتلك نعمة من الله جزاؤها الشكر، ولكن القصد ألا يُلام من ترك بابا من الخير لغيره ما لم يكن عليه واجبا عينيّا أو واجبا كفائيا لا يقوم به غيره.
كما لا يعني ما سبق التسويغ لمن تخاذل عن نصرة أمته في ساعة العسرة، وتولّى بقلمه عنها يوم الزحف، وإنما القصد ألّا تُحصر سبل الخير في جانب ضيّق وزاوية محدودة، وقد علم كلُّ أناس مشربهم.
هل وصلت الفكرة؟
أرجو ذلك!
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] التمهيد (7/185) وكذلك: سير أعلام النبلاء (8/114)
[2] تاريخ الإسلام (11/329)
[3] فتح الباري (2/7)
[4] نقلها ابن تيمية عن بعض السلف في مجموع الفتاوى (18/123) والله أعلم بصحة نسبتها إلى عمر
[5] رواه مسلم برقم (2647)
[6] رواه مسلم برقم (1825)
[7] رواه الترمذي برقم (3791)
[8] (1/9)