كـــلمة فــي الكــرامـــات

عمــر بن أحمـــد بن حمــد الخليلــي
لا شكّ أن موضوع خوارق العادات عموما والكرامات خصوصا من المواضيع التي يكثر الجدل حولها في زمن تلطّخ بأوضار النزعة المادية الغالية التي تحصر حدود المعرفة في التجربة والحس فقط، وتنفي ما وراء ذلك من غيوب وتعدُّها رجما بالظن وخوضا في الوهم.
وقد ثارت هذه القضية مؤخّرا وطَفَت على السطح، فاشتبكت فيها الألسنة واشتجرت حولها الأقلام، بين ذائد عنها وعادٍ عليها، ولن أتكلّم هنا في بواعث إظهار هذه المسألة تحديدا في هذا الوقت، ولا في سبب عرضها بالصورة التي عُرضت بها، فالله حسيبُ كل من امتطى متنها ذلولا لبلوغ غاية دنيئة وطليبُه.
ابتداءً لا بد من تقرير أن الإسلام ربط بين عالَمي الغيب والشهادة بما لا يدع مجالا للتشكيك في علاقة أحدهما بالآخر، وبيّن أن لبعض الظواهر المحسوسة أسبابا غير مادّية لوقوعها، كما في قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: ١٠-١٢] وكما في قوله تعالى (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: ١٦]
إلى غيرها من الآيات والأحاديث الدالة على أن للظواهر المادية في الكون أسبابا خارجة عن إطار المادة والحس، كما أن لها أسبابها المادية المعروفة.
هذا لتقرير أن الله سبحانه وتعالى قد يرتّب بعض الحوادث على غير المألوف من الأسباب الظاهرة لنا.
ومن أظهر ما يمكن الاستدلال به على خرق العادات وترتيب الحوادث بدون أسباب ظاهرة: معجزات الأنبياء التي ذُكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية، على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم.
ثم بعد أن تقرر هذا الأصل نفرّع عليه أن الكرامات الواقعة للأولياء لا تعدو أن تكون صورة من صور ترتيب الآثار المادية على غير أسباب حسية لأمر أراده الله سبحانه وتعالى ولحكمة منه جلّ وعلا.
فهنا يتبيّن أن خوارق العادات ليست مما يعارض قاعدة شرعية في الإسلام، ولا يعارض -بطبيعة الحال- قاعدة عقلية ولا حسيّة لاتفاق المسلمين على أن الإسلام لا يأتي بمحالات العقول.
ولا يمكن أن يقال إن الجواز العقلي إنما هو في المعجزات فقط لنزول الوحي بها دون الكرامات، فالدليل العقلي لا يصح تخصيصه بحال.
فإذا تقرر الجواز العقلي والشرعي نأتي لأدلة ثبوت الكرامات من الوحي، وأقتصر هنا على أدلة ثلاثة روما للاختصار:
- قصة أصحاب الكهف، وما جاء فيها من لبثهم في الكهف ثلاثمئة وتسع سنين (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف: ٢٥]، وهذا دليل لا يصح لمجادل أن يجادل فيه إلا بمكابرة أو جحود، فإنّ أصحاب الكهف ما كانوا أنبياء حتى يقال إنها معجزة وليست كرامة، بل كانوا فتية فرّوا بدينهم من جور أهل قريتهم.
- قصة النفر الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، والتي رواها البخاري وغيره عن ابن عمر قال “سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوُا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شَيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الَّذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئُ بي! فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ”[1]
فإن الصخرة قد انفرجت بدعائهم وتوسلهم، وهذا سبب لا يدخل في الأسباب المادية التي تؤثّر على الصخرة كي تنفرج[2].
- ما رواه أبو هريرة قال:صَلَّى رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: بيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقالَتْ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهذا، إنَّما خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فَقالَ: فإنِّي أُومِنُ بهذا أنَا، وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ -وما هُما ثَمَّ- وبيْنَما رَجُلٌ في غَنَمِهِ إذْ عَدَا الذِّئْبُ، فَذَهَبَ منها بشَاةٍ، فَطَلَبَ حتَّى كَأنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا منه، فَقالَ له الذِّئْبُ هذا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فمَن لَهَا يَومَ السَّبُعِ، يَومَ لا رَاعِيَ لَهَا غيرِي؟! فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قالَ: فإنِّي أُومِنُ بهذا أنَا، وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ. وما هُما ثَمَّ”[3]
فاللهم إني أومن بما آمن به رسولك صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر!
بقي بعد تقرير ثبوت الكرامات جملة أن أنبه على بعض التنبيهات في هذا الموضوع مما قد يلتبس من تفاصيل هذا الأمر:
- الأصل في الإنسان أنه يطلب من الله سبحانه وتعالى الاستقامة، فهي الكرامة الحقيقية التي ينجو بها عند الله سبحانه وتعالى، ولن يغني عنه من الله تعالى شيئا أن يكون في دنياه ممن تجري على أيديهم خوارق العادات إذا كان مفرّطا في دينه ومضيّعا لحقوق ربّه.
- لا يضرُّ العبدَ الصالحَ شيئا ألّا يكون من أهل الكرامات وخوارق العادات، فالمقام عند الله تعالى لا يرتبط ألبتة بهذه الأحوال، فإن صحابة النبي صلى الله عليه وسلّم -وهم أبرُّ الناس قلوبا وأزكاهم إيمانا- لم ينقل عنهم من الكرامات إلا بعض المواقف لبعضهم، كما في قصة عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- وسارية، وعمر العملاقُ بهذه الحادثة هو عمر العملاقُ بدونها، فلم يزد حبه في قلوبنا ولا ارتقت منزلته عند ربه لهذه الكرامة التي حصلت له، وإنما رفع مقامَه عمله الصالح الذي يقدّمه بين يدي ربه يوم يلقاه.
يقول ابن تيمية بعد تقسيمه للخوارق إلى خوارق علم وخوارق قدرة “وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق عِلما وقدرةً لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يُسخّر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله؛ بل قد يكون عدمُ ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصا مذموما، إما أن يجعله مستحقا للعقاب، وإما أن يجعله محروما من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابَه، وأما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم”[4]
- لا يُبنى على حدوث خارق لعبد من عباد الله حكم شرعي بصلاحه أو تقواه، فقد يكون ذلك من باب الاستدراج -والعياذ بالله- فمن جرت على يده بعض الخوارق في حياته، أو حتى حال موته كأن يكون مثلا في حال موته مبتسما، أو فاح منه طيبٌ، أو غير ذلك من الأحوال التي قد تدل على حسن الخاتمة، فلا يكفي ذلك للحكم عليه بصلاح، ولا لوصفه بالتقوى، وقد لخّص الإمام الشافعي هذا المعنى في قوله “إذا رأيتم الرجل يمشي في الماء، ويطير في الهواء، فلا تعتبروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة”[5]
- ليس في إثبات وجود جنس الكرامات دليل على ثبوت كرامة بعينها
بمعنى أن لو وردت علينا قصة بكرامة ما لإنسان ما لا يلزمنا أن نصدّقها وإلا نقضنا الأصل العام وهو إثبات وجود الكرامات.
بل لا يمكننا إثبات كرامة لوليّ بعينه إلا بعد تحقق معايير قبول الأخبار عليها فمن ذلك:
- أن تكون مروية بسند صحيح إلى الذي عاين الحادثة بنفسه
- ألا يكون في القصة ما هو منكر ويأبى العقل وقوعه كاجتماع ضدين، أو ارتفاع نقيضين مثلا.
- ألا نجزم بكونها كرامة لذلك العبد، ولكنها فيما يظهر كرامة؛ إذ قد تكون استدراجا له -والعياذ بالله-، بل نجزم بخروجها عن الإكرام لو كان فيها مخالفة ظاهرة لشرع الله تعالى، كقتل النفس المؤمنة، أو ترك شيء من الفرائض.
وإذا ألقينا نظرة عابرة على ما يتناقله الناس من كرامات فإننا نجدها أبعد ما يكون عن تحقق هذه الشروط، ومن الطريف أننا كثيرا ما نسمع عن كرامات للوالد -حفظه الله- وحين نسأله عنها يكون أول منكر لها ومستغرب منها، وفي بعضها من النكارة ما يظهر للمرء من أول وهلة.
فمن ذلك أن بعض الناس رووا عنه كرامة وقعت في أحد مواسم الحج، فسألناه -حفظه الله- عنها، فأجاب بأنه لم يكن حاجّا أصلا في تلك السنة!
وكانت مخايل الدهشة في وجهه بادية، ومعالم الاستنكار للقصة ظاهرة في ردّه لتلك القصة.
ومن أسف أقول: إن التفريق بين إنكار جنس الكرامات وآحادها غير حاضر عند كثير من طلبة العلم، بله عامة الناس، ولا أزال أذكر أني كنت في مجلس جمعني مع بعض أفاضل طلبة العلم ممن له جهد مشكور في الدعوة والإصلاح فحكى إحدى هذه القصص التي تُتناقل عن بعض الأولياء دون أزِمّة ولا خُطُم، وبالغ في النكير على من يشكك في مثل هذه القصة حتى إنه ليكاد أن يساويه بمن ينكر معلوما من الدين بالضرورة!
والبعض يظن -جهلا- أن إنكار نسبة كرامة معيّنة لأحد العلماء تنقّص من مقام العالم، ونيل منه.
“وأحب أن يعرف القارئ الكريم أنني لا أنكر أبدا أن لله تعالى أن يهب ما يشاء من كرامات لمن يشاء من عباده، ومع ذلك فأنا أقف إزاء ما يروى منها في كتب السير والتاريخ موقفا فيه بعض التأني والاحتراز.
وأحب أن أؤكد هنا أن نفي صدور أية كرامة عن أي شخص وعدم التصديق بها لا يدل أبدا على الطعن في الشخص نفسه، أو الاستهانة بقدره، أو التنقيص من علمه وفضله وصلاحه؛ لأن فضائل الشخص وعلمه وصلاحه وعمله لها مظاهر أخرى غير مظهر الكرامة، ولها مجال غير مجال الكرامة، وصفات الفضل والعلم والصلاح تثبت لصاحبها دون احتياج إلى الاستناد على الكرامة”[6] كما يقول الشيخ علي يحيى معمر
- لا يجب لكون الكرامة حقيقة ثابتة نقلها وإشاعتها بين الناس، وإن من فقه المرء ألّا يأتي في مجالس وعظه، بل ولا في مجالس العلم ما تنبو عنه أفهام السامعين، ومن مأثور القول عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله ” ما أنْتَ بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إلَّا كانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً”[7]
والكرامات العينيّة ليست مما يجب الإيمان به، ولا يضرّ جهلها، فضلا عن الإنكار على من لم يؤمن ببعضها، فلو فرضنا أن المتحدّث متيقّن تمام اليقين بوقوع تلك الكرامة، فما الداعي لذكرها أمام من قد تفتنه تلك القصة في دينه، وتوقعه في الريب والشك؟
بل إن الحكمة تقتضي السكوت عن بعض ما جاءت به الشريعة مما قد لا يطيق بعض العامة سماعه، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب قال “حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسولُهُ؟!”[8]
وليس في هذا السكوت كتم لعلم واجب، ولا تفريط في تبليغ الدين، ولكن فقه جلب المصالح ودرء المفاسد يقتضي ذلك، خاصة في زمن شاع فيه المتربصون بالدعاة والمصلحين، والذين قد يحمّلون القول ما لم يحتمل.
- لا يُبنى على إنكار الكرامات العينية -ولو ثبتت- حكم شرعي في المنكر لها، فلو سمع أحد عن كرامة ثابتة لعالم بعينه نُقلت بتواتر العدول عن مثلهم من مبتدأ سندها إلى منتهاه ممن يستحيل على مثلهم التواطؤ على الكذب عادة فردّها دون سبب مقبول، وإنما لسبب موهوم عنده، فلا يثبت له حكم بتفسيق ولا تضليل، لأنه لم ينكر شيئا من شرع الله فلا يرتبط بفعله حكم من أحكام الشرع، وإنما قصارى حكمه أن يكون كمن أنكر وجود قارة تدعى (أستراليا) أو أنكر محرقة الهولوكوست!
بل ينقل في هذا محمد عبده الإجماع فيقول “وإنما الذي يجب الالتفات إليه هو أن أهل السنة وغيرهم في اتفاق على أنه لا يجب الاعتقاد بوقوع كرامة معيّنة على يد ولي لله معيّن بعد ظهور الإسلام، فيجوز لكل مسلم بإجماع الأمة أن ينكر صدور أي كرامة كانت من أي ولي كان، ولا يكون بإنكاره هذا مخالفا لشيء من أصول الدين، ولا مائلا عن السنة الصحيحة، ولا منحرفا عن الصراط المستقيم، اللهم إلا أن يكون مما صح في السنة عن الصحابة”[9]
وأرجو ألّا يحمّل المقال فوق طاقته، وألا يقوّل صاحبه ما لم يقل
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] رواه البخاري برقم (2272)
[2] عدّ هذه القصة في الكرامات فيه تجوّز، فهي لا تدخل في المعنى الاصطلاحي للكرامات، ولكنها داخلة في المعنى الإجمالي لكونها خارقا وقع لغير نبي.
[3] رواه البخاري برقم (3471)
[4] ابن تيمية، قاعدة في المعجزات والكرامات، ص26
[5] شرح ابن أبي العز على الطحاوية ص769
[6] في تقديمه لكتاب روايات الأشياخ للبغطوري، ص78
[7] رواه مسلم في مقدمة صحيحه
[8] رواه البخاري برقم (127)
[9] محمد عبده، رسالة التوحيد، ص159