الكتب والتراجم

خديجة الكبرى-رضي الله عنها: قصة حب – سيرة وفاء – ذكرى إيمان

أحمد بن سعيد بن جميل الهاشمي

 

إن الناظر في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمتأمل فيها تتجلى له مظاهر الكمال التي حظي بها هذا النبي العظيم، ومن هذه المظاهر عنايته صلى الله عليه وسلم بأهل بيته تربية وتوجيها.

    كيف لا؟ وبيوته صلى الله عليه وسلم هي أطهر البيوت، فيها تنزلت آيات الله والحكمة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) [سورة الأحزاب:33]

    وبين يديَّ حديث أبثه لكم عن أولى سيدات هذه البيوت وأفضلهن على الإطلاق، وهي السيدة الجليلة والطاهرة الكريمة أمنا خديجة بنت خويلد – عليها وعلى أمهات المؤمنين رضوان الله -.

   كانت خديجة من أفضل نساء قريش نسبا وحسبا وفضلا، ولدت في مكة ونشأت بها، وعرفت بالطاهرة، وقد تزوجت مرتين قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، «كانت خديجة أولًا تحت أبي هالة بن زُرارة التميمي، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم»[1].

   عندما بدأ النبي صلى الله عليه يتعامل مع الناس بيعا وشراء، وأخذا وعطاء سرعان ما اكتسب سمعة فائقة بسبب صدقه وأمانته، وقد لفت ذلك انتباه خديجة التي كانت ترسل الرجل في تجارتها، وهي التي تبحث عن الأمين ، فوجدت بغيتها في محمد شابا ذكيا ألمعيا ، فتعاملت معه وأرسلت معه غلامها ميسرة الذي رجع يحدّث بالعجب من أخلاق محمد وشمائله.

   تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة على خلاف في الروايات، هل كان مبدأ العرض منه، أم كان منها بإشارة من صديقتها نفيسة بنت منية، والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم للزواج من خديجة وطلبها من عمها عمرو بن أسد – وفي بعض الروايات أن الذي تولى تزويجها هو أبوها خويلد بن أسد – وألقى أبو طالب خطبة في ذلك المشهد ومما جاء فيها : «…فَإِنّ مُحَمّدًا مِمّنْ لَا يُوَازَنُ بِهِ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ إلّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا وَنُبْلًا وَفَضْلًا وَعَقْلًا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قُلّ ، فَإِنّمَا ظِلّ زَائِلٌ وَعَارِيَةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَهُ فِي خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَغْبَةٌ وَلَهَا فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ».

   وهكذا دخل السرور على محمد الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره وخديجة التي كانت تقترب من الأربعين.

     عاشت خديجة في كنف النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة نحوا من خمسة عشر عاما في هناء وسعادة وهدوء ، ورزق منها بالبنين والبنات ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يجد في خديجة الحنان الذي فاته شيء منه بعد تجربة اليتم التي عاشها ثم فقد أمه ، ثم شظف العيش الذي عاناه – عليه الصلاة والسلام – والعيلة التي كان عليها « أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى » سورة الضحى ، ونساء قريش كنَّ مشهورات بالحنان والرعاية ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ”[2].

   إلا أن هذا الهدوء لن يلبث أن تعصف به اختبارات لم يمر مثلها على خديجة الكبرى      – رضوان الله عليها – التي ستتغير حياتها بعد بعثة النبي –  صلى الله عليه وسلم – وستثبت أنها استحقت المنزلة التي أنزلها إياها النبي صلى الله عليه وسلم من الحب والتقدير والاعتراف بفضلها.

   وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الاختلاء بنفسه في بعض النواحي القريبة من مكة كغار حراء ، ولم تكن خديجة تزعجه أو تتبرم من تصرفه هذا ، ولعلها كانت تشعر بأن هذه الخلوات لها ما بعدها وظنها لم يخب ، وأمسى أثر ذلك في الليلة المباركة التي جاء فيها جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظِمْ بها من ليلة وبه من موقف ، أخرج البخاري من حديث عائشة أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِع إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.

وواللهِ إن العقل ليحار من تصرفها ، يأتيها زوجها ويخبرها بخبر هو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة بالنسبة لمجتمع مثل المجتمع المكي، ومع ذلك لا تبادره بالإكثار من السؤال أو التحقيق بطلب مزيد من التفاصيل حول الموضوع ، وإنما تبادره بتقديم الدعم النفسي؛ ليخف اضطرابه وتهدأ نفسه ، وأخبرته بأفضل ما فيه من صفات وهي صادقة (كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) علمت لكمال عقلها، وصحة عزمها، وقوة يقينها أن الله لا يخزيه وأنه على حق.

   ولم تكتفِ أمّنا خديجة – أكرمها الله – بذلك ، حتى أضافت إليه الدعم الاستشاري بأخذه صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي دعم موقفه وشجعه.

    كسب نبينا محمد ثقة خديجة وكسب أول فرد في قافلة المؤمنين فأول من آمن به على الإطلاق امرأة وهي أحب الناس إليه.

   وهكذا انطلق نور الدعوة من هذه الأسرة الطيبة المباركة ، واجتازت خديجة أول امتحاناتها بتفوق وتوفيق ، وواكبت تنزل الوحي ، وقيام النبي صلى الله عليه وسلم بأعباء الدعوة لا سيما في مراحلها الأولى التي كانت صعبة لكون الناس لم يألفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان التكذيب والصد والرفض أمورا معتادة في تلك المرحلة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق أحيانا بصدهم فهو يعلم يقينا أنه على حق وأنه يدعوهم إلى هدى ومع ذلك يعرضون عنه بل يسمعونه ما يكره (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد في خديجة الصابرة المحتسبة العون تؤازره وتفرج عنه ، ولذلك كانت منزلتها تكبر عند النبي صلى الله عليه وسلم يوما بعد يوم ، وبعد أن كان محمد زوجا أصبح نبيا مع ذلك ، وأصبحت مسؤوليتها أكبر.

    ولم تعلم خديجة أنها مقبلة على امتحانات أكثر صعوبة وأشد قسوة ستطال أسرتها بشكل شخصي، وسيتحول الصراع بين الحق والباطل من مجرد صراع فكري إلى محن يبتلى فيها المؤمنون في أشخاصهم.

      ثم زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم بعتبة وعتيبة ابني أبي لهب ، وعندما صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته اتخذ أبو لهب موقفا معاديا للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته حتى نزل في شأنه قرآن يتلى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) [سورة المسد] فلم يحتمل أبو لهب وجود مصاهرة بينه وبين رسول الله ، فحمل على أبنائه حتى يفارقوا بنات النبي ، وفي الاستيعاب لابن عبد البر أنه قال لأبنائه : (رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ) ، ولكم أن تتصوروا قسوة مثل هذا المشهد على البنات وعلى أمهن ، رغم أن الصراع فكري إلا أن الأشخاص لا يلبثون حتى يصابوا بآثاره في أنفسهم وفي أقرب المقربين إليهم.

     ثم كانت المحنة التي اصطلى بنارها بنو هاشم ومن معهم عندما تحالف نفر من قريش على مقاطعتهم ومحاصرتهم في شعب بني هاشم ، المقاطعة التي استمرت نحوا من ثلاث سنين بلغ فيها الجهد مبلغه بالمحاصرين ، وفي بعض الروايات أنهم اضطروا لأكل أوراق الشجر ، وأنه كانت تُسمَع أصوات الصبيان والنساء يصرخون من شدة ألم الجوع ، كل ذلك في محاولة من قريش لإرغام النبي صلى الله عليه وسلم على التراجع عن دعوته ، أو لإرغام بني هاشم على تسليم النبي لقريش ، وخديجة كانت حاضرة تعاني مما يعاني منه المحاصرون والمحاصرات ، تعيش اللحظات وتؤازر زوجها الذي توقن أنه على حق ، حتى منّ الله بالفرج عندما تعاقد نفر من عقلاء قريش على نقض الصحيفة وسعوا في ذلك حتى حصل لهم ما أرادوا، وهؤلاء هم هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وزهير بن أبي أمية المخزومي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي.

    فرح المحاصرون بانتهاء الحصار وأخذوا يستردون أنفاسهم ويستعيدون نشاطهم ويواصلون المسير، إلا أن هذه الفرحة لم تدم طويلا فبعد نحو من ستة أشهر من انتهاء الحصار توفي أبو طالب فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاته، ثم لحقته السيدة الطاهرة أمُّنا خديجة – رضوان الله عليها – فلا تسل عن مبلغ حزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاتها، ولذلك سمي ذلك العام بعام الحزن وكان قبل الهجرة بثلاث سنين.

    رحلت أمُّنا خديجة بعد حياة حافلة بالإيمان والصبر والنصر والمؤازرة والتأييد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، رحلت وتركت خلفها إرثا عظيما من الدروس والعبر للأمة بأسرها رجالا ونساء، فمن كخديجة ؟!

       رحلت وتركت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم أثرا لم يتركه أحد قبلها ولا بعدها ، وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة حبها ومكانتها وفضلها (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) [سورة البقرة 237]، كانت خديجة حاضرة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم رغم مضي السنين على وفاتها وكان رسول الله يذكرها ، أخرج البخاري في صحيحه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد).

وروى الإمام أحمد من طريق السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء) لله هذا الوفاء !

بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكر خديجة في أختها هالة إذا سمع صوتها وهي تستأذن في الدخول عليه روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد – أخت خديجة – على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة) وكان يتذكرها في صديقاتها إذا أتت إحداهن للتسليم عليه،  أخرج الحاكم والبيهقي في ” الشعب ” من طريق عائشة قالت: ” جاءت عجوز إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : كيف أنتم ، كيف حالكم ، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله . فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال : يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان”، ويتذكرها حين يتذكر صديقاتها فيهديهن لمكانة خديجة عنده ، أخرج البخاري في ” الأدب المفرد” من حديث أنس ” كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتي، بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة ” .

     وكان يصرِّح بحبها، وكيف لا يصرح بحبها؟! وقد قضى معها أجمل أيام حياته، فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبها).

   ويصرِّح بتفضيلها وخيريتها، ففي البخاري من حديث الإمام علي – كرم الله وجهه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة).

   ولأن خديجة امرأة مؤمنة من الطراز الأول، ومن السابقات إلى الإيمان والناصرات للدين فقد علت مكانتها عند ربها سبحانه وتعالى، وفي الحديث المتفق عليه عند الشيخين من طريق أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) قال السهيلي في الروض الأنف: (لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة رضي الله عنها طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها) والقصب أنابيب من لؤلؤ.

رحلت خديجة بعد أن عاشت في كنف النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ربع قرن.

أي طهر ونقاء ؟!

أي بر ووفاء ؟!

أي عزم ومضاء ؟!

ذلك الذي جمعته خديجة.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] – سير أعلام النبلاء (2/111)

[2] – البخاري – كتاب النكاح 4794.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.38 ( 5 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى