بحوث ودراسات

جوابات الإمام السالمي -رحمه الله- عمّا سُئل عنه حول البهجة والمشارق

جمع وترتيب: محمد بن أفلح بن أحمد الخليلي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

“إن علم الديانات أعلى العلوم قدرا، وأسناها فخرا، وأشدها احتياجا وأصعبها منهاجا”[1]؛ ولذا اهتم به علماءنا العظام وقادتنا الأعلام، ومن بينهم العلامة النحرير والعلم الشهير والبدر المنير الإمام عبد الله بن حميد السالمي – رحمه الله رحمة واسعة – فقد فتح الله عليه هذا العلم فألف فيه تآليف رائقة وكتابات فائقة، ومما خطه يراعه ونسجه قلمه كتابا: مشارق أنوار العقول الذي هو الشرح المطول لمنظومته أنوار العقول، وبهجة الأنوار وهو الشرح المختصر لذات المنظومة الجليلة.

ولما انتشر الكتابان وسار بذكرهما الركبان، وعلمهما القاصي والداني وقرأهما أهل العلم وطلبته، وردت على الإمام السالمي أسئلة تطلب شرح معانيهما وإيضاح مستغلق مبانيها، فحل المشكلات وبين المستغلقات وأوضح المبهمات وأعجم المهملات.

ولخطير قدرها وعظيم أمرها جاءت فكرة جمع هذه الأسئلة والأجوبة من أجوبته -رحمه الله-؛ لتكون معينا صافيا لقراء الكتابين ونميرا عذبا للدارسين.

وقد رتبتها بترتيب الكتابين وبعناوينهما فلم أضع عنوانا بنفسي؛ تيسيرا للوصول إليها، وتسهيلا للاستفادة منها، وقد أسميت هذا المجموع بـ(جوابات الإمام السالمي رحمه الله عمّا سُئل عنه حول البهجة والشارق) وأسأله تعالى التوفيق والتسديد والعون والتأييد والخير المديد، وأن يجعل هذا العمل وغيره خالصا لوجهه الكريم وأن يبارك فيه وينفع به، فهو ولي التوفيق.

وقبل البداية أنبه بهذه التنبيهات:

  • نص الأسئلة والأجوبة أخذته من كتابَي “العقد الثمين نماذج من فتاوى نور الدين” و”جوابات الإمام السالمي”، باعتماد العقد الثمين أصلا والرجوع إلى الجوابات حال وجود الإشكال في العقد الثمين للموازنة بين الكتابين بغية الوصول للهدف المنشود، وأشرت لذلك حال وروده في الحاشية.

ولم أقارن بين الكتابين مقارنة كاملة بذكر جميع الفروقات لأسباب، أهمها سببان:

الأول: كثرة الأخطاء في طبعة الجوابات؛ مما يجعلها غير صالحة للمقارنة.

الثاني: كثرة الاختلافات بين العقد الثمين والجوابات مما يضخم حجم هذا المجموع كثيرا من غير داع معتبر.

  • اعتمدت في ذكر نصوص العقد الثمين على طبعتين لا فرق بينهما من الداخل كلاهما بعنوان: العقد الثمين نماذج من فتاوى نور الدين فخر المتأخرين وسابق المتقدمين، وكلاهما مكتوب عليهما: قام بتصميمه وتحقيقه والتعليق عليه وترتيبه سالم بن حمد بن سليمان بن حميد بن عبد الله الحارثي المضيربي، قام بتصحيحه فضيلة الشيخ محمد محمد الدهان عميد معهد المحلة الكبرى الأزهري.

الأولى: طبعت على نفقة جلالة سلطان عمان قابوس بن سعيد بن تيمور، د.ط.، د.ت. والثانية: طبعتها مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، ط1، 1413هـ-1993م. والظاهر أن الثانية مصورة من الأولى.

وأما جوابات الإمام السالمي فاعتمدت طبعة مكتبة الإمام السالمي بتنسيق ومراجعة: عبد الستار أبو غدة، د.ط. 2010م.

  • لم أتصرف في كلام الإمام السالمي بشيء، وإنما غاية ما فعلته هو تنسيق الكلام وتصحيح الأخطاء المطبعية والإملائية وإضافة علامات الترقيم.

المقدمة

س – عن قوله في المشارق:

حتى استووا على بساط القُرب

في حضرة قدسية في القُرب

-إلى أن قال-: فالقرب الأول في البيت بمعنى التقرب، وهنا بمعنى التقريب -إلى أن قال-: والعلاقة إطلاق اسم السّبب على المسبّب في الأول وبالعكس في الثانية -حتى قال-: لأن التقريب الذي هو الدنو مسبّب للتقرب وسبب للتقريب.

قال السائل: وأنا رددته في نسختي لأن القرب الذي هو الدنو سبب للتقرَّب ومسبّب للتقريب، فأخبرته في وادي المعاول مشافهة فجاوبني أن الذي وضعه في كتابه هو ذلك الذي قاله هو وليس بغلط، والغلط من هلال، فبقيت أتأمل في رد الأغلوطات فلم أجده فيها، فرجعت إلى كتابي فوجدته لا يقبل قلبي إلا ما رددته بنفسي وهو أن القرب الذي هو الدنو سبب للتقرب ومسبّب للتقريب، وأرجو الجواب منك.

ج – إن التقرب مصدر تقرّب تقرّبا والتقريب مصدر قربه تقريبا، والقرب الذي في البيت استعمل في المعنيين؛ فاستعمله في أول الشطرين بمعنى التقرب وفي الآخر بمعنى التقريب، وهو حقيقة في الدنو ومجاز في التقرب والتقريب وهو الدنو من الملك مسبّب عن تقربنا إليه؛ فمن تقرب إلى الملك فأدناه كان ذلك الدنو ثمرة لذلك التقرب، ثم إن إدناء الملك هو التقرب، ثم إن إدناء الملك إياه هو عين التقريب[2]؛ فيكون التقريب بمعنى الدنو إليه والدنو إليه مسبّبًا عن التقرب إليه.

وكَشْفُ ذلك أن محاولة أحدنا القرب من الملك هو التقرب، فإذا حصل القرب فذلك هو الدنو، فإذا أقبل عليه الملك بالإنعام والإكرام والاحتفال فذلك هو التقريب، فلا إشكال يا هلال، بلغك الله الآمال، وكشف لك عن المشكلات الأقفال، وعليك السلام ورحمة الله.

العقد الثمين (1/120-121) جوابات الإمام السالمي (1/ 53-54)

الركن الأول: في العلم وما يشتمل عليه

الباب الثاني: في السؤال.

س – ما القسمة بين نسب الكليات؟ أعني النسبة بين كل كليتين عينيين أو نقيضين، إذ بين نقيض كلٍ وعين كلٍ وهل لتلك القسمة حصرٌ؟ وما وجههما؟ وما الفرق بين التباين الجزئي وبين التباين الكلي؟ وما النسبة أيضا بين عينهما وبين نقيضيهما وبين عين كل منهما ونقيض الآخر؟ فضلا بالتقسيم التام والتفصيل الكامل مأجورا مشكورا.

ج – أقول: أما قوله: ما تقول في القسمة بين نسب الكليات –إلى قوله- إذ بين نقيض كل وعين كل. فهو كلام مضطرب والسؤال المضطرب ساقط عنه كما قيل:

أسقط سؤالا إن أتى خمس به

تناقض أو جاء باضطرابه
إثبات أو جمع سؤالين معا

أو كونه من المحال وقعا

ووجه اضطرابه: أن السائل سأل فيه أولا عن قسمة نسب الكليات، ثم فسره بقوله: أعني النسبة إلخ، فهو إما أن يكون تفسيرا للقسمة فيلزم عليه تفسير الشيء بمباينه، وإما أن يكون تفسيرا للنسب فيلزم عليه إدخال الأعم وهو الجمع في الأخص وهو الأفراد، وكلا اللزومين باطل، اللهم إلا أن يقال: إنه اعتبر إضافة النسبة إلى ما بعدها فتعدد بتعدد المضاف إليه؛ فيكون تفسيرا للشيء بإزائه، وعليه فلا أعرف هذه القسمة المطلوبة ما هي؟ ثم إنه إن أراد بالكليات القضايا الكلية فتحتاج إلى بيان يدل على أنها المراد، وإن أراد بها الكليات الخمس ينافيه قوله: كل كليتين. فإنه يقال في التثنية منهما: كليين لا كليتين.

وكذلك قوله: إذ بين عين كل ونقيض كل؛ لأنه إما أن تكون إذ للتعليل فيحتاج إلى معلل وهو هنا غير مذكور، وإما أن تكون ظرفية وبين ماض مبني للمفعول فلا فائدة في ذكره، هذا ما ظهر لي فيه بعد تأمل، وقد طالما حاولت توجيهه على وجه مستقيم فنبني الجواب عليه فأبى علينا إلا الاضطراب، فإن شئت له جوابا فأصلحه حتى يخرج من حيز السواقط وصَرِّحْ فيه بالمقصود.

وأما قوله: وهل لتلك القسمة من حصر وما وجهها؟ فهو مبني على ما تقدم: يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، وأما قوله: وما الفرق بين التباين الجزئي وبين التباين الكلي. فجوابه: إن التباين الكلي هو: ما إذا نُسب أحد المتباينين إلى الآخر لم يَصْدُقْ على شيء مما صَدَق عليه الآخر أصلا كالإنسان والفرس، ومرجعهما إلى سالبتين كليتين، والتباين الجزئي هو: ما إذا نُسب أحد الشيئين إلى الآخر صَدَقَ على ما يَصْدُقُ عليه في الجملة، وبينهما العموم والخصوص من وجه كالحيوان والأبيض ومرجعهما إلى سالبتين جزئيتين وأما النسبة بين عينيهما إلخ، فالله أعلم.

العقد الثمين (1/151-153)[3]

 

الباب الثالث: في الاجتهاد والفتوى.

س – عما ذكره في البهجة من أن خطأ العالم في الحكم لا يعذر من ضمانه لما في الحكم من جبر المحكوم عليه، أقول: هل على الحكام في عصرنا الخامل ضمانٌ إذا أخطأ الحاكم مثلا لأنه لا جبر على المحكوم عليه اليوم أم ذلك مطلقا؟

ج – بل الجبر حاصل إن لم يكن من الحاكم نفسه، وإلا فمِن جماعة المحكوم عليه أو من خصمائه؛ وذلك أن الحاكم قوَّاهم عليه بحكمه ولولا ذلك ما تمكنوا من أخذ ذلك، والله أعلم.

العقد الثمين (1/173-174)

الباب الرابع: في أقسام الجهل وما يسع جهله وما لا يسع.

س – عن قوله في المشارق حيث أوجب على المضطر المحْرِم إذا وجد الميتة وصيد البرّ أن يأكل صيد البر دون الميتة مثلا، كيف ذلك ولم يرد استثناء في صيد البر للمُحْرِم لا لمضطر ولا غيره؟ قال الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ } [سورة المائدة:96]. ولم يستثن سبحانه مضطرا من غيره أم ثَم دليل أباح ذلك له؟ تفضل بالجواب.

ج – خاطب الله تعالى في كتابه العزيز أهل العقول وقال: {فَٱعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ } [سورة الحشر:2]. ورَدَّ الاستنباط إلى أهل العلم في قوله: { َعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ ۗ } [سورة النساء:83].

ومن المعلوم من مقتضى العقول أنه إذا جاز دفع الضرر بالميتة التي لا تحل أبدا في غير الضرورة؛ كان دفع ذلك بما هو حلال دائما إلا في حال من الأحوال أولى وأحق؛ فالميتة نجس حرام بالإجماع إلا حال الاضطرار وهذا حلال طاهر بالإجماع إلا حال الإحرام.

ثم إنه -سبحانه وتعالى- أوجب الجزاء في قتل الصيد كما أوجب الفدية في حلق الرأس لمن كان به أذى من رأسه فأباح له أن يحلق ويفتدي، والقياس يقتضي مثل ذلك في المضطر إلى الصيد وعلى كل حال فقصد الصيد في المسألة من طريق الحكم بالأولى وهو فحوى الخطاب، والله أعلم.

العقد الثمين (1/257-258)

س – عما قال في الأنوار:

ولم يسع جهل ضلالة المصر

………….

ثم قال من بعد ذلك:

من بعد أن تعلم كفره ومع

بعضهم ما لم تع الحكم يسع

ما الفرق بين التقييد بأن تعلم كفره وبين القول الثاني ما لم تع الحكم؟ فكأن مؤدى العبارتين واحد في اللفظ على فهمي القاصر، وكيف يتصور عدم سعة الجهل بضلالته إلا بعد أن تعلم أنه ضال، فإني يتخيل لي على القول الأول أنه لا يسعه جهل ضلالته ولو لم يعلم أنه ضال، وقد قلت في المشارق بعد ما ذكرت الأقوال الثلاثة فيه: هذا كله إذا لم يعلم الحكم في المصر ولم يكن المصر مصرا على حدث في الجملة إلخ.

ج – المراد بكفره حدثه الذي أحدثه، والعلم بالحدث غير العلم بحكم الحدث، ولو جعل مكان “كفره” “فعله” لكان أظهر، والحاصل أن الخلاف في المصر إذا رأيته أصرَّ على حدث أنت لا تعلم ما حكمه، وهو في الأصل مُكَفِّر فقيل: لا يسعك إلا البراءة منه؛ إذ من دينك تحريم المكفرات، ويسعك الجهل بالمُحَرَّم ما لم تبتلَ به وقد ابتليت بمشاهدتك فاعله، وقيل: يسعك جهل ضلالته حتى تعلم حكمه، وذلك أن تعلم أن حدثه يوجب البراءة فهاهنا ليس لك الوقوف؛ لأنه جُبنٌ عن الحق ورجوعٌ عن العلم وتعطيلٌ لفرض البراءة.

ونضرب لك مثلا يتضح لك المقام، وذلك أن أهل الأحداث في عصر الصحابة قد اشتهرت أحداثهم بين الخاص والعام، وقد حكم المسلمون فيها بالبراءة من أهلها، وقد علم الضعيف الحدث وجهل حكمه، فعلى القول الأول يلزمه أن يبرأ منه لأنه علم الحدث ولا يسعه جهل ضلالة المحدث المضل، وعلى القول الثاني يسعه الوقوف حتى يعلم حكم الحدث فيبرأ منه على علم كما برئ المسلمون.

وأنت إن علمت مثلَ علمهم

جاز لك الحكمُ بمثل حكمهم
وإن جهلت فرضُك الوقوفُ

وهو سبيل عندهم معروفُ

وهنا توسعة أخرى وهي في قوله:

وكان من قولهمُ فيما مضى

ليس علينا فيه أمرٌ فُرِضَا
فما مضى قبلك لو بساعةْ

فدعه ليس البحث عنه طاعةْ

العقد الثمين (1/224-225)

الركن الثاني: في الجملة وتفسيرها وما يشتمل عليه

الباب الأول من الركن الثاني: في لزوم الجملة وكيفية قيام الحجة بها.

س – عن قوله في مشارق الأنوار حيث حكى الأقوال الثلاثة في الاجتزاء بالتلفظ باسم محمد في الشهادتين إذا تلفظ الناطق بها بفتح الميم أو بإعجام الخاء، وذكر أن ثالث الأقوال هو اختيار شارح النونية. قال السائل: ونحن لم نجد شيئا من هذه الأقوال الثلاثة؛ اكشف لي عنها القناع.

ج – الأقوال الثلاثة فيما إذا قال المشرك عند إسلامه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله بفتح الميم وبالحاء المهملة، أو قال أشهد أن محمدا بضم الميم وبالخاء المعجمة وهو يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. اختلفوا هل يقبل منه ذلك ويكون به مسلما أم لا؟ على أقوال ثلاثة: أحدها: أنه يجزيه ذلك مطلقا كانت تلك لغته أو لم تكن، والقول الثاني: لا يجزيه ذلك مطلقا، والقول الثالث: يجزيه إذا كانت تلك لغته ولا يجزيه إذا لم تكن تلك لغته، وهذا القول هو اختيار شارح النونية وهو الصحيح عندي.

ومعنى ذلك أنه إذا كان أحد من العرب لغتهم فتح الميم في محمد أو كانت لغتهم النطق بالخاء المعجمة مكان الحاء المهملة وعُرِف منهم ذلك أجزأ منهم الإسلام بلغتهم، وأما إذا كانت لغتهم غير ذلك فلا يجتزأ منهم إلا باللغة الصحيحة أو بلغتهم المعروفين بها، والله أعلم.

العقد الثمين (1/135-136) جوابات الإمام السالمي (1/104-105)

س – عن معنى قولك في المشارق: إن مسألة قيام الحجة بخاطر القلب عند من جعله كذلك، وبالمعبر ونحوه إنها من مسائل القدر. فإني لم أفهم ذلك وكيف معنى كونها من مسائل القدر؟ تفضل علي بالكشف.

ج – تعلم أن حجة الله إذا قامت على الإنسان؛ ارتفع العذر ولم يكن له في الجهل حجة، وهو معنى قولهم: إن الحجة حجة علمها من علمها وجهلها من جهلها. فلا يقال: كيف يعذب بحجة لا يعلم أنها حجة؟ فإن ذلك من الخوض في القدر، وإذا منح الله الإنسان عقلا صحيحا فقد أهَّلَهُ لمعرفة خالقه فإذا خطر ذلك بباله – ولا بد أن يخطر- فقد قامت عليه حجة العقل، فلا يقال: كيف كان ذلك حجة عليه؟ لأن ذلك من الخوض في القدر، وهو معنى كلام المشارق، وقد سبقني إلى ذلك الشيخ أبو يعقوب فلست أول قائل به فقلت: الفضل للمتقدم، والله أعلم.

العقد الثمين (1/133) جوابات الإمام السالمي (1/161)

س – ما معنى قولك في البهجة:

ومُنكر الجملة بعد ما ظهر

برهانها كفر جحود قد كفر

قلتَ: أي ومن جحد الجملة بعد أن قامت عليه حجتها أو قبل ذلك فهو كافر كفر جحود ولا ينفعه عذر في ذلك، أما من جهلها بعد قيام الحجة بها أو شك فيها فهو كافر أيضا لكن كفره يسمى شرك مساواة انتهى. أقولُ: كيف يُتَصَوَّرُ له أن يجحد الجملة قبل قيام الحجة عليه بها؟ أوليست الجملة كغيرها في التكليف من أنها لا تلزم إلا بعد قيام الحجة؟ بين لنا.

ج – لا يصح إنكار الحق عُلِم أو جُهِل؛ فمنكر الجملة مشرك بإنكاره كان عالما بها أو جاهلاً وشركه يسمى شرك جحود، والشرك نوعان: جحود ومساواة، وحكم النوعين واحد فقولي في الشرح: بعد أن قامت عليه حجتها أو قبل ذلك. تعميم لأحوال المنكِر، فإن الإنكار كفر على كل حال وإنما يعذر الإنسان قبل قيام الحجة إذا لم يصدر منه إنكار بالجملة، فإنكار الجملة لا يُتَصَوَّرُ إلا بعد الشعور بها وهو قيام الحجة فيها، وكلام الشرح جرى على سبيل المبالغة في تعميم أحوال المنكِر.

أو يقال: إن ألفاظ الجملة إنما تلزم بالسماع والمعاني بالعقل فمن أنكر شيئا من الحالين قبل السماع وبعده فهو مشرك، والله أعلم.

العقد الثمين (1/174-175)

الباب الثاني من الركن الثاني: في التوحيد.

الفصل الثالث: في الصفات.

س – عن معنى قوله في المشارق: فإن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإذا كان ممكنا علمه ممكنا وإذا كان واجبا علمه واجبا. ولفظة “علمه” بصيغة الماضي أم بالمصدر؟ أشكل علي ذلك.

ج – هي بصيغة الماضي، والمعنى أنه -سبحانه وتعالى- يعلم جميع الأشياء موجودها ومعدومها وممكنها ومستحيلها يعلم كل شيء منها على ما هو عليه من الحال، والله أعلم.

العقد الثمين (1/102)

س – عما في مشارق أنوار العقول في النقيضين والضدين أن الضدين: لا يجتمعان ويرتفعان، والنقيضان: لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فهما إذًا أقوى من الضدين، ووجدنا عنك وعن غيرك في الصفات السبع أن الله حي مريد سميع عليم قدير أن هذه المذكورة كل واحدة تنفي ضدها وعبر هاهنا بالضد. [بياض بالأصل].

فلا ارتفاع بل ثبوت واحدة وهي الحياة والقدرة والعلم والإرادة، وفي الوضع: ومتكلم ليس بأخرس -إلى أن قال-: وغالطت الأشاعرة المعتزلة في هذا المعنى فتوقف بعضهم ورجع بعضهم إلى قول الأشاعرة -إلى أن قال-: وتفطن لها أحدهم فأجاب منتصرا أن الكلام نقيضه الخرس، لا ضده – إلى أن قال -: الضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان والنقيضان يرتفعان ولا يجتمعان، وإن المتكلم يكون ساكتا وهو قادر على الكلام فهنا سماه نقيض الكلام وعبر عنهما أنهما لا يجتمعان ويرتفعان. فما وجه هذا الكلام وهل هو مخالف لقولك: النقيضان هما اللذان لا يرتفعان ويتعاقبان؟ وكذلك صاحب جمع الجوامع وصاحب شرح الوضع قالا: النقيضان لا يجتمعان ويرتفعان والضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان. بين لنا ذلك.

ج – قد وقفت على كلام محشي الوضع في الضدين والنقيضين قبل أن أؤلف المشارق بزمن طويل، وقد راجعت النظر فيه والتمست له شيئا يوافقه من أقوال أهل الفن فلم أجد له موافقا، ويحتمل أنه بُنى على اصطلاح لم نقف عليه، وعامة العلماء على ما ذكرته في المشارق، وقد قال الجرجاني في التعريفات: الضدان صفتان وجوديتان تتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض.

وقال المُرْشدي: التضاد تقابل بين أمرين وجوديين يتعاقبان على محل واحد بينهما غاية الخلاف كالبياض والسواد في المبصرات، والهمس والجهر في المسموعات، والطيب والنتن في المشمومات، والحلاوة والمرارة في المذوقات، والملاسة والخشونة في الملموسات، وكالتحرك والسكون والقيام والقعود في المفعولات. قال الجرجاني: والفرق بين الضدين والنقيضين أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود والضدين لا يجتمعان ولكن يرتفعان كالسواد والبياض، انتهى.

ومعنى قولهم يرتفعان أي يمكن ارتفاعهما وإن لم يرتفعا بالفعل، وأما صفات الله تعالى الذاتية فإنها دالة على نفي أضدادها، لأن ضد الكمال النقصان، وضد العلم الجهل، وضد القدرة العجز، وضد الكرم البخل، وضد الحكمة العبث، وهكذا وأنت خبير أن بين العلم والجهل تضاد لا تناقض؛ فإنهما لو كانا في غير الله لأمكن ارتفاعهما معا فلا يوصف الفرس بأنه عالم ولا جاهل وكذا الأسد وسائر الحيوانات.

وإنما وجب ثبوت العلم لله تعالى من حيث إنه تعالى كامل الذات والصفات فوجوب العلم هنالك لأمر آخر غير معنى الضدين، وكذا القول في سائر الصفات، وأضرب لك مثالا يقرّب لك المعنى فإنهم قالوا: إن الخبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته فكل كلام احتمل ذلك فهو خبر، وأنت خبير بأن أخبار الله تعالى وأخبار أنبيائه لا تحتمل إلا الصدق لوجوب القطع بصدق المخبِر ولم يخرجه ذلك من تسميته خبرا، فكذا العلم في حق الله تعالى واجب ولم يخرجه ذلك عن كونه ضدا للجهل فتفطن له فإنه بحث دقيق ومعنى لطيف، والله أعلم.

العقد الثمين (1/89-91) جوابات الإمام السالمي (1/120-121)

الفصل الرابع: في الرؤية.

س – عن قول صاحب المعالم، قال السائل: إني أراه يُسَلِّمُ أن الرؤية هنا بمعنى العلم من غير اعتراض، وأنت تمنع ذلك في المشارق إذ قلتَ: لا نسلم أن الرؤية لا تستعمل بمعنى العلم إلا لقرينة ولا قرينة هنا، وأيضا لابد من تصور المعلوم في ذهن العالم. -إلى آخر ما قلت- هذا معنى كلامك وكلامكما على أثر كلام الفخر والغزالي.

ج – إنما سُلِّمَ ذلك لظنه أن الفخر والغزالي يريدان بالرؤية العلم بأثر صفات الله من كشف أحوال الآخرة، ولم أكتف بذلك منهما؛ خشية أن يكون مرادهما بالعلم انكشافُ حقيقة الذات في أذهانهم، وذلك معنى ما يزعمه بعضهم أن الرؤية بالقلب، وهذا باطل والأول صحيح لو أراده، لكن الظاهر من أحوالهم أن مرادهم الثاني دون الأول، والله أعلم.

العقد الثمين (1/232) جوابات الإمام السالمي (1/164-165)

                                                                     

الباب الثالث من الركن الثاني: في الأنبياء والرسل والملائكة والكتب.

س – عما وجد في المشارق أن في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة قولين، فلا أعرف برهان المثبت الرسالة ولا الذي أرسل به إليهم. فضلا أوضح لي ذلك لأطلع على سره بعد أن كنت جاهلا به.

ج – وجدت الخلاف في ذلك فنقلته كما وجدته ولم أطلع على حجج المختلفين، ولعل القائلين بإرساله إلى الملائكة أيضا يحتجون بعموم رسالته، وأن الملائكة قد أُمِروا بنصرته وقاتلوا معه يوم بدر وشهدوا يوم حنين وأَفْزعوا يوم الخندق وزلزلوا الحصون على بني قريظة؛ فهم من جملة أنصاره وأعوانه، ولعل رسالته إليهم على هذا القول كانت إيصاء بطاعة الله تعالى وتحريضا لهم على امتثال الأوامر والوقوف دون المناهي وهم عليهم السلام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والله أعلم.

العقد الثمين (1/143-144) جوابات الإمام السالمي (1/124)

س – بعض الوهابية بما نصه: وقفت على عبارة في المشارق وعظمت علي أكبر ما يكون وأشكلت غاية الإشكال، فالمراد تبيينها وتوضيحها وهي هذه: قال المصنف: اعلم أن الكلام تارة يضاف لله تعالى على معنى نفي الخرس فيكون صفة ذات، وتارة يضاف إليه على معنى أنه فعل له فيكون صفة فعل، فمعنى كونه متكلمًا على الأول: أي ليس بأخرس، وعلى الثاني: خالق الكلام، والدليل على أنه متكلم إجماع الأنبياء عليهم السلام فإنه تواتر عنهم أنهم كانوا يثبتون له الكلام، ويقولون: إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وكل ذلك من أقسام الكلام، فثبت المدّعى.

قال السائل: فإذا تقرر هذا عن الأنبياء فكيف يَسَعُنا الخروج عن طريقتهم، ونقول لا نُسَلِّمُ إليهم ذلك مع قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء:59].

وأعاد الالعامل مرتين في طاعتهما ولم يعده في طاعة أولى الأمر فتبين بهذا أن طاعتهما وجبت استقلالاً وطاعة أولي الأمر مفروضة عليهما. تفضل أزل عنا ما أشكل علينا لتتم الفائدة وتعود العائدة.

ج – لم أعلم إلى الآن أنكم خرجتم عن إجماع الأنبياء، كنت أظنكم غير ذلك، وإن كنت تعرّض بنا فراجع نفسك؛ فإنك قصرت عن فهم العبارة؛ فنحن نثبت ما أثبته الله لنفسه في كتبه وعلى لسان أنبيائه، فهو متكلم عندنا إجماعا بلا خلاف، والدليل على إثبات ذلك ما ذكره في المشارق من إجماع الأنبياء في إثبات الكلام إلى آخره، والعجب منك كيف خفي عليك ذلك مع وضوحه، وتجعل العبارة علينا وهي لنا:

علي صب المعاني في قوالبها

وما علي لكم أن تفهم البقر

والعلم عند الله والسلام.

العقد الثمين (1/81-82) جوابات الإمام السالمي (1/183-184)

فصل: في المحكم والمتشابه.

س – بما نصه قد ثبت في الكتاب العزيز أن الله ذم أقواما باتباعهم المتشابه فإن قوله تعالى:{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران:7] الآية، وجعلت في المشارق المجمل نوعا منه ولا شك أن المجمل نتبع الأمر ونترك النهي منه بعد ما بين لنا، وأيضا فالظاهر نوع منه باعتبار المعنى الخفي، وقد نعمل بما يتضح لنا من الأدلة، فالمجمل قوله تعالى:{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَانِ} [سورة النساء:7] الآية، فقد فُسِّر بقوله تعالى: { ُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَٰدِكُمْ} [سورة النساء:11] الآية، فجعلنا كل نصيب لمستحقه مراعين الآية الأولى، وكذلك آية القرء فنقول لو كان المجمل من المتشابه لما صح لنا اتباعه، وكذا الظاهر. عرفنا مما تراه موافقا لنا مأجورا إن شاء الله.

ج – المجمل نوع من المتشابه، والعمل بمقتضاه بعد البيان إنما هو عمل بالمحكم لا بالمتشابه لأن المجمل يصير مبينا والمبين محكم؛ فالتشابه وصف له قبل البيان، والذم على الآخذ بالمتشابه إنما هو ذم على الحالة التي لم يرد بيانها فهم يتمسكون بالمتشابهات ويصرفونها لاعتقاداتهم الفاسدة {ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّ } [سورة آل عمران:7]. وذلك قبل البيان فإذا ورد البيان فقد عَلمه الناس وخرج عن الاشتباه، والله أعلم.

العقد الثمين (1/131-132)

الباب الرابع من الركن الثاني: في الوعد والوعيد.

الفصل الأول: في الموت والبعث والحساب.

س – بما نصه وذكرت لي أن أمحو مسألة اللوح من المشارق، فقد وجدت عين مسألتك في كتاب دلائل الخيرات ونصها: اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا أو محروما أو مطرودا أو مقترا علي في الرزق فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي وإقتاري وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيدا مرزوقا موفقا للخيرات؛ فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على لسان نبيك المرسل: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ} [سورة الرعد:39]. اهـ بلفظه.

وفي جامع ابن جعفر أن الدعاء على الشريطة جائز؛ فإن كنت هذا لا تراه صوابا فعرفنا إن شاء الله لنمحوه، وهل يسأل السائل إلا محض الخير فقط، ويتعوذ من الشر وكلاهما مقرر في اللوح والحكمة جارية على مشيئة الله تعالى لا على دعوة الداعي: {لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ} [سورة الأنبياء:23]. إن عَذَّبنا فبعدله، وإن رَحِمنا فبفضله، أَمَرنا أن ندعوه فدعوناه وقد وجدت أن من أراد الرزق فليكتب: كذا وكذا ويدعو بكذا فالرزق مكتوب قدره في اللوح لا يزيد ولا ينقص فما فائدة هذا المذكور؟ تفضل علينا بإيضاحه أدامك الله.

ج – نعم كتبت لك أن تمحو مسألة اللوح من المشارق، وقد كنت كتبتها يوم كتبتها وأنا لا أرى إلا ظهور صوابها ووضوح حقها مع ما وقع فيها في ذلك الحال من النزاع بيني وبين شيخنا الصالح -رضوان الله عليه – وأخينا الراشدي – رحمه الله -، فأما شيخنا فلا يرى صحة ما كتبت هنالك أصلا، وأما الراشدي فإنه أول من قال بثبوت ما كتب هنالك ثم وافقته عليه، فكان ما جرى.

والمسألة بعينها صرح بها الخازن في تفسيره، ولها في كتب أصحابنا أهل المغرب -رحمهم الله تعالى- نظائر، ولنا عند قولنا بثبوتها تشبثات كنا نظنها حججا، ثم ظهر لي بعد مناظرة طويلة من إخواننا المتعلمين صواب ما قاله شيخنا في منع تغيير ما كتب في اللوح، فرجعت عما كتبته في المشارق، وأحببت أن لا أكون رأسا في أمر لم يتقدمني فيه أحد من أصحابنا، وإن لم يفض ذلك إلى خطأ في الدين والحمد الله؛ فلذا كتبت إلى أهل الآفاق بإبطال مسألة اللوح في نسخ المشارق.

فأما ما نقلتَه من دلائل الخيرات فهو من المسألة المذكورة محتاج بنفسه إلى دليل، وما في الجامع من جواز الدعاء على شرط لا يكفي حجة لذلك؛ فقد طال ما تشبثنا بمثلها فصارت هباء منثورا، فالحق الذي لا مرية فيه أن ما كتب في اللوح لا يصح تبديله، والله أعلم.

العقد الثمين (1/240-241) جوابات الإمام السالمي (1/179-181)

س – عما ذكره في المشارق بناء على مسألة الآجال التي مضى البحث فيها تخريجا لمسائل المعتزلة على وجه حق إنه قد يكون للمقتول أجلان: أجل يقتل فيه، وأجل يموت فيه حتف أنفه. وقد مر البحث في تصويرها. أليست هذه المسألة هي عين الممحوة عنه أم ثم فرق؟  تفضل بالبيان.

ج – تعذر حمل قول المعتزلة على الصواب في تلك المسألة، لأن قولهم فيها ناشئ عن اعتقادهم الفاسد في الإرادة، حيث زعموا أن الله لم يرد جميع ما يقع من الإنسان، فلزمهم أنه يُعصى باستكراه، والقاتل العاصي عندهم لم يُرِد الله قتله فهو قد فعل خلاف ما أراد الله في زعمهم -تعالى الله- وكون المقتول له أجلان: أجل يعيش إليه إن لم يقتل، وآخر يموت فيه إن قتل، وقد علم الله أن الواقع أحد الأمرين يشبه الأرزاق المقدرة على الأسباب فهي دون مسألة اللوح؛ لأن المشكل هنالك كتابة شيء على الإطلاق فيظهر تقييده.

وليس في هذه المسألة شيء من ذلك فهي تقديرات مسببة إن صح القول بذلك، ولا حاجة إلى القول به، فالواجب إمعان النظر في معاني الكتاب والسنة دون معاني القدر، ولا بد للشباب من غرة نسأل الله أن يكفينا وإياكم شرها والله أعلم.

العقد الثمين (1/235) جوابات الإمام السالمي (1/225-226)

س – عما ذكره في المشارق من كلام عبد العزيز في معنى تطويل العمر من أنه يمكن أن يكتب في صحف الملائكة أن عُمْرَ فلان كذا وهو في علم الله مقيد بما إذا لم يفعل كذا وأنه إن فعل ذلك طال عمره إلى كذا. قال السائل: لم يتضح لي معنى هذا الكلام لأنه يفضي إلى اختلاف الأخبار، ولقائل من الأشاعرة أن يقول: لا فرق بين الملائكة بتخليد الفساق ويكون في علمه الذي لم يطلعنا عليه أن لا عذاب، أو لا خلود، ونحن لا نشك أن الذي أخبر به صادق لا يكون خلاف ما أخبرنا. ففسر لنا ذلك.

ج – أما الذي ذكره عبد العزيز من الاحتمال في تطويل الأجل فليس هو إخبارا عن الله تعالى بنفس الواقع، وإنما هو كتابة الشيء المقيد مع إهمال القيد، وقد وقع منه في القرآن كثير، فإنك ترى آيات الوعد والوعيد مطلقة في مواطن كثيرة وهي في حكم الله مقيدة وقد ذكر القيد في آية أخرى، والإطلاق كما في قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} [سورة الجن:23]. وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} [سورة النساء:93]. الآية، فإن هذا وأمثاله من الآيات مقيد بما إذا لم يتب كما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ } [سورة طه:82].

وبالجملة فقد يثبت الحكم مطلقا في موضع ومقيدا في آخر، ولا يلزم من ذلك اختلاف الأحكام، بل يحمل مطلقها على مقيدها، فكذلك ما في صحف الملائكة ما يثبت مطلقا وهو عند الله مقيد، فلا يكتب في صحفهم القيد ابتلاء لهم. هذا توضيح المنقول عن عمر بن عبد العزيز وفيه نظر لا يخفى.

فالحق أن الأخبار عن الله تعالى إذا كتبت أو نقلت بلسان الوحي فإنا نقطع بصدقها، فإن نقلت مطلقة قطعنا بإطلاقها أو مقيدة فكذلك ولا يصح غير هذا وإلا لالتبس الحق بالباطل، واليقين بالشك، فأما إطلاقات القرآن في الوعد والوعيد فإنها لم ترد كذلك إلا بعد استقرار القيد وبعد التيقن بقبول التوبة، فهم يفهمون أن الإطلاقات متوجهة إلى أهل تلك الصفة إن لم يتوبوا منها، وليس استقرار القيد في الأذهان كإخفائه عن العيان، والله أعلم.

العقد الثمين (1/238-239) جوابات الإمام السالمي (1/118-119)

س – بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم بحث لشيخنا العلامة أبي محمد عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي: ما ذكره المتكلمون في كتبهم: كالإمام عبد العزيز في شرح النونية، والباجوري في حواشي الجوهرة وغيرهما في تأويل أحاديث زيادة العمر بأعمال البر ما نصه: وبالنسبة إلى ما تثبته الملائكة في صحفهم، لأنه قد تثبت فيها الشيء مطلقا وهو في علم الله تعالى مقيد، ثم يؤول إلى موجب علمه تعالى، -إلى أن قالوا-: كأن يكون الموجود في صحفها أن عمر زيد خمسون سنة مثلا، وهو مقيد في علم الله تعالى بأن لا يفعل طاعة كذا وأنه إن فعلها كان عمره ستين سنة مثلا، وسبق في علمه تعالى أنه يفعلها فإنه يفعلها ويعيش ستين سنة، فالمعتبر في العمر هو ما تعلق العلم الأزلي بالوصول إليه انتهى ما قيل.

فأقول وبالله أستعين على فهم ما صعب وكشف ما خفي علي فهل ما تثبته الملائكة -عليهم السلام- في صحفها تثبته بأمر الله -عز وجل- أم من أنفسهم؟ فإن كان بأمر الله -عز وعلا- فهل يصح أن يأمر بشيء وهو في علمه خلافه؟ وأي حكمة في هذا؟ فإن في نفسي من هذا الأمر شيئا قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ } [سورة ق:29]، ولا يصح أن يقال إن ذلك من عند أنفسهم حاشاهم أن يثبتوا ما لم يؤمروا به: {لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم:6].

وما معنى قولهم: وهو مقيد في علم الله تعالى بأن يفعل طاعة كذا إلخ، فالبحث في هذا من وجهين: الأول: ما معنى هذا الإطلاق والتقييد؟ وكيف يصح أن يكون علمه تعالى بالشيء الواحد مطلقا مقيدا مثبتا منفيا؟ الوجه الثاني: هل العلم المقيد بأن لا يفعل هو العلم السابق بأنه يفعل قطعا أم لا؟ فإن كان هو أليس هذا من التناقض الذي لا يليق بعلمه تعالى والشك الذي هو عدم الجزم بأن يفعل أم لا يفعل -تعالى الله عن ذلك علوا كثيرا-.

وإن كان غيره أليس خلاف قواعد المذهب؟ فعلمه تعالى لا يتعدد بتعدد المعلومات ولا تبدو له البدوات، وقولهم المعتبر في العمر هو ما تعلق العلم الأزلي بالوصول إليه فأي فائدة وحكمة في إثبات عمر غير معتبر؟ وقد روي أن النطفة إذا وقعت في الرحم أوحى الله إلى ملك الأرحام أن اكتب أجله ورزقه إلخ، فيلزم على ما قالوا من كتابة الأجل عدم الفائدة لأن ذلك الأجل المكتوب لا يموت له صاحبه، فكيف يصح أن يأمر الله بما لا فائدة فيه؟ فالله تعالى متنزه عن العبث والجهل؛ فعلمه تعالى لا يتبدل. فضلا منك بين معاني هذا.

ج – هذه المسألة في غاية من الإشكال، وهي التي أوقعت محبك في مسألة اللوح الممحوة من المشارق، لا [أبقى][4] الله لها ذكرا، وليس إشكالها من قبل تعدد علم الله، ولا من قبل الإطلاق والتقييد، فإنها لا تستلزم تعدد العلم، والإطلاق والتقييد موجودان قطعا في نصوص الوحي، وإنما إشكالها من حيث التبدل وهو تعالى لا يبدل القول لديه.

لكن بقي هنالك معنى إن تأملته هان الخطب وسهل الأمر وقرب البعيد، وذلك أن يكون الملك قد أمر بكتابة ستين سنة عمرا لزيد من غير أن يقال له عمره ذلك، وفي الخبر: إنه يقال له اكتب أجله. وهو أمر لا يدل على الواقع في الخارج؛ لأنه إنشاء وإنما يدل على الخارج الخبر لا الإنشاء، وتقييد الأوامر غير مستنكر كما هو شأن كثير من الآيات القرآنية، فإذا أمر الملك بكتابة الأجل المعلوم ثم فعل ذلك الإنسان ما يوجب له زيادة العمر، فيزيده الله تعالى ما شاء علم الملك أن عمره قد زاد بسبب.

والحكمة في ذلك ابتلاء الملائكة وحاشاهم من الشك، وحث المؤمنين على أفعال البر وصلة الرحم، وما وراء ذلك أمر عظيم يجب على أمثالنا الكف عن الخوض فيه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ} [سورة البقرة:285]. هذا ما حضرني في ذكره في الحال، فعساه يدفع الإشكال، والحمد لله على كل حا،ل والعلم عند الله، والسلام من محبك عبد الله بن حميد السالمي.

العقد الثمين (1/235-237) جوابات الإمام السالمي (1/230-231) جوابات الإمام السالمي (1/167-168)[5]

س – بما نصه ونبحث في قولك في مشارق الأنوار لما ذكرت تواتر الأخبار قلت ناقلا: إن تواتر الأخبار لا تكون في دهرنا متواترة، أي هي باعتبارها الآن كلها آحادية، وإنما التواتر وغيره إنما هو بالنظر مع من تقدم، وجميعها الآن في منزلة الأخبار الآحادية انتهى. وليس هذا لفظه ولكن على ما نفهمه من كلامك ولا وسع إلى المطالعة لأنه على عجلة فنقول: على هذا فيكون ما ورد فيه خبر الآحاد وما ورد فيه الخبر المتواتر سواء قوة وضعفا مع كثرة ما يكون في محاورة العلماء ومعارضة بعضهم على بعض بأن ما ركن إليه قولك خبر آحاد.

وما قلته يقويه خبر التواتر والآحاد، والخبر الغير المتواتر ليس لنا سبيل في الاطلاع إليها إلا بقول واحد، وإن كان وجد في كتب عديدة فيمكن تواطؤ مثلهم على الكذب. نعم، وهذا مشاهد وكثير كخبر الرؤية، ولكن أن لو قلنا بهذا فجميع الأخبار بمنزلة فيلزم التعارض في أخبار عديدة، ولم يبين في جهة أحاديث ناسخها من منسوخها؛ لعدم العلم بالمتقدم منها، وليس بعضها بأقوى متنا من بعض.

وبالجملة فانظر شرح بيتك:

………..مما جاء به

تواتر الأخبار حقا فانتبه

فإني أظن هذا الكلام وارد هناك، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.

ج – لم أطالع شرح البيت لضيق المقام غير أني أحفظ المعنى الذي تشير إليه وذلك أن صاحب المرآة من الحنفية ذكر أن التواتر والآحاد إنما يكون معتبرا في القرون الثلاثة: قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فما كان هنالك متواترا فهو متواتر وما كان هنالك آحاديا فهو آحادي، ولا يلزم من هذا معارضة الآحادي للتواتر فإنه إذا كان دليل أحد المختلفين متواترا في القرون الثلاثة تقاصر عن معارضته خبر الآحاد، ولا عبرة لما صار إليه الحال في الأخبار في زماننا هذا لقلة ضبط الناقلين ولا سبيل إلى معرفة المتواتر الآن إلا ما يوجد في الكتب ولا يُقطع بمدلول شيء منها إلا ما أطبقت الأمة على نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل حديث اتفقت الأمة على أنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نقلته بالمعنى قطعنا بمدلوله، وكل خبر ليس على هذا الوصف فلا نبلغ به درجة القطع، وبالجملة فالمتواتر لا يختص به أحد دون أحد بمعنى أنه لا يكون متواترا وبعض الأمة تنكره، فإن ظهر فيه الإنكار عن بعض الأمة كان ذلك دليلا على كونه غير متواتر، والله أعلم.

العقد الثمين (1/223-224) جوابات الإمام السالمي (1/113-114)

الباب السادس: في الإيمان والإسلام.

س – عما في المشارق من الاستدلال على جعل الإقرار ركنا يَكمُلُ به الإيمان عند الله وعند الخلق بما روي أن (الإيمان تصديقٌ بالجنان وإقرارٌ باللسان)[6]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث[7] قال: ولم يقل حتى يُصَدِّقُوا قلت: وأجيب عن الأول بأنه كلام لبعض السلف لا رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى تسليم أنه رواية فلا دليل فيه على أن ترك الإقرار شرك، بل غاية ما فيه أن الإقرار من الإيمان، وهو مسلم على تسليم أنه من الإيمان فتركه لا يوجب شركا؛ كيف وفي آخر الرواية ما نصه: (وعَمَلٌ بالأركان) ولم يقل أحد بأن ترك العمل شرك إلا الضُلَّالُ من الخوارج كالأزارقة والصفرية، وهم بذلك القيل ضالون مخالفون للكتاب والسنة مفارقون لجميع الأمة.

السؤال عن هذا القول الذي ضلت به الخوارج، ما معناه؟ فإني لم أفهم ذلك وقد وردت الأحاديث الصحيحة بقتل مانع الزكاة وتارك الصلاة وكيف أمر بقتلهم إلا لتركهم العمل وهم مع ذلك يشهدون أنه لا إله إلا الله؟ وأليس قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [سورة فصلت:6-7]. دليلا على ذلك أم هو مفهوم مخالفة لا يعتد به وأيضا ففي الحديث المتقدم (حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)[8] الخ؟ أليس في عطف الصلاة والزكاة على القول دليل على أن حكمها واحد؟ وناهيك بما روي عن الصديق رضي الله عنه: لو منعوني إلخ[9].

ج – لم يرد حديث في قتل تارك الصلاة، وأما قتال تارك الزكاة فمن إجماع الصحابة وقيس عليه قتل تارك الصلاة، ثم إن القتل والقتال لا يلازمان الشرك بل يكون القتل بأسباب أُخَر كالقَود في القصاص ورجم الزاني المحصن، والقتال يكون بالبغي والامتناع عن أداء الزكاة للإمام، وليس شيء من هذا شركا بل هو كفر نعمة، وإنما ضلت غُلاة الخوارج بجعلهم كفر النعمة شركا فجعلوا الأعمال ركنا من الإيمان بمعنى أنه إن ضيع في العمل أشرك، ونحن نجعل العمل ركنا من الإيمان بمعنى أنه إن ضيع العمل كَفَرَ كُفْر نعمة، فالإيمان عندنا مقابل للكفر، وعندهم مقابل للشرك.

والكفر في اصطلاحنا قسمان: كفر نعمة وكفر شرك، وفي اصطلاحهم كفر واحد وهو الشرك، فكل كفر عندهم شرك وبهذا ضلوا حيث لم يثبتوا بين الإيمان والشرك منزلة ونحن أثبتناها، ألا وهي: كفر النعمة؛ فنحن نبرأ ممن لم يثبت المنزلة بين المنزلتين بهذا المعنى، ونقول: إنه لا منزلة بين الإيمان والكفر؛ فنحن نبرأ ممن أثبت المنزلة بينهما ألا وهم المرجئة القائلون بنقصان الإيمان، فهم يقولون في كافر النعمة: إنه مؤمن ناقص الإيمان، ولا يسمونه كافرا؛ وذلك ليتم لهم اعتقادهم أن كل مؤمن يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق، ونحن نقول إن كل مؤمن يدخل الجنة، وننفي أن يكون الزاني والسارق مؤمنا، بل كلاهما كافر نعمة، فتفطن له فإنه مزلة الأقدام وفطنة الأفهام، والله أعلم.

العقد الثمين (1/159-160)

س – عما في القطعة السابقة من كتاب الهميان عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} [سورة الأنفال:2]. فقد قال: إن الإيمان يزيد وينقص، ورأينا في المشارق في باب الإيمان ما يخالف ذلك. تفضل أوضح لنا صحة ذلك، وهذه مسألة رأي أو دين؟

ج – لعل مراد الشيخ بزيادة الإيمان ونقصه نفسُ وصفه بذلك فإن الإيمان يقوى بقوة اليقين ويضعف بضعفه، فيكون قد سمى ضعفه نقصانا، فإن كان هذا هو المراد فلا بأس به والخلاف فيه لفظي يعني أنه راجع إلى اللفظ، والذي في المشارق هو المذهب الحق وعليه الأصحاب أجمع وبه قالت المعتزلة وهو أن الإيمان يزيد ولا ينقص.

والمراد بالإيمان في هذا الموضع الوفاء بالواجبات أجمع، والمراد بزيادته زيادة الفرائض على المكلف الواحد، وذلك أن الإنسان يأتي عليه حال لا يلزمه فيه إلا التوحيد، فإذا وُجِدَ فهو مؤمن ثم يأتي عليه الحال الثاني يلزمه فيه مع التوحيد فرض الصلاة، ثم يأتي عليه حال ثالث يلزمه فيه فرض الصيام، ثم يلزمه فرض الزكاة، ثم الحج إلى غير ذلك من الواجبات، فإيمانه يزيد بزيادة الفرائض، وكل ما صار في مرتبة من مراتب الإيمان الواجبة لم يكن له أن ينزل عنها إلى ما دونها، فهذا معنى قولهم: الإيمان يزيد ولا ينقص. يعني أن الفرائض تزيد وإذا زادت فليس للعبد أن ينقص منها، فإن نقص شيئا منها فليس بمؤمن بل هو كافر نعمة، وهذا بإجماع ولا خلاف فيه من أحد من الأصحاب.

وإنما خالفت فيه الأشعرية ومن قال بقولهم، وذلك أنهم أثبتوا الإيمان لمن أخل بالواجبات أو فعل المحرمات ما دام موحدا، وسموه الإيمان الناقص، وأوجبوا له به دخول الجنة لزعمهم أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، فالمسألة بهذا النظر من مسائل الدين وبها نُفَسِّقُهُم، وليس مراد الشيخ هذا، وإنما مراده المعنى الأول وهو نفس التسمية، أو أنه أراد يزيد بزيادة الطاعات الغير الواجبة وينقص بنقصانها، وهذا أيضا لا بأس به؛ فإن ترك النفل جائز، والله أعلم.

العقد الثمين (1/86-87) جوابات الإمام السالمي (1/205-206)

الركن الثالث: في الولاية والبراءة وما يشتمل عليهما وما يتولدان منه

الباب الثاني: في وجوب الولاية والبراءة بحكم الظاهر .

فصل: في أحوال الولي بالظاهر.

س – بما نصه والباعث للمعارفة البحث عما أشكل علينا من أمر المختلفين في رجل قتل رجلا؛ فقالت فرقة من العلماء: إن القاتل قتله بحق، وادعوا له صفة تجوز مثلا أن المقتول بغى على القاتل أو قتل وليا له، له أن يقتله به ونحن نصوبه على ذلك، وقال آخرون من العلماء: إن القاتل قتل ظلما بغير حق ونحن لا نصوبه على فعله هذا، وإنما قَدِم عليه بباطل، وانْبَهَمَ أمر القاتل والمقتول على بقية العلماء، فما منزلة هؤلاء العلماء المصَوِّبِين له في فعله والمخَطِّئِين له على قتله، وكل يدعي صفة تجوز له القول بذلك؟ ما منزلتهم في أحكام الولاية والبراءة فيما بينهم أنفسهم دون الجهر عند بقية العلماء الذين لم يشاهدوا الحدث من هؤلاء المختلفين لأن دعوى الفرقتين متضادة؟ أيبرأ الفريق المحق عند نفسه من الفريق المبطل في هذه الدعوى سريرة لا علانية عند أوليائهم؟

وإن طلب ولي المقتول الإنصاف عند الحاكم أيكون له القَود أم الدية أم لا دية ولا قَود؟ وهل فرقٌ بين هذه ومسألة موسى بن موسى وراشد بن النظر والصلت بن مالك لقول فرقة من العلماء: إن موسى وراشدا خرجا باغِيَين على الصلت مُزيلَين لإمامته، وهو إمام لم يعتزل عنها، وهم يبرأون من موسى وراشد، والقائلون: إن موسى وراشدا خرجا محتسبين لله في فعلهما ذلك، وأن الصلت قد اعتزل عن الإمامة وادعوا صفة جائزة لهما؟ أترى الفرقتين يبرأون من بعضهما البعض في السر لا في العلانية عند غيرهم من بقية العلماء الذين لم يشاهدوا الحدث لأن أمورهم متضادة؟ وكل يدعي صفة توجب له صدق دعواه، لأنا علمنا من المذهب أن اختلاف هؤلاء اختلاف دعاوى لا اختلاف بدع ولا اختلاف رأي، وهم متسالمون من البراءة من بعضهم البعض عند من يعلم كعلمهم، فذلك[10] عقائدهم في سرائرهم أنهم يتولون بعضهم بعضا أم يبرأون فيما بينهم دون غيرهم ممن لم يعلم كعلمهم فيما يسرون من بعضهم البعض.

تفضل بين لنا ذلك بيانا لا غبار عليه لأن في الآثار إجمالا وتفصيلا. ففي كتاب مشارق أنوار العقول بعد كلام ما نصه: وكل واحدة من هذه الفرق تتولى الأخرى على ولاية من تولوا وبراءة من بَرِئوا لذلك الاحتمال الواقع، فلم يزالوا على ذلك. وفي كتاب الاستقامة بعد كلام ما نصه: فمن أجل هذه العلل وغيرها جازت الولاية للمتظاهرين بالولاية والبراءة والوقوف حتى يعلم أنهم مبطلون وأن أحدا منهم مبطل بما يصح به باطله بما لا يُحتمل له مخرجٌ من مخارج الحق، بين لنا.

ج – من ادعى في ولاية أو براءة دعوى يمكن صدقها فهو على منزلته وهو أمين في دينه عند من لم يعلم أنه ادعى كذبا وباطلا، فقول القائل: إن فلانا قتل فلانا ظلما. محتمل صدقه عند من لم يعلم الحال، وكذلك قول ضده، فالكل دعوى محتملة، وكل واحدة من الطائفتين تنزل الأخرى منزلتها قبل الدعوى فليس لهؤلاء أن يبرأوا من هؤلاء لا سرا ولا علانية إلا إذا اطلع بعضهم على كذب بعض، ولم تكن له بينة تشهد بكذبه فإنه يلزم هذا أن يبرأ في السريرة من هذا الذي علم كذبه وله أن يظهر ذلك عند غير أوليائه، وهي شبيهة بمسألة موسى وراشد لأن اختلاف المسلمين فيهما إنما كان اختلاف دعاوى؛ فمن تولاهما يدعي صوابهما في خروجهما، ومن تبرأ منهما يدعي بغيهما على الإمام، ولم تقم حجة تكذب واحدة من الدعاوى، ومن وقف عنهما فإنما وقف للإشكال، هذا حكم الولاية والبراءة والوقوف في المسألتين معا.

وأما حق العباد فلا يسقط بالدعاوى بل القاتل مأخوذ بمن قتل حتى تقوم بينة عادلة على صحة ما ادعاه من جواز القتل، وإنما لم يتفق المسلمون على بغي موسى وراشد لشبهة حصلت في ذلك، وهو أن الإمام ترك النكير عليهما، واعتزل بيت الإمامة، ودفع إليهما الكمة والخاتم، وترك النكير ممن له النكير حجة عليه في حكم الظاهر، ودفعُ الكمة والخاتم من غير جبر مُقوٍّ لذلك، فلو أظهر الإمام النكير وطلب الدفع والمدافعة واستعان بمن أمكنه على دفعهم لانحسمت الدعوى، وظهر المحق من المبطل وارتفع الإشكال وأبى الله إلا أن يكون ما كان: {لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [سورة الأنفال:44]، والله أعلم.

العقد الثمين (1/205-207) جوابات الإمام السالمي (1/201-203)

س – عمن تبرأ من وليك بحضرتك أيلزمك أن تستتيبه حالا ولو لم تعلم أنه يعلم أنك تتولاه؟ فإنك رجحت فيمن تبرأ من رجل عند من لا يعلم أنه يتولاه أنه لا يكون مبيحا من نفسه البراءة؛ لأنه إذا وسعه أن يتبرأ منه -وإن على قول لبعض المسلمين- فليس للمتولي لهم أن يبرأ من هذا المتبرئ منهم الآخذ بقول من أقوال المسلمين. نعم إن أخبره بأن الذي يتبرأ منه ولي له فعلى هذا أن يكف عن البراءة منه عنده إلخ. وقلت بعده:

ومُتَبَرٍ من ولي لك قل

بكفره إن لم يتب عما فعل

ما وجه الجمع بينهما؟

ج – قل بكفره إن لم يتب وهذا غير الأول، فإن الأول: في مُتـَبَرٍ من إنسان لا يعلم أنك تتولاه، والثاني: في مُتَبَرٍ ممن يعلم أنك تتولاه فتَوَّبْتَه فأبى، فكان من حق وليك أن تذب عنه. ثم إن الأولياء صنفان:

صنفٌ اشتهر عدلهم وفضلهم ووجبت على العامة ولايتهم، فهؤلاء لا يجوز لأحد أن يظهر منهم البراءة عند أحد ممن بلغهم عدلهم وفضلهم؛ لثبوت ولايتهم على العامة، فمن اطلع منهم على مُكَفِّرَة وتَوَّبَهُم وأصروا بَرِئ منهم خُفية حتى يشتهر إصرارهم عند العامة، فعند ذلك يباح منهم ما كان محرما -والعياذ بالله-.

والصنف الثاني لا تجب ولايتهم على العموم، وإنما تجب على بعض دون بعض، فمن عرف فضلهم تولاهم، ومن جهلهم وقف عنهم، فهؤلاء إذا اطلع أحد على إصرار منهم جاز له أن يبرأ منهم عند من لم يعلم أن لهم عنده منزلة، والله أعلم.

العقد الثمين (1/220)

س – وسئل عن معنى قولك في المشارق في مسألة المختلفين في الدين ما نصه: فإن كان المحق عالما والمبطل ضعيفا فهما بمنزلة لو كانا عالمين، وإن كان المبطل عالما والمحق ضعيفا فهما بمنزلة أن لو كانا ضعيفين، فلم لم يكونا بمنزلة العالمين في الحالين أو بمنزلة الضعيفين فيهما؟ ولم لم ينزل كل واحد منهما منزلته في الموضعين؟ تفضل بالبيان.

ج – العالم إنما يكون حجة إذا كان الحق في يده، فإن لم يكن الحق في يده مع علمه فليس بحجة، فشرط الحجة عند الاختلاف شيئان: حصول العلم، ووجود الحق؛ فإن اختل أحد الشرطين ارتفعت الحجة عن السامع، وحسبك بهذا بيانا، والله أعلم.

العقد الثمين (1/134) جوابات الإمام السالمي (1/311-312)

 

الركن الرابع: في التوبة

الباب الرابع من الركن الرابع: في الأمور التي لا تلزم منها توبة.

الفصل الأول: في التقية.

س – عن الجبر على الزنا، هل يدرأ الحد؟ فإن كان كذلك فما وجهه مع قولك في المشارق: إنه فعل لا يقبل الجبر ولا الإكراه بمعنى أنه لا يتأتى فعله عند ذلك لا أن لا يصدر إلا عند الاختيار من الرجل ولا يحل فعله له؟

ج – يدرأ عنه الحد لشبهة الجبر ولا يتوقف درء الحد على الأمور الاضطرارية، وإنما يكون بحصول الشبهة أيا كانت، ومن المعلوم أن حمل الفاعل على الفعل أو يقتل شبهة قوية، فمعنى قول المشارق: أنه لا يقبل الجبر أي لا تساعده الآلة لو لم يختره في نفسه، والاختيار النفسي ناشئ عن الشهوة، وهو لا ينفي الشبهة الناشئة عن الجبر، وحاصل المقام أنه إنما يحد متعمد الزنى من غير جبر ولا تَأَوُّل ولا غلط، والله أعلم.

العقد الثمين (1/110)

الفصل الثاني: الخطأ.

س – عن قوله في المشارق: ورفع الخطأ إلخ. أهذا الحاكم حاكم حق أم حاكم جور؟ فإذا كان حاكم جور عرفنا ذلك أنه يأخذ بالجبر، وإن كان حاكم عدل كيف يصلح له الأخذ من غير بينة؟ عرفني.

ج – خطأ الحاكم المذكور في المشارق هو الحاكم العدل لا الجائر، وبيان ذلك أن الحاكم يحكم برأيه في مسائل الرأي ويجبر الرعية على حكمه، وذلك هو الواجب عليه إن كان قادرا ويلزم الرعية الانقياد له، ولولا ذلك؛ تلاشت الأمور وتداعت الأحكام وانحل النظام، فإذا حكم على أحد بحكم يرى أنه صواب وهو زلة منه وغلط، فهذا موضع كلام المشارق إن كنت تريد الكلام المذكور في شرح قوله:

ورفع الإثم لدى الخطا ومن

ألزمه الظاهر حكما يسلمن

فإن معناه أن الحاكم يُحكم عليه بالقَوَد بنفس القتل ما لم تكن للقاتل بينة أن المقتول بغى عليه فقتله بعد أن استحق القتل، فإن كان معه بينة دفع عنه القود وإلا حكم عليه به لِما أظهر من القتل، والله أعلم.

العقد الثمين (1/142-143)

الفصل الثالث: في النسيان وحديث النفس.

س – عن قوله في المشارق: فأما النسيان فهو: إما نسيان ذهول: وهو ما ينتبه بأدنى منبه كنسيان الرجل بعض أعضائه. قال السائل: ما معنى نسيان الذهول؟ وما معنى بعض أعضائه؟ ولفظة الأعضاء لأي شيء تطلق؟ أهو إذا سها في حالة الوضوء أم كيف ذلك؟

ج – معنى الذهول: الغفلة، والأعضاء: الجوارح، والمراد بنسيانها: الذهول عنها حالة الاشتغال بغيرها، ومن المعلوم أن أحدنا إذا التفت إلى شيء ذهل عن غيره، فإذا فرغ منه صرف ذهنه إلى غيره، ولا تحضره جميع الأشياء في حالة واحدة، وليس المراد نسيان الأعضاء في الوضوء لأنه يقسم النسيان في أصل الأمر إلى خفيف [وثقيل][11]، والله أعلم.

العقد الثمين (1/143) جوابات الإمام السالمي (1/295)

تم بحمد الله

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] مقتبس بتصرف يسير من مقدمة مشارق أنوار العقول.

أنظر: السالمي، عبد الله بن حميد، مشارق أنوار العقول، تحقيق: عبد المنعم العاني، مكتبة الإمام نور الدين السالمي، ولاية السيب، د.ط، د.ت، ص11.

[2] – كذا في المطبوع.

[3] هذا السؤال وإن لم يكن فيه ذكر للمشارق ولا للبهجة إلا أن شيخي العزيز خالد بن محمد العبدلي أشار علي بتضمينه هنا.

[4] في العقد الثمين: أبقاه، ما أثبته من الجوابات.

[5] ذُكرت هذه الفتوى في الجوابات مجزأة إلى موضعين كما أشرت.

[6][6] رواه ابن ماجه في سننه برقم: (65) في: باب في الإيمان، تحيقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية ط1 1430هـ – 2009م، ج1، 46.

[7] رواه الربيع بن حبيب في مسنده برقم: (464) في: باب جامع الغزو في سبيل الله، تحقيق: محمد إدريس وعاشور بن يوسف، دار الحكمة – مكتبة الاستقامة، بيروت – سلطنة عمان،1415هـ، ص188.

[8] لم أجده بهذا اللفظ وانظر الحاشية السابقة.

[9] رواه البخاري في صحيحه برقم: (1335)، في: باب وجوب الزكاة، في: كتاب الزكاة، ج2، ص507.

[10] كذا في العقد الثمين والجوابات ولعل الصحيح: فتلك.

[11] زيادة من الجوابات غير موجودة في العقد الثمين.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.64 ( 7 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى