شهادات المنصفين بين الغلو والجفاء

عمــر بن أحمــد بن حمــد الخليلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقبل أيام كنت أقرأ في كتاب (الاستشراق الجديد) للكاتب عبد الله الوهيبي، وفي حديثه عن مهمة أعمال المستشرقين التي ركّزت على حياة النبي صلى الله عليه وسلّم قال “وإجمالا فالمنتج الاستشراقي الذي يتناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (يهدف في أسوأ الأحوال إلى الإساءة للنبي [صلى الله عليه وسلم]، وفي أفضل الأحوال إلى إدراج دعوته ضمن سياق يؤدي طبعه بطابع تاريخاني وسوسيولوجي إلى التخفيف من بُعده الميتافيزيقي)[1]“[2]
وكان كلامه هذا في سياق نقل نصوص متباينة للمستشرقين وموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم، والدوافع الأيدولوجية لبعض المواقف التي قد يظهر فيها شيء من التعظيم لجناب النبي صلى الله عليه وسلّم أو الانبهار بسيرته، ثم إنّه زفر زفرة أودعها في هامش النقل السابق يقول فيها “ولا يزال بعض الكتّاب والخطباء من العرب والمسلمين يقتبس مقولات لمفكرين غربيين -ممن عاش في حقبة التنوير أو ما تلاها- تشيد بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تخفى عليهم الخلفيات “العقلانية” والسياق الأيدولوجي العلماني، والطابع الذرائعي الذي سمح لهذه المقولات بالظهور كما أشرتُ أعلاه، كما تتضمن هذه الممارسة الشائعة تفخيما وتعظيما -مضمرا أو ظاهرا- مبالغا فيه لهذه الشخصيات الأعجمية، بغرض استثمار هذا “التفخيم” الموهوم في تضخيم القيمة الأدبية والتاريخية لمقولاتهم.
وينعكس تكريس هذه الممارسة الخطابية سلبا على العناية بالأدلة والحجج الداخلية للبرهنة على علو قدر الشريعة وجلالة الشارع”[3]
لا أُفشي سِرًّا إن قُلت للقارئ أنني حينما وقفت على هذا النصّ وقفت أتأمله، ولم يمرَّ عليَّ مرورا عابرا، إذ إنه قد صادف موقعًا لسؤال أثير في نفسي، وهو السؤال عن أثر سَوقِ شهادات المخالفين -من يهود ونصارى ولا دينيين- على عظمة الإسلام أو نبيّه، أو عن جمال تشريعات القرآن، ونحوها مما يكثر تداوله في كتابات الدعاة ومحاضراتهم.
لا أريد أن أكون حدِّيّا في الحكم، ولكن في ظنّي أن سرد هذه الشهادات من كل مخالف للإسلام للاحتجاج على عظمة الإسلام وتثبيت قلوب العامة وطمأنتها على صحة هذا الدين مما يربو ضررُه على نفعه!
وقبل ذكر آثار الاستدلال بهذه الأقوال على صحة الإسلام، نحتاج إلى النظر والبحث في البواعث التي تدفع بنا إلى الفرح والانتشاء والمسارعة في نشر أيِّ كلام يُشيد بالإسلام، أو يُثني على شيء من تعاليمه، وهل كان هذا الأمر شائعا قبل الهزيمة النفسية التي مُني بها المسلمون؟ أم أنها أثر لخضوعنا لسطوة الثقافة الغالبة وسُلطتها؟
هل نرى مثل ردة الفعل هذه حين يُثني مسلم متسامح -وما أكثرهم- على تعاليم اليهود أو النصارى؟
أجد أن هذه الظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظرة الدونية لأنفسنا أمام الغرب، وأن مدح الغربيّ لنا منقبة ومدعاة للفخر والاعتزاز، “والسبب في ذلك: أنّ النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه”[4].
وقد يجادل مجادل بأن قيمة هذه الشهادات ليست في ذوات أصحابها، وإنما في كونهم مخالفين لنا ويقرّون بحقّ ما عندنا، كما في قوله تعالى (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) أو قوله (وشهد شاهد من أهلها)
وكما قال السريُّ الرفّاء:
وشمائل شهِد العدوّ بفضلها والفضلُ ما شهِدَت به الأعداءُ
وهذا في الجملة مقبول، ولكن يبقى الإشكال في كون (الأعداء) ليسوا أصحاب الأعين الزُّرق والشعور الشُّقر فقط!
فلِمَ لا تُذكر -على سبيل المثال- شهادات الفلبينيين والهنود والتايلانديين، أو سكان أمريكا الوسطى؟
في غالب الظنّ أن السبب هو خضوع العوامّ -والخواصّ أحيانًا- للسلطة الغالبة، وليس الاعتبار لكونهم أعداءً أو مخالفين لنا.
وأضرار هذا الاستدلال بهذه الشهادات ظاهرة، وإن كانت لها فوائد عاجلة -فيما يبدو- إلا أن ضررها أكبر من نفعها، فمن ذلك:
- ترسيخ النفسية المنهزمة في ثقافة المسلمين، باعتبار شهادات الغربيين هي الدليل على صحة ما نحن فيه، بل في طريقة عرض بعض الدعاة يظهرون كالغريق المتعلّق بهذه الشهادات! فهو لا يكاد يسوق دليلا على صحة الإسلام أصلا، وإنما يكتفي بسوق هذه الشهادات للتدليل على صحته!
- التوسّع في الجانب الخطابي العاطفي على حساب الجانب العقلي العلمي، والإشكال الأكبر أنّ هذا الخطاب يلبس لَبوس العلم والعقل في طرحه، بل وقد يكون أصحابه ممن يرون نبذ الطرق (التقليدية) ويدعون لـ(تجديد الخطاب الديني)
- تشويه مسالك التلقّي وطرق الاستدلال لدى العامة، وهذه المشكلة فرع عن المشكلة السابقة؛ فـ”ذكاة الجنين ذكاة أمه”!
فإذا صارت الأقوال المجرّدة دليلًا بذاتها، فلا تسل بعد ذلك عن حسٍّ نقديٍّ ولا عن ملكة يستبين بها صاحبها مراتب الأدلة.
- أنها حلٌّ مؤقّت وسطحي لمن لديه وساوس أو شكوك في الإسلام؛ فهو لن يلبث حتى يتبيّن له فساد الاستدلال بهذه الشهادات، ولو طردنا القاعدة لقلنا إن الإسلام دين باطل ومتخلّف؛ فنفس الطبقة من المثقفين الغربيين الذين ننتقي منهم من يُلمَح من كلامه مدح للإسلام، يوجد فيهم مئات -بل آلاف- ممن يطعنون في الإسلام ويكيلون له التهم، فلِمَ نصدّق هؤلاء ولا نصدّق أولئك؟
- أنها مُوهِنة للتسليم المطلق لله تعالى ورسوله، فتجد بعض الناس يجد في صدره حسيكة من شرع الله تعالى حتّى يعلم أن في الغرب مَن يؤيده فتسكن نفسه ويهدأ روعه، وأذكر أن أحد أصحابي كان في مقابلة عمل له، وكان قد كتب في سيرته الذاتية بعض البحوث التي كتبها، وكان منها بحث عن زواج الصّبيان، فسأله المقابل عن رأيه في المسألة، فبيّن له أن المسألة مختَلَفٌ فيها، ولكل قول أدلّته، والقائلون بالجواز لم يقولوه عن تشهٍّ، ولا جعلوه مطلقًا دون ضوابط، ولكنّ الرجل لم يقتنع، واستعظم القول واستبشعه، حتى قال له مَن بجواره إن بعض الدول الغربية تبيح الزواج من الصغيرات فسلّم لذلك وأذعن، والله المستعان!
ويسطّر مفكر الهند الكبير أبو الأعلى المودودي في فصل بعنوان (العبودية الفكرية) من كتابه (الحجاب) كلامًا يبيّن فيه أثر هذه النظرة المنهزمة للغرب، وأثرها في ليِّ بعض المسلمين لأعناق النصوص -وكسرها أحيانا- حتى لا توقعهم في حرج مخالفة الفكر الغربي المهيمن يقول:
“وأصبح المسلمون بأنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام القدماء بعين التحقير أو التعيير من وقائع التاريخ الإسلامي وأحكام الشرع الإلهي وآثار الكتاب والسنة، وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السُّبة عن أنفسهم، واعترض أهل الغرب على ما عندهم من الجهاد، فقال هؤلاء: ما لنا وللجهاد يا سادة، نعوذ بالله من هذه الهمجية، واعترضوا على الرق، فقال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلا، وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات، فجاء هؤلاء ينسخون آيات القرآن ويُحرّفون الكلم عن مواضعه، ثم قال أولئك: لا بد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي الحياة، فوافقهم هؤلاء بقولهم: هذا هو الذي يعلّمه ديننا أيضا، وطعن القوم في قوانين الزواج والطلاق في الإسلام؛ فقامت طائفة من المسلمين تعالجها بالإصلاح والتعديل، ولمّا عابوا الإسلام بأنه عدو للفنون الجميلة استدرك هؤلاء قائلين: لا، بل ما زال الإسلام مُذ كان يشرف على الرقص والموسيقى والتصوير ونحت التماثيل”[5]
هل يعني الكلام السابق أنّ شهادات الكتّاب والمثقفين من غير المسلمين للإسلام لا اعتبار لها؟
لا، فهذا حكمٌ متطرّف أيضًا، ولكن ينبغي أن تؤطّر المسألة بضوابط، ولعلّ من أهمّها ما يلي:
- أن يُنظر في مآرب المادح للإسلام أو لجزئية منه، لأنّ المادحين لهم أغراضهم التي يتذرّعون بالمدح إليها، ومن أسفٍ أقول: إنّ تعامل المسلمين مع مدائح مخالفيهم في غالبها شديدة السذاجة والسطحيّة، خصوصًا مع السياسيين المترشّحين أو أصحاب المصالح الظاهرة التي لا تخفى على أحد، وقد رأيت أحدهم بعد مقطع لـ(بايدن) أيام ترشّحه للرئاسة يشيد فيه بالإسلام والمسلمين يقول في تفاؤل حالم: لعله سيكون النجاشي الثاني الذي سيخلّص المهاجرين المسلمين من وطأة العلمانية الخانقة!
- أن يُنظر في فحوى المدح، فقد يكون في باطنه قدحٌ للإسلام، ككثير من المدائح التي يطير بها الكثير من المسلمين في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم، يظهر فيها التعظيم له، ولكن عند النظر في تفاصيل هذا التعظيم تجد أن الكاتب يُكبِر في النبي عليه الصلاة والسلام عبقريّته، وأنه استطاع بها أن يخدع خُمس العالم مدةً زادت على 1400 عام!
- أن يُنظر في صاحب الكتابة نفسه، هل هو من أهل التخصص فيها أم لا؟ فإن كان من أهل التخصص أُخِذ بشهادته لا لذاته، وإنما للعلم الذي يشهد به، فالقيمة التي تكتسبها الشهادة من علم صاحبها لا من غير ذلك.
وبعد كلّ ما سبق فإنّ عرض هذه الشهادات يحتاج إلى فقه أيضًا، ومن ضوابط العرض:
- أن تُذكر هذه الشهادات على سبيل الاستئناس لا الاستشهاد، وألا يُحتفى بها فوق قدرها، وإنما تذكر في سياقها الملائم لها.
- أن يوضّح للعامة أنّ الأصل استغناؤنا عن شهادات الخصوم، وأننا كما لا نأبه لطعون المخالفين في الإسلام إن كانت خالية من الدليل، فكذلك لا نعطي شهادات المنصفين أكثر من قدرها، ويُبيّن لهم أن الطاعن في الإسلام يؤذي نفسه بذلك، فهو المتضرر بطعنه، والمادح في الإسلام كذلك هو المستفيد بمدحه، فهو الذي يعلو قدره بمدح الإسلام وأهله، ولا يعلو قدرُ الإسلام وأهله بمدحه.
- ألّا تُعطى شهادات الغربيين ميزة على شهادات غيرهم، بل إن أقوال علماء المسلمين عن الإسلام مقدّمة على أقوال غيرهم، فالعالم المسلم قد درس القرآن دراسة متأنية، فضلًا عن كون المسلم لا يوازن بالكافر في المنزلة ولا القدر، هذا فيما يتعلّق بالإسلام مباشرة، أما ما كان في قضية علمية أو اجتماعية أو تاريخية أكّدها باحث مسلم أو غير مسلم، وليس لها تعلّق مباشر بالشريعة فإنّ المسألة أخف من سابقتها، وإن كان المسلم أقرب للأمانة في النقل من غيره.
وكلامي هذا لا يعني بحال -كما قدّمت- أن شهاداتهم في حكم العدم، بل هي بمجموعها كحال الخبر المتواتر الذي يستحيل تواطؤ ناقليه على الكذب عادة، فهؤلاء المادحون من مشارب مختلفة، وأهواء متباينة، ومبادئ شتى، وتضافر هذه الشهادات بهذه الكثرة يشدُّ بعضها بعضًا، فلا يمكن أن يقال إن هذه الشهادات كلها لا تعدُّ دليلًا، بل هي بمجموعها تدل على جملة من الأمور التي تتفق عليها، والله أعلم وأحكم.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] بودوان دوبريه، الشريعة من المصادر إلى الممارسة، ص58
[2] عبد الله الوهيبي، الاستشراق الجديد، ص39 (طبعة آفاق المعرفة)
[3] المرجع نفسه.
[4] ابن خلدون، المقدمة، (1/283)
[5] المودودي، الحجاب، ص39.