خاطـرة في مسألـة الرد على المخالـف

عمــــر بن أحمــــــد بن حمــــــد الخليلي
من الأمور التي يمكن أن تُعدّ مؤشّرًا على رسوخ التديُّن في مجتمع ما، ودليلًا على غيرتهم على حُرُمات الشريعة وقطعياتها إنكارُهم للمنكر العقديِّ، والسّعي في بيان بطلانه، ومواجهته بالأدلة والحجج؛ فإن من مقاصد الشريعة حفظ تديُّن المجتمع وبقاؤه مسلمًا نقيّ الإسلام، ولكن الغيرة -مع كونها محمودة- لا تكفي في الرد على المخالف، وليس العلم بتفصيل البدعة العقدية التي أحدثها كافيًا في الرد عليه، بل يجب أن يكون صاحب الردِّ موازنًا في ردّه بين المصالح والمفاسد، كذيوع البدعة التي يريد إنكارها أو خفائها، فإن رأى كفّة المصالح راجحة بالرد أقدم، وإن رآها مرجوحة به أحجم، لئلا يكون الرد سببًا لفتنة أكبر، وداء أعظم.
وليس الترجيح بين المصلحة والمفسدة في الرد وعدمه فقط، بل تشمل تفاصيل الرد، وكيفيته، وأسلوب الرد من غلظة أو لين، فمَن كان يرجو رجوع صاحب المنكر عن منكره ليس كمن يريد تحذير الناس منه فقط دون رجاء رجوع منه لإيغاله في المنكر، ويقاس على ذلك أمور أخرى، منها تسمية المخالف أو ترك تسميته، حسب ما تقتضيه المصلحة، وللأسف فإن كثيرًا من الذين يردون على أصحاب الأهواء -جزاهم الله خيرًا- يسيئون من حيث أرادوا الإحسان لجهلهم بالمصالح المتوخّاة في الرد، والمفاسد التي ينبغي الحذر من الوقوع فيها في الرد.
وقبل الدخول في المسألة التي كتبتُ المقالة لأجلها ينبغي أن يُعلم أن الردَّ في أصله تكميل وزيادة، والأصل هو بناء الأصول وترسيخ القواعد، فمتابعة الشبهات بالردود دون بناء ثابت لا يبني حصيلة ولا يشفي غلّة، لذا كان جلّ الجهد في مشاريع العظماء العلمية منصبّا على التأسيس والبناء، وإن ذكروا الردود فلنازلة وسبب، وليست هي الأصل في مشاريعهم في الغالب.
والحديث في فقه الردّ على المخالف ذو شُعَب كثيرة[1]، أقتصر منها على مسألة واحدة تتضارب فيها المصالح والمفاسد، وتختلف فيها الآراء، ولا يصحُّ أن تُعطى حكما واحدا عامًّا دون تفصيل، وهي مسألة تسمية المخالف المردود عليه.
فقد يرى الرادُّ في التسمية تشهيرًا بهذا المخالف، ودعاية له بين الناس، ويرى غيرُه التسمية أدعى لاتقاء شرّه والحذر منه، فيتجاذب المسألة طرفان، ولا يمكن الترجيح بين الطرفين إلا بالنظر في كلِّ حالة بنفسها.
لكن علينا أن نقرِّر في البداية أن متعلّق الرد هو الفكرة دون الأعيان، فالخصومة عندنا مع فكر الشخص لا عينه، ومتى تخلّى عن فكره المنحرف ورجع إلى جادّة الحق صار معصوم العِرض لا يحلُّ الكلام فيه بشيء مما كان متلبّسا به، وإنما يكون بُغضُنا له وبراءتنا منه في حال إصراره على معصيته.
فإذا تبيّن أن المقصود بالأصالة الفكرة وليس الحامل لها عُلِمَ أن تسمية المردود عليه ليست مقصدًا، والأصل عدم ذِكره، إلا إذا اقتضى ذلك مقتضٍ.
وهذا المنهج هو الذي سار عليه القرآن الكريم، فنجد أن عامة الآيات التي تذكُر شُبه المشركين لا تسمّي أعيانهم، (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلًا) (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).
وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكر النصيحة العامة دون تعيين للأسماء، وإنما يذكرها عامة “ما بال أقوام…”
بل إن من يتأمل حال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجد تفريقًا في المعاملة بين المشركين الذين أعلنوا كفرهم جهارا، وبين المنافقين الذين يتدسّسون في صفوف المسلمين ويلبسون لَبوسهم، فقد كان عداء النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين ظاهرًا لكل أحد، أما المنافقون فلاختلاف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم خشي ألّا يفرّق الناس بينهم وبين أصحابه فقال “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”[2].
وما صار اختلاف التعامل معهم بالشدّة وإغلاظ الجانب إلا بعدما شاع أمرهم في الصحابة، وصاروا يُعرفون بأعيانهم بأذيّتهم للنبي صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين.
وقد كان هذا المنهج هو المنهج المتّبع في أوساط أهل العلم، فمتى أراد أحدٌ منهم الرد على مخالفٍ مبتدع[3] في مسألة لم يَذِع صيتُه بها لم يسمّه بعينه -في الغالب- ومن أمثلة ذلك -وإن كان في مسألة حديثية لا تدخل في هذا الباب- فعل الإمام مسلم في مقدّمة صحيحه حينما أراد أن يرُدّ على أحد مخالفيه قال: “وقد تكلّم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقول، لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحا لكان رأيا متينًا، ومذهبًا صحيحًا، إذ الإعراض عن القول المطروح أحرى لإماتته، وإخمال ذِكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه، غير أنّا لمّا تخوّفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، وردِّ مقالته بقدر ما يليق بها من الرد، أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله”[4]
وفي ترك تسمية المخالف فوائد وعوائد لا تحصل من التسمية أذكر طرفًا منها:
1- أن تركها أدعى لاستجابة المخالف، فإنه إذا سُمّي في الرد كان ذلك منفّرًا له من القبول، لكون الرد -بطبيعته- كاشفًا عن خطئه بين العامة، فيزيد ذلك من عتوّه، ويدخل الهوى والكِبر لردِّ الحق، ويأنف المردود عليه من الاعتراف بخطئه، بل يبالغ في تقرير ما هو عليه من الضلال، ويسعى للرد ونقض كلام مخالفه الذي بيّن خطأه.
2- أن تسمية المخالف في الرد قد تكون دعاية لفكره، وتشهيرا له بين الناس، وكم من داعية بدعة مغمور أظهره للناس سوء سياسة المحتسبين بالرد عليه، وإعطائه من القدر فوق ما يستحق، بل إن بعض هؤلاء يفاخر في المجالس بأنّ فلانًا وفلانًا -ممن لهم وزنٌ في العلم والفكر- ردُّوا عليَّ، بل يتحرّق شوقًا، ويتهالَك وَجدًا لحديث الناس عنه في المجالس -ولو لعنًا- حتى يُشبع شهوة الشهرة عنده، ويا للأسف كم سينتشي المبطلون إذا رأوا أُناسًا لا هَمّ لهم إلا متابعة أخبارهم، وتتبع تغريداتهم وجديد (تقليعاتهم) الفكرية، وإن كان كهذيان المجاذيب والمعتوهين، بل إن بعض هؤلاء الجهلة الذين ابتُلوا بغفلة الصالحين هم أكبر داعمٍ للقوم -دون قصد- بـ(احتسابهم) بنشر جديد أخبارهم في المجموعات، وبثّها في المجالس والمحافل، بل قد يكون بعضهم متابعًا لتغريدات المبتدع أكثر من متابعة موافقيه له، والله المستعان على كل بلوى!
3- أن في تسمية المبتدع ذريعة لشيوع غِيبته بين الناس، وقد يظن بعضهم أن بدعته مبيحة لذكره بالسوء، ولو كان ذِكره لمجرّد التفكُّه -وهذا هو الغالب بين الناس-، وهذا محرّم لا يجوز، فالغيبة إنّما تباح بقدر الحاجة للتعريف ببدعة المبتدع وضلاله، يقول شارح الإحياء: “ذكرُ الفاسق بما فيه ليحذره الناس مشروطٌ بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة، دفعًا للاغترار به، فمن ذكر أحدًا من هذا الصنف تشفّيًا لغيظه، أو انتقامًا لنفسه، أو لنحو ذلك من الحظوظ النفسانية فهو آثم” ومن ذلك قصة حصلت للتاج السبكي مع أبيه تقي الدين يقول “كنت جالسًا بدهليز دارنا، فأقبل كلب، فقلتُ: اخسأ كلبَ بن كلب، فزجرني والدي من داخل البيت، فقلت: أليس هو كلب بن كلب؟ قال: شرطُ الجواز عدمُ قصد التحقير“[5]
ويقول الإمام النووي في ذِكره للأحوال التي تُباح فيها الغيبة “اعلم أن الغيبة وإن كانت محرّمة فإنها تباح في أحوال للمصلحة، والمُجوّز لها غَرَض صحيح شرعيٌّ لا يمكن الوصول إليه إلا بها..”[6]
وقال في غيبة المجاهر بالمعاصي “كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس…فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويَحرُم ذكره بغيره من العيوب“[7]
وكثيرٌ ممن يغتاب الناس أوحى إليه شيطانه أن يُلبِس غيبته لَبوسًا غير لَبوسها، فيُخرجها في صورة التحذير من المبتدع أو حتى الشفقة عليه، أو يذكره بوصف لا ينطبق على غيره دون ذكر اسمه مع علم السامع بالمقصود، فتكون غيبة (وفق الضوابط الشرعية!)، حتى يشربها السامع مع الماء، أو يأكلها مع الحلوى! وفي مثل هؤلاء يقول أيوب السختياني “يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًا، لو أتوا الأمر عيانًا كان أهونَ عليَّ”[8]!
4- أن ترك التسمية أدعى لإخلاص القصد في الرد: فكثير من الردود التي يُذكر فيها المخالف باسمه يكون فيها دَخَنٌ من حظِّ النفس، ويكون الرد فيها أقرب لـ(تصفية الحسابات) منه للنصيحة للمسلمين.
وهذا كلّه في بيان الأصل العام، وإلا فإن ثمة حالات -يعرفها اللبيب- تقتضي تعيين أسماء المردود عليهم خشية من اغترار الناس بهم، وردًّا للباطل الذي اقترن بأسمائهم، والله أعلم.
[1] من الكتب التي كُتبت في (فقه الرد على المخالف) كتاب بهذا العنوان للدكتور خالد السبت، وكتاب (قواعد وضوابط منهجية للردود العقدية) للدكتور أحمد قوشتي عبد الرحيم، والأخير أوعب كتاب رأيته في الموضوع، وقد أفدتُ منه كثيرا.
[2] رواه البخاري (4907)
[3] ولا أعني هنا الخلاف الفقهي، فالخلاف الفقهي تُنسب فيه الأقوال لأصحابها ولا إشكال في ذلك، بل كلامنا عن المخالف في القطعيات وإن تلبّس بلبوس الشريعة وادعى نصرتها.
[4] مقدمة صحيح مسلم (1/27-28)
[5] الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، (2/54)
[6] النووي، الأذكار، ص342.
[7] النووي، رياض الصالحين، باب ما يباح من الغيبة، (المكتبة الشاملة الحديثة)
[8] ابن حجر، فتح الباري، (12/336)