العقيدة والفكر

تعزيز القيم الأخلاقية بالدعوة إلى الله

إبـراهيم بن عبـد الله بن محمـد بني عرابة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

ففي هذا المقال أذكّر بأهمية الدعوة إلى الله وعلاقتها بتثبيت القيم الأخلاقية وتعزيزها، ومن الله أستمد العون والتوفيق.

مفهوم الدعوة:

الدعوة في اللغة: من دعا بالشـيء ـ دعـوا، ودعوة، ودعـاء، ودعوى: طلب إحضاره… ودعا فلانا: صاح به وناداه… ودعا إلى الشيء: حثه على قصده، يقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الديـن وإلى المذهب: حثه على اعتقاده وساقه إليه”[1].

وأما في الاصطلاح: فقد عُرِّفت بتعريفات مختلفة الألفاظ، فقيل: «حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليفوز بسعادة العاجل والأجل “، كما عرفها أحدهم أيضا بقوله: «تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة[2]“.

والقرآن الكريم ثري بالآيات الدالة على مفهوم الدعوة فقد ورد هذا المفهوم في آيات عديدة سوف أذكرها باختصار مع بيان بعض الإضاءات فيها.

قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل:125[، ففي هذه الآية الكريمة وردت أهمية العلم بالدعوة وكذلك بيان طرق الدعوة الى الله تعالى فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (ادعُ) وبيّن الله تعالى كيفية الدعوة بثلاث طرق وهي الحكمة، الموعظة الحسنة، المجادلة بالحسنى.

وقال أيضا ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) {سورة فصلت:32}.

وقال أيضا ((وَلۡتَكُن ‌مِّنكُمۡ ‌أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ)) {سورة آل عمران: 104}.

وبهذه الآيات الكريمات نتهدي إلى أن الدعوة علم جليل كسائر العلوم له فنونه وطرقه وأساليب نشره، وهذا العلم ينصب اهتمامه في نشر الخيرات وإبعاد الناس عن المهلكات، وتبصير الناس بخالق الأكوان رب العزة الديان.

وبعد ما سبق يتبين للناظر أن الدعوة إلى الله تعالى هي كل عمل أو محاولة أو جهد مهما كان قدر ذلك الجهد من أجل رفع كلمة الدين والتمسك به ونشره والتمسك بقيمه العلية مرضاة لخالق البرية.

 

حكم الدعوة إلى الله

هذه القضية التي يتكرر طرحها في الساحة الاجتماعية؛ فغالبا ما يتساءل الناس، هل الدعوة واجبة أو لا؟ وإذا كانت كذلك فعلى من تجب؟ هل تجب على كل المسلمين أم على مجموعة من المسلمين لهم صفات ومعايير خاصة؟

وبعد اطلاعي في كتب أهل العلم وجدت أن العلماء أجمعوا على وجوبها، ولكنّ الخلاف في نوعية هذا الوجوب فبعضهم يقول: فرض عين، وبعضهم يقول: فرض كفاية. مستدلين على ذلك بقوله تعالى ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون في المنكر وأوليك هم المفلحون)) [آل عمران 1])، فقالوا إن [من] في قوله تعالى [منکم] تبعيضية، ومن الذين يميلون إلى هذا الرأي الزمخشري صاحب تفسير الكشاف، فيقول:” من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر.. فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر. وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة[3]“.

وهناك من العلماء من يذهب إلى أنه فرض على الكل، مستدلين بأن [من] هنا للبيان وليست للتبعيض، ومنهم سماحة الشيخ بدر الدين الخليلي -حفظه الله وعافاه- فيقول:” وليست كلمة [من] هنا دالة على التبعيض، بحيث يحمل الأمر في الآية على بعض الأمّة دون بعض، وإنما هي للبيان “[4]، ويستدل الشيخ على هذا الرأي بقوله: «كيف والله سبحانه وتعالى حصر الفلاح في هذا الصنف من الناس عندما قال ((وأؤلئك هم المفلحون))[5].

وظاهر كثير من الأدلة تأييد القول الثاني، فالكثير من الأحاديث تدل على ذلك، منها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏ “‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏”. فهذا الحديث فيه إشارة جلية بأن تغيير المنكر يكون من الناس كل على قدر طاقته من غير تكلف، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، فأهل السلطة يغيرون باليد، وأهل العلم والمعرفة يغيرون باللسان، وأهل الضعف والعجز يغيرون بالقلب.

ولكن المسؤولية الكبرى للدعوة إلى الله تقع على عاتق العلماء، لأنهم أكثر درايةً بأمور الدين وأكثرهم فهما وحفظا بكتاب الله وسنة نبيه الصحيحة، فالله قد أعطاهم من القدرات ومن العلوم والمهارات التي تمكنهم من شرح رسالة الدين العلية والدفاع عنها من كل متربص حاقد. والعلماء هم الذين يعلمون ويبصرون الناس بأمور دينهم بالإضافة الى إنذارهم بعاقبة من يخالف أوامر الله تعالى وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة حيث قال الله في كتابه: ((فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فرقة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [سورة التوبة:122].

ولكن هذا لا يعني أن بقية الناس يتركون الدعوة ؛ لأن الدعوة إلى الله لا تحتاج في جميع حالاتها إلى أن يكون الشخص عالما في الدين، بل إن الدعوة تكون من العالم والجاهل، وخاصة فيما علم من الدين بالضرورة، فالمسلمون جميعهم من عالم وجاهل يعرفون أركان الإسلام من شهادة وصلاة و زكاة وصيام وحج، فيجب عليهم الإرشاد والتوجيه إلى فعل هذه الواجبات والحث على ترك المهلكات، فكل واحد مسؤول عن رعيته لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).[6]

وعلى هذا فإن الدعوة واجبة على كل شخص،  كل في مجاله فالمعلم في مدرسته، والطبيب في مستشفاه، والعسكري في ميدانه، والمسؤول في مؤسسته، وذلك بأن يكونوا مثلا يحتذى به في الإخلاص وشحذ الهمم  وأداء الأمانة والعدل، لأن الأفعال تكون أكثر تأثيرا وأثرا على الناس من الوعظ، وعلى المسلمين جميعا أن يكون كلامهم مطابقا لأفعالهم فكم من أناس تأثروا بهذا الدين من خلال سلوك المسلمين ودخلوا الى دين أفواجا.

 خطورة ترك الدعوة:

عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه)، وعندما يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم فالأمر أمر عظيم؛ مع أننا نصدقه، لكنه يريد أن يغرس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينا، فيقسم على أهمية هذا الأمر فيقول: إما هكذا وإما هكذا، أي إما أن تدعوا إلى الله عز وجل، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وإما أن يبعث الله عز وجل عليكم عذاباً منه، وبعد ذلك: (ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)، فقد يكون هذا الأمر هو المشكلة المعيقة لإجابة دعوة كثير من الناس الذين يدعون، فكثير منا للأسف يعبد ربنا سبحانه وتعالى لكن ليس لهم شأن بالناس، فجاره يكون بعيداً عن الله وليس له شأن به، وزميله في العمل بعيد عن ربنا وليس له شأن به، بل أحيانا يرى زوجته وأولاده وأمه وأباه وإخوانه بعيدين عن ربنا عز وجل، ومع ذلك فليس له شأن بهم! فهل أنت تعيش لنفسك فقط؟! إن هذه ليست حياة اختبار، وما استحق أن يولد من يعيش لنفسه فقط، فالصحابة كانوا يعيشون لأهل الأرض أجمعين، وليس فقط لأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم، وإخوانهم، وقبيلتهم، وعشيرتهم.[7]

إن ترك هذا الواجب أمر خطير يؤدي إلى زعزعة كيان المجتمع ومؤذن بانتشار الجهل والمفاسد والرذائل وكما أنه يؤدي إلى تعريض المجتمع الى سخط الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى: ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [سورة المائدة:78،79].

فالتخلي عن الدعوة إلى الله أمر مؤد الى هذا اللعن الوارد في الآية السابقة والعياذ بالله، وهو أيضا يسبب المهالك وظهور الأخلاقيات الفاسدة والانحطاط الخلقي، وكما نلاحظ الآن في مجتمعاتنا من ظهور الأفكار الهدامة التي تفتك في عادات المجتمع المسلم مثل النسوية والشذوذ الجنسي.

مفهوم القيم الإسلامية:

القيم جمع، مفرده: «قيمة»، و«القيمة ثمن الشـيء بالتقويـم»[8]، أي: بالتقدير، والأخلاق: جمع خلق، و«الخلق: الدين والطبع والسجية»[9]، ومعنى هذا: أن القيم الخلقية يقصد بها الطباع والسجايا والصفات التي تقدر من الناس فتجعلهم ذوي مكانة عالية وقدر كبير، فالمقصود بها الأخلاق الفاضلة والسجايا الحسنة.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق السامية والفضائل النبيلة قال الله تعالى ((لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ الأخر وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا)) [سورة الأحزاب:21] فالزموا سنته، فإنما يسلكها ويتأسى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر، وقد أثنى الله على رسوله وكفاه من ثناء في عدة مواضع من القرآن الكريم حيث قال الله عزوجل في كتابه ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [سورة القلم:4].

فعلى المسلمين أن يكونوا فرسانا يحملون راية الحق فهذا ما تحتاجه الأمّة اليوم، ويحتاجه العالم، وإن عدم استخدام السيوف والأحصنة لا يعني عدم وجود الفروسية في زماننا هذا، بل الفروسية قبل كل شيء أخلاق وقيم، وغيرة تنتفض بأصحابها للتصدي لقوى الباطل.

فـ”من آثار الأخلاق الإسلامية المباركة على الدعوة، انتشارها في نواحي الأرض، وقبول الناس لها، لما يرون من أخلاق المسلمين الحسنة التي يتحلون بها في تعاملهم مع غيرهم، سواء أكانوا تجارا، أم طلبة علم، أم مجاهدين في سبيل الله، وذلك حين كان المسلمون مُثُلا تتحرك، وقيما إيمانية تسعى في الأرض، ويسعى نورها بين أيديها وبأيمانها”[10].

كيف تدعم الدعوة القيم الأخلاقية:

أرشد الدين الإسلامي إلى فعل الفضائل، ونهى عن الرذائل، وجعل سعادة الدنيا والآخرة جزاءً لمن التزم بذلك وقام به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [سورةالنحل:90]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سورة النحل :97] والعمل الصالح يشمل الالتزام بتشريعات الإسلام وآدابه وأخلاقياته.

فالدعوة الإسلامية دعوة منسجمة مع نفسها متناغمة مع مكوناتها، ولكي نعرف كيف دعمت الأخلاق النبيلة وأثرت في البشر تأثيرا سحريا، فلا بد من التفكر الدقيق كيف تحققت هذه الأخلاق في المجتمعات المسلمة السابقة وجعلتها أمة تشار إليها بالبنان، ولهذا فيجب على هذه الأمة أن تفيق من سباتها العميق وتنظر إلى الذي جعلها متأخرة عن غيرها بعدما كانت متقدمة، يقول بيجي روديك: “وتعاليم الإسلام الخُلُقية تحقق امتزاجا تاما بين المثالية والواقعية.. وليس في الإسلام أي فصل بين الدين والسياسة، فمن واجب الدولة المسلمة، أن تراعي واجباتها الخُلقية المفروضة إلى الأفراد، فالسياسة في الإسلام أخلاق أولا وقبل كل شيء”.[11]

وفي جانب المبادئ الإسلامية التي تدعم القيم الأخلاقية أذكّر بعدة أمور، ينبغي معرفتها:

أولا: الدعوة إلى ترسيخ الإيمان في القلوب:

وذلك لأن الإيمان بالله “هو ما وقر بالقلب وصدقه العمل” كما عرفه بعض العلماء، فحينئذ عندما يكون الإيمان نابعا عن قناعة ورضا فغالبا ما يثبت ولا يتغير، وسوف أدلل على هذا بمثال إسلام أهل عمان طوعا هو نتيجة للقناعة النابعة من القلب وخير دليل على ذلك عندما توفي صلى الله وسلم كثرت الردة عن الدين؛ لأن الإيمان لدى هؤلاء المرتدين  لم يصل الى درجة الرسوخ، غير أن أهل عمان لم يرتدوا عن الدين وإنما ساعدوا على محاربة هؤلاء المرتدين، وساعدوا أيضا على نشر الإسلام في كل أصقاع العالم.

ونجد هذا جليا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن عندما بدأت بعثته في العهد المكي ركز بدايته على ترسيخ الإيمان والعقيدة الصحيحة ومعرفة أركان الإيمان؟، والخوف من عقابه تعالى والرجاء لثوابه سيسهل الكثير من الأمور منها سرعة الاستجابة إلى تنفيذ المأمور بتنفيذه، والانتهاء عن المنهي عنه.

فـ”الإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه بحسب تفاقم الشر أو تفاهته”.[12] فالإيمان ليس كلمات تنطق وإنما عقيدة راسخة في القلب تترجم بعد ذلك الى عمل.

ثانيا: دور العبادات بعد ترسيخ الإيمان:

وقد يتساءل البعض عن علاقة العبادات بالأخلاق، والحق أن العلاقة بينهما وثيقة جدا متمثلة في تهذيب النفوس وتربيتها على الخير ” فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، فقال: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) [العنكبوت/45]، فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)) [التوبة/103]”[13]وكذلك بقية العبادات.

ثالثا: سن الشرائع والأحكام وتطبيقها:

فهذه الشرائع والأحكام ليست بدون حكمة وإنما وضعت لغاية سامية، ووضعت لتربية نفوس المسلمين على الالتزام، وحفظا لمقاصد الشريعة التي بينها العلماء “فالإسلام عندما يحـرم الزنا فإنه بذلك يحافظ على العفة والعرض والنسب، وعندما يحرم السرقة، فإنه بذلك يثبت خلق الأمانة ويصون ممتلكات الناس، وعندما يحرم الربا فإنه يحض على التعاون والتراحم وينهى عن الاستقلال، وأخذ أموال الناس بغير حق، وهكذا، فالتشريعات إنما هـي كالدرع الواقي الذي يقي الأخلاق من أي محاولة اعتداء أو خدش “[14].

رابعا: التطبيق العملي للأخلاق:

وهنا يكمن دور الدعاة بأن يكونوا قدوة لغيرهم في تطبيق الأخلاق والالتزام بها فهم أولى بتطبيقها، وعليهم أن يكون قولهم مطابقا لفعلهم حتى لا يكون حالهم كحال بني إسرائيل عندما أنكر الله فعلهم فقال((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ))[سورة البقرة:44].وقد قال شيخنا بدر الدين الخليلي في تفسير هذه الآية” وهذا التوبيخ وإن يكن خاصا ببني إسرائيل، وإذا ما اقتصر على النظر إلى ألفاظه؛ فهو شـامل مـن حيث المعنى لكل من مشـى على نهجهم واقتفى أثرهـم… إذ ليس المقصود مـن هذا التقريـع أو نحوه ممـا يوجهه إلى أي طائفة من الناس هجـاء تلك الطائفة، وإنما مقصودة تبصير الكل بمسـالك السلامة والخطر، وطرائق الهدى والضلال”[15].

وما أحسن ما قاله الشاعر محمد إقبال: “إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين. ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه. فليس مقامه مقام التقليد والاتباع إن مقامه مقام الإمامة، والقيادة، ومقام الإرشاد، والتوجيه. ومقام الآمر الناهي. وإذا تنكر له الزمام، وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله. ويظل في صراع معه وعراك، حتى يقضي الله في أمره. إن الخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والاعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والأقزام. أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد”.

خامسا: التربية على الأخلاق:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ومن هنا فإن تقدّم الأمم والشعوب مرتبط بعِظم الأخلاق وعلو قامتها، ولا شكّ أن استمرار التربية الأخلاقية ضرورة تمليها ظروف العصر المتغيرة، فضلًا عن أنها فريضة شرعية، وفطرة إنسانية.

وإذا أردت أن تدرك حجم الأهمية والأثر للتربية الأخلاقية في حياتنا فانظر: كم من أمّة وأسرة وعائلة ساءت أخلاقها، وفسدت قيمها. أين هي الآن؟ زمنًا ومكانًا وأثرًا.

فأين أمّة فرعون، وهامان، وغير هؤلاء ممن ساءت أخلاقهم، وتدنّست فطرتهم، قد بادوا وهلكوا وما استقرّ لهم مكان لا في بلد ولا في قلب إنسان.

فالأخلاق لا تكتسب في ليلة وضحاها، وإنما تأتي من التربية والتزكية فالرسول صلى الله عليه وسلم استمر طول حياته في تربية أصحابه؛ فعندئذ نشأ جيلا مشرئب بعادات الإسلام وأخلاقه نابذا أخلاق الجاهلية الأولى.

والتربية لا بد من أن تكون في الصغر، لأن التربية في الصغر تكون سهلة مقارنة بالتربية في الكبر، فالتربية في الصغر مثل عجينة الفخار تستطيع تشكيلها بسهولة وأيضا مثل الغصن الطري المعوج تستطيع تقويمه هكذا تكون التربية في الصغر، ولكن عندما يصبح الغصن قويا صلبا فلا تستطيع تحويله وتقويمه ولذلك قيل بأن التربية في الكبر مثل النقش على البحر.

سادسا: دور مؤسسات المجتمع:

  • الــبـــيـــت:

فدور البيت يكون مهما جدا لأنه المحطة الأولى التي ينشأ منها الطفل، وأيضا هو المكان الذي يقضي معظم وقته فيه، لذلك وجب على كل أسرة أن تربي أولادها على حب الله وعلى غرس الفضائل وترك الرذائل، فالطفل مثل الصفحة البيضاء يؤثر عليه كل ما يشاهده من والديه وبما يأمراه أو ينهياه عنه.

  • الــمـــسجـــد:

وللمسجد دور مهم لأنه مكان يجتمع فيه الناس كل يوم خمس مرات. فعلى الدعاة والعلماء أن يقيموا الحلقات الدينية، فالمسجد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس مكان للصلاة فحسب وإنما للتعليم والنصح، بل وقد كانت مكانا لانطلاق الفتوحات الإسلامية وهو الذي تخرج منه الكثير من الدعاة والعلماء والصحابة، ولكن ما نراه في عصرنا هذا أن الناس قصروا دور المسجد على أداء الصلوات فحسب. بل ينبغي أن يكون المسجد منارة لبث العلم والأخلاق.

  • الــمــدرســـة:

للمدرسة دور بالغ الأهمية في تلقين الطلبة المعارف والمعلومات والتي تأخذ بيدهم إلى التحلي بالأخلاق والسير على النهج القويم متمثلا ذلك في وضع المناهج التي تعود بالنفع عليهم دنيا وأخرى، وأيضا في وضع القدوة الصالحة لهؤلاء الطلبة فيجب على المعلم أن يكون قدوة لطلبته في الخلق الرفيع، والالتزام، والإخلاص، والعدل.

  • الإعــلام:

وأقصد بالإعلام هنا هي شبكة المعلومات العالمية ومواقع التواصل وقنوات البث أن تستغل في خدمة الدعوة ونشر الأخلاق؛ فإن لم توظف في الخير فإنها ستكون قوة للهدم أكثر من البناء وكثيرا ما تكون مضرتها عظمى على المجتمع.

لتحميل المقال اضعط هنا


[1] المعجم الوسيط، ص286، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر.

[2] البيانوني: المدخل الى علم الدعوة، ص14

[3] الزمخشري، الكشاف ،1/425

[4] الخليلي، إعادة صياغة الأمة ص184

[5] نفس المرجع السابق ((والحصر حاصل بتعريف المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهم، وكلّ أحد مطالب بأن يحرص على الفلاح، وأن يسعى إليه جهدا)).

[6] متفق عليه.

[7] السرجاني، كتاب كن صحابيا، ص4، المكتبة الشاملة.

[8] ابن منظور، لسان العرب،12مادة: قوم /225

[9] المرجع السابق مادة: خلق5/140.

[10] أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: د. علي جريشة ومحمد شريف الزيبق ص 219، دار الاعتصام

[11] رجال ونساء أسلموا: عرفات كامل العشي 6/114، دار القلم الكويت، ط:3

[12] الغزالي، خلق المسلم، ص10

[13] المرجع السابق

[14] اليحمدي، بدر، مصادر النقد الأدبي القديم ،2/553

[15] الخليلي، الشيخ أحمد، جواهر التفسير،3/219

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.2 ( 5 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى