الكتب والتراجم

قراءة في شخصية الإمام السالمي –رحمه الله- من خلال عناوين كتبه

قراءة في شخصية الإمام السالمي –رحمه الله- من خلال عناوين كتبه[1]

إبراهيم بن عبد الله بن سالم آل ثاني

 

إن العناية بالتعرف على شخصيات العظماء تعين المرء على التحلي بصفاتهم واقتفاء منهاجهم في الرقي إلى معارج المجد وبلوغ مراتب الشرف والفضل، ومما لا يخفى على عاقل حصيف أن ما يكنه المرء من خلال، وما تنطوي عليه نفسه من شمائل؛ ينعكس على آثاره لتدل على أصلها، ولا ريب أن الثمرة لا تخرج من أكمامها إلا من جنس شجرتها، فإنك لا تجني من الشوك العنب كما لا تقطف الحنظل من شجر الرمان، وإنه مما شد انتباهي في هذا الباب ما ينطبع في آثار أهل العلم من صفاتهم وشخصياتهم على عناوين تآليفهم وكتبهم، وقد وجدت شيئا ظاهرا جليا من هذا الأمر في مؤلفات الإمام السالمي رحمه الله، فأحببت أن أتبين الأمر أكثر وأبينه حتى يظهر لغيري كما ظهر لي، وقبل ذلك ألفت النظر إلى أمرين يتعلقان بهذا الموضوع.

الأمر الأول: أن محاولة الولوج إلى استنباط صفات شخصية ما واستكناه مكامنها مِن قراءة بعض العناوين لمؤلفاتها لا يعدو أن يكون ذا نتيجة هشة لا تبرح مرتبة الظن الضعيف، وقد تعتمد على خيال المتلقي أكثر من اعتمادها على دلالات كلمات يسيرة لا تفصح عما وراءها وإن أفصحت فقد تصدق وقد تكذب، غير أنه قد ترقى بهذا الظن قرائنُ تحتفُّ به فتوصله إلى درجة الظن المفضي إلى الاطمئنان، وحينئذ فلا اعتراض هنا في أن يأخذ المريد منه بغيته، وتزداد درجة الظن وتضعف بمقدار القرائن عددا وعدة، والناظر فيما سيأتي من عرض لشخصية الإمام السالمي يجد أن الأمر ظاهر يقنع بظهوره المتأمل ويدفع بوضوحه اعتراض المنكر.

الأمر الثاني: أن الأصل أن تكون عناية المؤلف بعنوان كتابه كبيرة، فلا يرضى له عنوانا لا يلائم تطلعاته وهواجسه النفسية، وهذا مما يدخل فيما سبق من أنه قرينة تقوي الظن بصلة مضامين كلمات العنوان ودلالاتها بشخصية المؤلف، وإن كان ليس لازما، وأظهر ما يدل على ذلك ما يحكيه الواقع من وجود مؤلفات لم يضع لها مؤلفوها عنوانا أو أنها لا تحكي شيئا عن أصحابها.

وبعد هذا فقد اتفق لي أن أذكر مثالين لكتب يبدو لي أنها تعبر عن شخصية مؤلفيها.

الأول: كتاب المحلى للإمام ابن حزم الظاهري، فاختيار ابن حزم لهذا العنوان متناسب مع شخصيته، فهو من أهل الغنى واليسار، وأهل الغنى تكثر معهم الحليّ ويشتغلون بها، وكذلك تعنيهم الزينة والجمال أكثر من غيرهم ممن جل همهم توفير حاجاتهم وضروراتهم، ذلك مع ما هو معروف من حال ابن حزم في نشأته وتربيته مما ذكره عن نفسه.

الثاني: كتاب إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمحقق الخليلي، فاختيار هذا العنوان منسجم مع شخصية المحقق انسجاما تاما، وكأنه يحكي حاله مع الواقع الذي عايشه الواقع الذي يقتضي إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ كان روح دولة الإمام عزان بن قيس.

وحينما نطلع على عناوين مؤلفات الإمام السالمي التي جاوزت الأربعين؛ نجد أن أكثرها عناوين مجازية توحي بدلالات ومعان متقاربة ومتعاضدة، فمن تلك المعاني البارزة بجلاء في مؤلفاته التي يدركها الناظر بسهولة الأمل الواسع والطموح الكبير عند مؤلفها، يتبين لك ذلك من عنوان كتاب (مدارج الكمال)[2] وكتاب (معارج الآمال) وكتاب (بلوغ الأمل) وكتاب (غاية المراد)، فكلها تشي بالأمل الواسع الذي أتبعه بالعمل الجادّ، وهو قرين علو الهمة عنده، إذ همته في بلوغ (مدارج الكمال) والعروج في (معارج الآمال) حتى يصل إلى (بلوغ الأمل) و(غاية المراد) و(الشرف التام) بـ(بذل المجهود) صدقا لا بالأماني والتسويف، وهو ما يشهد به تاريخه الحافل بالإصلاح الديني والاجتماعي والعلمي والسياسي، فهو صاحب النهضة العلمية في القرن الرابع عشر الهجري في عمان وطلبة العلم من عهده إلى اليوم عالة عليه، وهو الأساس الذي قامت به الإمامة الأخيرة بعمان واستمرت عقودا بعده[3]، ويكفي دلالة على علو همته وبعد أمله قوله وهو يعالج الموت مكرّرا: “سنقسم إن شاء الله مغانم الهند”[4] حثًّا على الاستمرار في نشر معالم الحق والهداية، ورغبة في نيل أجر النية في الجهاد.

والأمل الواسع وعلو الهمة لا يكونان إلا مع الثقة بالنفس والطمأنينة والرضى اللاتي ينبعثن من دلالات (بهجة الأنوار) و(واللمعة المرضية) فهو موقن بسيره على (طريق السداد) حتى تفيأ (روض البيان على فيض المنان) وارتوى من (المنهل الصافي) فكانت حياته مثالا يقتدى في ظاهر القيام و(جوهر النظام)، وهذه الصفة –الثقة بالنفس والطمأنينة والرضى- كذلك ثمرة من ثمرات اقتفاء الدليل والحرص على (الحق الجلي) بـ(الحجة الواضحة) و(الحجج المقنعة) التي هي (سواطع البرهان)، المنبعثة من (أنوار العقول)، لأن (مشارق أنوار العقول) تضاهي في سطوعها (اللمعة المرضية) التي تنشرها (طلعة الشمس) في (كشف الحقيقة) وبذلك يتلقى العبد من ربه (المواهب السنية) فضلا وكرما من المولى جل وعلا، وفي كل ما مضى تأكيد للصفة الأولى سعة الأمل، ودلالة على وضوح الهدف والغاية فضلا عن ظهور الحجة والدليل وإن كانت هذه الصفة لا تحتاج في إثباتها إلى أكثر من (إيضاح البيان)، وهي انعكاس ظاهر لما تنطوي عليه نفسه –رحمه الله- من صدق الضمير وإخلاص التوجه.

وهذه الصفات لا تجتمع إلا في من اتصف بـ(الشرف التام)، والمكانة العالية، وهو ما لم يعزب عن ذهن الإمام إذ ألف للكبراء من الأعيان (تحفة الأعيان)، ولكل امرئ جلساءه ممن يشتركون في المرتبة، وكفى بمن اقترن بالعلم ودعائمه من الحجج والبراهين والأنوار واتصف بالرضى والطمأنينة وتحلى بالصبر والجهاد شرفا ومكانة علية.

وأنت ترى أيها القارئ الكريم أن هذه الصفات متقاربة ومتلازمة في الغالب وهذا مما يؤيد صدق دعوانا، وقد يرى الناظر قريبا من هذه الصفات غير ما ذكر هنا، والناظر في سيرة الإمام وما قام به من أعمال لا يقوم بها إلا العظام من خواص الخواص يجدها تشهد لهذه الأوصاف، هذا ما يظهر، وحقائق الأمور عند المولى العليم الخبير، ولا نزكي على الله أحدا.

لتحميل المقال اضغط هنا 

– الصورة البارزة للمقال مأخوذة من واجهة أحد الكتب التي تحدثت عن شخصية الإمام.


[1] – أصل فكرة هذا المقال كلمة ألقيتها في مدرسة شيخنا الجليل حمود بن حميد الصوافي حفظه الله في حضرته مع طلبته قبل سنوات، وممن ذكر موضوع العلاقة بين عناوين كتب الإمام السالمي وشخصيته شيخنا أفلح بن حمد الخليلي في كتابه السياسة الشرعية، ولا يبعد أن يكون اقتباسي لأصل الفكرة ابتداء من سماعي إياه، فله الفضل.

[2] – كل ما وضع بين قوسين () فهو عنوان لمؤلف من مؤلفات الإمام السالمي رحمه الله، وللنظر في نسبة هذه المؤلفات ينظر: نهضة الأعيان بحرية عمان، لأبي بشير محمد شيبة بن نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، ص69-99، دار الجيل بيروت، ط1: 1419هـ/1998م. مفتاح الباحث إلى ذخائر التراث العماني، سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني، ص24-29، ذاكرة عمان، سلطنة عمان -مسقط، ط1: 1436هـ/2015م.

مقدمات تحقيق كتاب معارج الآمال للإمام السالمي، ص19-23، (نقلا عن الشيباني)، مكتبة الإمام السالمي، ولاية بدية-سلطنة عمان، ط1: 2008م.

[3] – تفاصيل ذلك مسطورة في الكتب التي عنيت بسرد سيرته.

[4] – مجموعة اللؤلؤ الرطب في إبراز مستودعات القلب، سعيد بن حمد الحارثي، ترتيب وتعليق: سالم بن سعيد البوسعيدي، ص133، دون بيانات أخرى.


يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.05 ( 6 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى