الفقه وأصوله

رمضان فرائض متعددة([1])

عزان بن سعيد بن سيف الخوالدي

الأمر الأول: شرح الضابط:

معنى كون رمضان فرائض متعددة هو أن كل يوم من أيام رمضان يعامل على أنه فريضة مستقلة بنفسها عن اليوم الآخر, فتكون الفرائض بعدد أيام الشهر, أي تسع وعشرون فريضة, أو ثلاثون فريضة بحسب ما تكون عليه أيام الشهر  فإن ترك صومه لعذر أو لغير عذر قضاه وحده, وإن فسد أعاده وحده, وهكذا في بقية الأحكام من نية ونحوها كما سيتضح ذلك في التطبيقات.

الأمر الثاني: أصل الضابط:

أصل هذا الضابط ترجيح لقول من الأقوال في المسألة المشهورة في الأثر, وهي مسألة هل رمضان فريضة واحدة؟ أو هو فرائض متعددة؟ فقد وقع الخلاف في هذه المسألة عند السابقين حتى صارت أصلا يردون إليه الفروع ويخرجونها عليه, كما في مسألة النية لصوم رمضان هل تجزئ فيه نية واحدة؟ أو لا تجزئ؟ “فمن قال: رمضان فريضة واحدة, قال: تجزؤه نية واحدة من أول الشهر, ومن قال: كل يوم فريضة, قال: لكل يوم نية جديدة”([2]), وغيرها من المسائل التي خرجوها على هذا الخلاف.

ومرد الخلاف في هذه المسألة إلى قولين:

القول الأول: رمضان فريضة واحدة, وقد نسبه الإمام ابن بركة([3]) إلى أكثر الإباضية([4]), وهو مذهب الشماخي([5]) في الإيضاح([6]), ونسبه الجيطالي([7]) إلى الإباضية([8]), وعلى هذا القول الشيخ الشقصي([9])في منهج الطالبين([10]).

وحجتهم في ذلك:

  • أن رمضان عبادة واحدة تكفي فيه نية واحدة كالصلاة, وكأفعال الحج فإنها متعددة تكفي فيها نية واحدة, وكذلك أيام رمضان, والصلاة عدة ركعات وفيها أذكار وتلاوة وتكفي للكل نية واحدة([11]).

واعترض: بـأن كل واحد من الصلاة والحجِّ عمل واحد، ولا يتم إِلاَّ بفعل ما اعتبره الشارع من الأحوال والمناسك، والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه، وصوم رمضان أفعال متعددة، كل يوم عبادة مستقلة تتجدد بطلوع فجر كل يوم وتنقضي بغروب الشمس، وليس من العبادات عبادة واحدة تنفصل أركانها مثل هذا الانفصال، وتتكرر أسباب وجوبه عند كل ركن؛ فلو كان رمضان فرضا واحدا لأشبه الفرائض الواحدة. نعم، هو فرض من حيث الجملة، كما أن الصلوات الخمس فرض من حيث الجملة، وعند النظر إلى التفصيل ترى كل صلاة عبادة مستقلة، فكذلك أيام رمضان([12]).

القول الثاني: رمضان فرائض متعددة, وقد صوب هذا القول المحقق الخليلي([13]) في أجوبته([14]) ورجحه الإمام السالمي([15]), وعليه من المعاصرين الشيخ أحمد الخليلي([16]).

وحجتهم في ذلك:

  • قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”([17]), وقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَات وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”([18]).

ووجه الدلالة منهما: أن الحديث الأول ظاهر في المطلوب؛ لأنه نفى الصيام لمن لم يبيته من الليل، فمن نوى في أول الشهر لا يصدق عليه أنه بيت الصيام من الليل، وكذلك الحديث الثاني؛ لأنه يشترط النية في الأعمال، وصيام كل يوم بنفسه عمل، والليالي فصلت بين الأيام([19]).

  • أن أكل الليل يوجب تجديد النية لصوم اليوم الثاني([20]).

وأجيب: بأنه لو كان أكل الليل يوجب تجديد النية لكانت كل نية يعقبها الأكل أو ما أشبه الأكل مما يفسد الصوم لا تجزئ، ولكانت نية أول الليل غير مجزئة لصوم غد إلا إن لم يعقبها الإفطار، ولكانت أيضا غير مجزية ولو لم يعقبها الإفطار؛ لقوله     عليه السلام: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ»([21]), ويحرم على الناس النوم عند طلوع الفجر حتى يعقدوا النية لصومهم على هذا القول([22]).

  • قوله صلى الله عليه وسلم: “تَسَحَّروا فَإنَّ في السُّحُورِ بَرَكَة”([23]).

ووجه الدلالة منه أن أمره عليه الصلاة السلام بالسحور يدل على تجديد النية لفرض  آخر([24]).

وأجيب: بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور ترغيب لهم, يؤول إليه نفعهم به من القوة على تأدية الفرض؛ لإجماع الناس أن الأمر بالسحور ليس فرضا, ولو كان على ما قالوا لكان فرضا, وفي السحور أيضا معنى آخر، وذلك أن أهل الكتاب كان السحور عليهم محرما، فجاءت الإباحة من الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم([25]).

وقد رجح الإمام السالمي هذا القول بقوله: “وبهذا يترجح أنه فرائض لا فرض   واحد”([26]), ولذلك جعلت ترجيحه لهذا القول ضابطا من الضوابط الفقهية للصيام عنده؛ حتى أرجع إليه الفروع.

الأمر الثالث: تطبيقات الضابط:

  • المسافر إن صام في سفره أياما ثم أفطر, فصومه تام, سواء كان صيامه السابق في الحضر أو في السفر, فله ما صام وعليه ما أفطر؛ لأن رمضان كل يوم منه فريضة مستقلة, فمن أدى بعض الفرائض وأخر بعضا لمعنى يجوز له التأخير فلا يوجب ذلك عليه قضاء ما أدى, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في أول سفره وصام معه أصحابه وأفطر بعد ذلك في ذلك السفر بعينه وهي غزوة الفتح وأفطر معه أصحابه، فلم يثبت أنه قضى ما صام، ولا أمر أحدا من أصحابه أن يقضيه([27]).
  • إذا بلغ الصبي وسط الشهر صام الحاضر والقادم من الأيام, وليس عليه قضاء ما مضى من الأيام قبل بلوغه؛ لأن رمضان كل يوم منه فريضة مستقلة, فهو مخاطب بما أدرك لا بما مضى([28]).
  • إذا أسلم المشرك وسط الشهر صام الحاضر والقادم من الأيام أيضا, وليس عليه قضاء ما مضى من الأيام قل إسلامه؛ لأن رمضان كل يوم منه فريضة مستقلة فهو مخاطب بما أدرك([29]).
  • المجنون إن أفاق وسط الشهر فإنه يصوم ما أدرك, ولا يقضي ما مضى؛ لأن رمضان كل يوم منه فريضة مستقلة([30]).
  • من خرج من بيته في نهار رمضان لأمر عناه فأجهده العطش، ووافق الماء، وخاف إن تعداه لا يجد غيره، فشرب قبل أن يخشى التلف؛ وكذا من كان في مفازة صائما لا يمكنه قطعها إلا بالشرب فله أن يتقوى على ذلك بالشرب ولو لم ينو الفطر من الليل، ولا بدل عليه فيما مضى من صومه([31]).
  • من جامع في نهار رمضان متعمدا لزمته التوبة والكفارة وبدل يومه, وليس عليه بدل ما مضى من شهره([32]).
  • من أخرج المني متعمدا وذلك مثل من عبث بذكره أو أدام النظر إلى فرج، أو مسه حتَّى أمنى؛ فإنه يلزمه في تعمد ذلك ما يلزم المجامع في رمضان تعمدا، وهو نقض الصوم والكفارة, وعليه بدل يومه فقط ولا يلزمه بدل ما مضى من صومه([33]).
  • من أصبح جنبا متعمدا وهو صائم في رمضان لزمه قضاء يومه, وليس عليه قضاء ما مضى من صومه([34]).
  • من رأى هلال شوال آخر يوم من رمضان عصرا فأفطر يظن أن ذلك جائزا له, فعليه بدل يومه, وليس عليه بدل ما مضى من صومه([35]).

 

لتحمـيل المقـال اضغـط هنـا


([1]) هذا هو الضابط الثالث من ضوابط الصيام عند الإمام السالمي من كتاب معارج الآمال.

([2]) الشماخي, الإيضاح, مرجع سابق, ج2, ص288. وانظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص232.

([3]) عبد الله بن محمد بن بركة, أبو محمد السليمي البهلوي, عالم فقيه ومحقق أصولي, عاش في القرن الرابع الهجري, من آثاره: الجامع, كتاب التعارف, الموازنة, المبتدأ. انظر: البطاشي, سيف بن حمود, إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان, ط4, (سلطنة عمان: مكتبة المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية, 2016م), ج1, ص295-299.

([4]) انظر: ابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2، ص 1096.

([5]) أبو ساكن, عامر بن علي بن عامر الشماخي, أحد أكبر مشايخ الإباضية في جبل نفوسة بليبيا, مجدد المذهب, وموحد الأمة, توفي سنة 792هـ, من آثاره: كتاب الإيضاح, كتاب في العقيدة, قصيدة في الأزمنة. انظر: الشماخي, أبو العباس أحمد بن سعيد, كتاب السير, تحقيق: الدكتور محمد حسن, ط1, (بيروت: دار المدار الإسلامي, 2009م), ج2, ص789, ومحمد موسى بابا عمي وآخرون, معجم أعلام الإباضية (قسم المشرق), ط1, (بيروت: دار الغرب الإسلامي, 2000م), ج2, ص240.

([6]) انظر: الشماخي, الإيضاح, مرجع سابق, ج2, ص289.

([7]) أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي, من إباضية المغرب, عاش في القرن الثامن, كان شيخا حافظا, أخذ العلم عن الشيخ عيسى بن عيسى الطرميسي, من آثاره: قواعد الإسلام, وقناطر الخيرات, وشرح نونية أبي نصر فتح بن نوح, مات عام 750هـ, انظر: الشماخي, السير, مرجع سابق, ج2, ص785-789.

([8]) انظر: الجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص81.

([9]) خميس بن سعيد بن علي بن مسعود الشقصي, فقيه عالم, عاش في القرن الحادي عشر, أشار على إخوانه من العلماء والأكابر بالبيعة للإمام ناصر بن مرشد, من آثاره: كتاب منهج الطالبين وبلاغ الراغبين, انظر: البطاشي, إتحاف الأعيان, مرجع سابق, ج3, ص149- 159.

([10]) انظر: الشقصي, خميس بن سعيد, منهج الطالبين وبلاغ الراغبين, ط2, (سلطنة عمان: مكتبة مسقط, 2016م), ج4, ص80.

([11]) انظر: الجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص81, السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص232.

([12]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص232.

([13]) سعيد بن خلفان بن أحمد بن صالح الخليلي, الشهير بالمحقق, عالم محقق, وفقيه مدقق, وأحد أركان دولة الإمام عزان بن قيس, ولد في بوشر سنة 1236ه, وتوفي سنة 1287ه, من مؤلفاته: إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مقاليد التصريف, انظر: السعدي, معجم الفقهاء والمتكلمين, مرجع سابق, ج2, ص76-86.

([14]) انظر: الخليلي, سعيد بن خلفان, أجوبة المحقق الخليلي, تحقيق: بدر بن علي الرحبي وآخرون, ط1, (سلطنة عمان: مكتبة الجيل الواعد, 2010م), ج2, ص407.

([15]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص232.

([16]) انظر: الخليلي, أحمد بن حمد, الفتاوى (الكتاب الأول), الإعداد والمراجعة: قسم البحث العلمي بمكتب الإفتاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية, ط3, (سلطنة عمان: الأجيال, 2003م) ص276.

([17]) سبق تخريجه.

([18]) سبق تخريجه.

([19]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص233, والجيطالي, قواعد الإسلام, مرجع سابق, ج2, ص81.

([20]) انظر: ابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص 1096.

([21]) البخاري, محمد بن إسماعيل, صحيح البخاري, بلفظ قريب, رقم الحديث: 1853, ط1, تحقيق: محمد زهير الناصر, (بيروت: دار طوق النجاة, 1422هـ), ج2, ص691.

([22]) انظر: الشماخي, الإيضاح, مرجع سابق, ج2, ص289.

([23]) البخاري, صحيح البخاري, رقم الحديث: 1823, تحقيق: مصطفى البغا, مرجع سابق, ج2, ص678.

([24]) انظر: ابن بركة, الجامع, مرجع سابق, ج2, ص 1096.

([25]) انظر: الشماخي, الإيضاح, مرجع سابق, ج2, 289.

([26]) السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص232.

([27]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص169.

([28]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص70.

([29]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص71.

([30]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص258.

([31]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص261.

([32]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص288.

([33]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص276.

([34]) انظر: المرجع السابق, ج8, ص303.

([35]) انظر: السالمي, معارج الآمال, مرجع سابق, ج8, ص379.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 1.78 ( 3 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى