خبَّـاب بن الأرت بين رمضـاء مكة وأحيــاء غزة

عمـر بن أحمـد بن حمــد الخليلـي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد؛ فإن جِبِلَّة الضعف في الإنسان وطول مدَّة البلاء واشتداد وطأة المحن عليه قد تحجُب عنه الحِكَم من السنن الإلهية، واستبطاء نصر الله قد يورث العبد شكًّا في وعده أو ارتيابًا في جدوى السبيل الذي سلكه رغبة فيما عند ربه.
ولا تخطئ العين اليوم في ظِلِّ محنة إخواننا في أرض الرباط -نصرهم الله وفرَّج عنهم- شيئا مما سبق من بعض الناس، والغريب أن كثيرًا من الذين يتساءلون بتضجُّر وأسىً (متى نصر الله؟) ليسوا ممن تدكُّ مساكنهم قنابل العدوِّ الغاصب، وإنما يصدر هذا -غالبًا- ممن يتابع هذه الأحداث من بُعد، وهو معافىً في بدنه، آمن في سربه، عنده قوت يومه!
ولذا فكلامي هنا تذكرة لي ولمن كانت هذه حاله، أما المجاهدون فلهم منَّا الدعاء بالنصر والتمكين.
وقد اخترت نموذجًا نقتبس منه شيئا من الدروس المتعلقة بالسنن الإلهية في النصر والتمكين، وهو حديث خبّاب بن الأرَتِّ رضي الله عنه.
كان خباب بن الأرت مملوكًا أغرى المشركين صِغرُ سنِّه، وقلة حيلته، فساموه سوء العذاب، حتى إنهم أوقدوا له جمرًا ورموه فيه فلم يطفئه إلا ودَك ظهره![1].
يقول خبَّاب “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهو متوسِّد بُردةً له في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال “قد كان مَن قبلَكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصُدُّه ذلك عن دينه.
واللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون“[2].
في هذا الحديث العظيم جملة من العبر التي نستفيدها في فهم سنن الله في الكون، منها ما يلي:
- يقول خبَّاب “شكونا..” كُلُّهم شَكَوا، فالجراحات عمَّت -كحال المسلمين اليوم- المستضعفين في مكَّةَ كلَّهم، وتلك النفس المشحونة بأنواع الألم، والمثقلة بألوان الأذى التي تحكي القصة لم تكن نفس خبَّاب وحدَه، فـ (النموذج الخبَّابي) كانت أمثلته في الواقع متعددة، والشكوى كانت عامَّة لم تُحدد بنوع من أنواع الأذى والابتلاء، إذ إن العذابات تنوَّعت، والمرارات تكاثرت.
كانوا يُلبِسون المسلمين المستضعفين أدراع الحديد، ويصهرونهم في الشمس، ويضربونهم بالسياط حتى ترتوي السياط بدمائهم، حتى اضطر من اضطر منهم إلى النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
ثم حوصروا وقوطعوا في شِعب أبي طالب في مكّة حتى شهِدت على جوعهم وعذابهم أشداقهم المتقرِّحة، وشفاههم المتيبِّسة، وعيونهم الغائرة، وبطونهم الضامرة، فهذا سعد بن أبي وقّاص يحكي أنه بقي ثلاثة أيام يقتات على قطعة جلد بعير وجدها في الشِّعب![3].
- يقول النبي صلى الله عليه وسلَّم مجيبًا خبابًا “قد كان مَن قبلكم…”
لم يُجب النبي صلى الله عليه وسلم طلب أصحابه باستنصار الله لهم، ليعلموا سنَّة الله في خلقه، وأنهم ليسوا أكرم على الله تعالى من الابتلاء، وأن الله تعالى مُقدِّرٌ ما شاء ولا اعتراض على أقداره ولا معقِب لحكمه.
وإنما أشار النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى ما لقيه مَن كان قبلهم، وفي هذا إشارة إلى أمور منها:
- أن من كان قبلهم أصيب في سبيل الله تعالى، وفي هذا إشارة للاقتداء بالسلف الصالح من أتباع الأنبياء السابقين.
- أن بلاءهم بالتعذيب كان أشدَّ مما أصاب الصحابة منه
- أنهم صبروا على ذلك البلاء ولم يرُدَّهم عن دينهم
- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم -مع ما حكاه من شدَّة بلائهم في ذات الله- لم يُشِر إلى أنهم مُكِّنوا في الأرض، في حين أنه عليه الصلاة والسلام بشَّر الصحابة بالتمكين في الأرض.
- “لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر”!
نعم، هذا الأمر (الإسلام)، هذا ما وعد به الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم.
لم يعِد النبي صلى الله عليه وسلَّم خبَّابًا ولا من كان معه من الصحابة بأنهم سيرون هذا النصر، بل ليس من شرط النصر أن يكونوا موجودين وقتئذ!
وهذه عادة الوحي، فهو يطمئن الناس على دينهم لا على أنفسهم، والوعد بالاستخلاف ليس لأحد بعينه من الأمة، بل هو وعد عامٌّ قد نراه بأعيننا وقد لا نراه.
ولئن كانت نبرة اليأس متفهَّمة من عامة المسلمين الذين لم يعرفوا سنن الله في خلقه، فإن الدعاة والمصلحين لا يمكن أن يُتقبَّل منهم ذلك أبدًا، فهم أعلم الناس بأن الله العليم الحكيم لم يضمن للناس السلامة في الدنيا إن استقاموا على دينه وشرعه.
بل إن الوحي -على عكس ما في تصور كثير من الناس- يهيِّء المؤمنين لتلقِّي أنواع من الابتلاء التي لا مناص لهم منها؛ فالله تعالى يقول (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
وإن من مسارح الذهن التي وقفت عند تأملها طويلًا حالُ الصحابة الأولين الذين ماتوا في مكة.
الذين لم يتلذذوا برؤية النصر والتمكين.
الذين كان آخر عهدهم بالدنيا: دماؤهم المُراقة على أزقة مكة، وقهقهات كفار قريش هازئين منهم ومن النبي صلى الله عليه وسلَّم!
ياسر بن عامر وزوجه سمية، وآخرون ربما سقطوا من ذاكرة التاريخ، لأنهم ما شاركوا في فتوحات المسلمين، ولا تولّوا الولايات، ولا صار لهم شأن في الدنيا، ولكن حسبهم أن الله يعرفهم.
بل إن منهم من مات وهو يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتول في غزوة أحد!
كان آخر عهد أنس بن النضر بالدنيا ما أُثير من أراجيف نعي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وانقضاض المشركين على المسلمين، وقصَّته في ذلك معروفة.
وقد أكرم الله خبَّابًا فرأى عزَّة الإسلام، غير أن من أصحابه من لم ير ذلك، ويحكي خبَّاب بنفسه هذا فيقول “هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنَّا من مضى ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد، فلم يوجد شيء يُكفَّن فيه إلا نَمِرة، فكُنَّا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: “ضعوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر” ومِنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها”[4].
خلاصة الأمر: لا ينبغي أن تخشى على مصير الدين، فالدين دين الله، والله حافظه، فابحث لك عن موطئ قدَم في نصرته.
- “ولكنكم تستعجلون”!
في هذا الجزء عتاب من النبي صلى الله عليه وسلم لخباب ومن معه على استعجالهم النصر!
كل تلك العذابات والجراح لم تشفع لهم أن يتضجروا من وضعهم الذي هم فيه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلَّم بالصبر، وأخبرهم بما لقيه مَن كان قبلهم.
والناظر في الواقع المَعيش يجد أن كثيرًا من التنازلات عن المبادئ -والتي قد يُرخِّص فيها بعض من ينتسب للعلم أو الدعوة- تكون تحت ضغط الواقع للخروج من الأزمات -وهو أهون بكثير من واقع خبَّاب ومن معه- فإذا ما فُحصت بعين الشرع المتجرِّدة عن الهوى كانت سرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، فاللهم عفوًا وغفرًا!
والله تعالى يبشِّر المؤمنين بأنه سيمكِّن لهم دينهم (الذي ارتضى لهم) وليس الذي ارتضوه هم لمناسبته مصالحَهم الراهنة، فالتضحية واقعة -ولا بدَّ- بأحد أمرين: إما المبدأ أو النفس، والتضحية بالمبدأ لون من ألوان الركون إلى العدو (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).
ختام وبُشرى:
“يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”[5].
“ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يتركُ الله بيتَ مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذُلِّ ذليل، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر”[6].
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] تهذيب حلية الأولياء لأبي نعيم، تهذيب: صالح الشامي، (1/128) والودك: الشحم والدهن.
[2] رواه البخاري (6943)
[3] تهذيب حلية الأولياء، (1/94)
[4] رواه البخاري (4047) ومسلم (940) واللفظ له.
[5] رواه الترمذي (2398)
[6] رواه أحمد والطبراني والبيهقي وصححه الحاكم.