دعوات نقد الخطاب الديني.. أمن أجل تجديده أم بعثرته؟!

أحمد بن خليفة بن زايد السيابي
لم يكن النصح – أو النقد البناء- ممنوعاً أو محرماً في يوم من الأيام، وكيف يكون كذلك والغاية منه البناء لا الهدم، والتصويب لا التشنيع؟ لقد دأب رسل الله – صلى الله عليهم وسلم – على محاربة الشرك والضلالات، وأنواع المنكر السائدة، وتصحيح مسار مجتمعات أقوامهم الذين بعثوا إليهم، وإنما كان ذلك بالتعرض للعقائد والسلوك والعادات بالنقد والمناقشة. وبعد تخلية المجتمعات من أدران الشرك والضلال، يقيمون بناء التوحيد، ويشيدون دستور الأخلاق الحميدة، ويعمرون الحياة بالمبادئ الصحيحة. كل ذلك في جو من الرأفة والحرص، وبنفسيات تكاد تذوب ألماً وحسرة على كل من خالف وأصر على درب الهلاك، ولقد رأيت الله يصف نبيه بأوصاف بليغة تعكس هذه النفسية الرؤوفة الحريصة، فقد قال جل وعلا: “فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً”. والسؤال الطبيعي بعد هذه التقدمة، هل ما نسمعه هنا وهناك عن تجديد الخطاب الديني وإعادة قراءة النصوص وما شابهها من الدعوات الزاعمة للنقد والمراجعة هي إصلاح وبناء أم عملية نقد هدّام وبعثرة؟!
إن تحوّل الكثير من المتعلمين إلى مكائن لنقد التراث – كما يسمونه غالباً- والبحث عن مقترحات لمعاني جديدة لفهم النصوص الشرعية بدعوى إعادة القراءة وتجديد الخطاب الديني، إن هذا بحد ذاته يعطل عملية إصلاح المجتمعات، فالناظر إلى اللغط الذي يثيره بعض الناس في الساحة الفكرية ليظن أنه لا شغل أولى من النقد، وأن جميع النصوص بحاجة لإعادة فهم وقراءة، وأن جميع ما سطره علماء الأمة من لدن التابعين إلى يومنا بحاجة لتمحيص وتشكيك وتفكيك بحيث يشمل التشكيك كل مسلَّمة وكل سطر تقرؤه من أي كتاب في العالم. فلنكن على يقين – إذن – أن الأمة لو سلكت هذا المسلك، ونحت هذا النحو لتكدس لدينا من الكتب والمقالات والرسائل خلال قرنين من الزمان أضعاف ما خلفته الأمة من تراث. لقد ترك بعض الناس مهمة الدعوة إلى الله وإصلاح المجتمع وغادروا منابر الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحولوا إلى مكائن للنقد المتواصل.
إن وجود أخطاء في تاريخ الأمة وتراثها، لا يسوغ لنا ترك الإصلاح الحقيقي للمجتمع والاشتغال الكامل بإصلاح خط الإصلاح ونقد المصلحين – لو سلمنا بصدق النوايا- إلا في حالة واحدة لا نسلّم بواقعيتها، وهي أن تراث الأمة بقضه وقضيضه لا يصلُحُ منه شيء!! إن واقع الأمة الإسلامية المرير، ووضعها الكارثي البائس، ليس نتيجة لفساد تراثها أو خبث علمائها ودعاتها بالدرجة الأولى، كما يهوى أن يصورها بعض مدعي التجديد ونقد التراث دائماً، فلا تكاد تشير أصابعهم بالتهم إلا نحو الفقهاء والدعاة وأهل الدين.
بالطبع لا يمكن أن ننكر وجود هنات وزلات وقعت فيها الأمة على مستوى علمائها وقادتها الدينيين ماضياً وحاضراً، وإنما النزاع في نسبة مشاركة هذا في مجمل عوامل انحطاط الأمة وتأخرها عن ركب الأمم، وبناء عليه استحقاق كل ذلك اللغو والهذر. من وجهة نظري أن نسبة مشاركة الأخطاء المنهجية ليست إلا نسبة ضئيلة جدًا، وإنما حاجة الأمة الكبرى تكمن – بالنسبة المتبقية – في تزكية النفوس وتهذيبها وتقوية الوازع لديها نحو طاعة الله وطاعة رسوله أولً وقبل كل شيء، إذ إن المشكلة تكمن في بعد الأمة عن دينها وانصرافها عن هدي ربها العظيم ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهي تعيش فجوة بين الدين وتطبيقه أكثر منه ضياعاً في المناهج. ويتضح الأمر جلياً في مقدار المخالفات الشرعية الهائل حتى في الأحكام المطبَق عليها لدى علماء الأمة، وإنما كان الوبال من جهة النفوس لا من جهة العلماء أو المنهج المتبع. فهل اختلفت الأمة في وجوب الصلاة والزكاة وفرضيتهما مثلاً؟ وهل اختلفت في حرمة الزنى والخمر والرشوة والظلم والكذب والخيانة الزوجية والسرقة؟ ومع ذلك فكثرة كاثرة تخرج عن كل ذلك – أو بعضه – وتخرم أمر الله ورسوله فيه. من أجل ذلك أشرنا إلى أنه من الخطأ البين والحيف الواضح ترك كل هذه المصائب الناتجة من معصية الله ورسوله، وإعادة تشخيص المشكلة بأنها مشكلة الفقه في التأصيل والتفريع، ثم الاشتغال بهذا ليل نهار دون تحريك ساكن تجاه المنكرات الواضحة والانتهاكات البينة، ودون بذل جهد في الوعظ وبيان طرق الهداية.
إن من المفارقات العجيبة – غير الاعتباطية – أن بعض ممارسي النقد المزعوم بدأوا بالعمل في قطاع النقد بعد الاستقالة من قطاع الدعوة إلى الله، وشرعوا في أول خطوة للتجديد بعد ترك التدين والميل عنه، أو قبيل ذلك. وفي الحقيقة أن النصح بعين الرأفة ليس كالنقد بعين السخط، فالأول إصلاح والثاني أقرب إلى الشتم وتسويغ الانسحاب، منه إلى النقد البناء. ومثل ذلك كمثل أخٍ رأى من شقيقه فَعلةً ساءته، فخرج من البيت وشرع ينتقد فعلة أخيه من خارج البيت أمام الناس.. أفترونه قد أحسن الصنيع؟ أوترونه أصلح ونصح، أم أفسد وفضح؟! وهل تصدقونه إن زعم أنه يمارس النقد البناء بعد ذلك؟! ولو أنه وافق الحق فيما قال وزعم.
لقد زعم بعض مدعي التجديد وإعادة قراءة النصوص، أن الأمة أخطأت في مناهج تعاطيها مع شرع الله وكتابه وسنة نبيه، وجمدت النصوص وطمرت المعاني المكتنزة فيها، وضلت الطريق الصحيح وتنكبت سواء الصراط. ونتيجة لهذه النظرة السلبية، وسعياً للإجابة عن السؤال البديهي عن المنهج البديل بعد هذا الزعم العريض، شرع الكثير منهم في طرح قراءات جديدة للنصوص، وتسابقوا في ابتداع مناهج استدلالية – إن جازت التسمية- لاستنباط الأحكام عوضاً عن مناهج الفقه التقليدي. وإن تطوافاً – من غير إطالة – على الكثير مما يكتب في هذا الشأن، يكشف مقدار الإساءة التي يرتكبها هؤلاء بحق كتاب الله العظيم وقدسيته ولغته، وحق رسوله الكريم وسنته، وحق الشرع الحنيف، وحق المنهج العلمي بعد ذلك. ومجرد نظرة عابرة للمقارنة بين أطروحات هؤلاء وبين أطروحات أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث وقواعده، وأهل القرآن وعلومه، تكفي لتجلية الفرق الشاسع بين المسلكين في القوة والرصانة واطراد القواعد والواقعية، وفي المآلات حسناً وقبحاً، بناءً وهدماً.
إن مسلكاً يخلص بإعادة قراءته إلى ضرب قواعد الإيمان وأركانه، فلا الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم شرط للنجاة ولا الكفر بالقرآن عائق عن دخول الجنة، ولا ترك الإسلام بالكلية مفضٍ إلى الخسارة في العقبى، لمسلك مبير. وإن منهجاً يقرر أنه ليس ثمة حق وحقيقة، ولا مسلّمات وثوابت، ولا آيات قطعية الدلالة، ولا يعترف بإجماع وإطباق، لمنهج أعوج. وإن إصلاحاً يغض من شأن السنة واتخاذ صاحبها أسوة، ويخذّل الجمهور عن صلاة مسنونة وصيام مسنون وتعبد مسنون، ليشبه الإصلاح المذكور في فواتح سورة البقرة. وإن تجديداً يفتح الباب على مصراعيه للتقول على الله بغير علم وتأهل، ويكسر الحواجز بين الأهواء وحرمة التفسير والتأويل، ويسمح بالعبث بآيات الكتاب العزيز دون أدنى ضابط، لَتجديدٌ لطرق إبليس العتيقة في الإضلال والإفساد. وإن عقلانية تناوئ العلماء، وتنحو بالإيمان نحو الحس والمادية وتخفيف النظرة الإيمانية للكون والحياة، وتقهر النص على المرور من نفق الهوى المتظاهر بالتعقل، لَعقلانية مجنونة لا يَنقُصُ جنونَها إلا سقوط التكليف.
إن نقداً وإصلاحاً يتضمن كل هذه الكمية من الخزي، وهذه بعض خصائص ظاهِرِه، لنقدٌ هدام، يمكن الحكم على باطنه يقيناً أن غايته بعثرة الخطاب الديني لا تجديده، فلا يمكن لخطاب متفكك منهجياً أن يكون صالحاً للواقع أو مصلحًا للمناهج، بل حقه أن يزاد تشريحاً وتفكيكاً لتبيين عواره، وكشف سوءاته.
لتحميل المقال اضغط هنا