تأمــــلات في بعض مقاصــــــــــد ســـــورة البقـــــرة

أحمـــد بن نــاصر بن محمـــد الحــارثي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
فهذه خواطر وتأملات في بعض المقاصد التي رعتها السور القرآنية، نسأل الله أن يلهمنا معانيها ورشدها ويوفقنا للعمل بمقتضاها .
والبداية مع السورة الوارفة الظلال، الممتدة الأغصان، الكبيرة نظمًا، العميقة معنىً، الجليلةِ مقصدًا، أول الزهراوين ،اللتين ” تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ “[1]
وفي الآنِ الذي تتدافع فيه الأمم اليوم لتصنف نفسها أمة وشعبا ودولة مختارة ، تُجلي لنا سورة البقرة أن سنة الاصطفاء الإلاهي التي وقعت يوما ما على بني إسرائيل { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }؛ إنما كانت نتيجة استمساكٍ بالوحي الرباني، وحملٍ للأمانة، ورفعٍ لراية التوحيد، ودفاعٍ عنها، إلا إنهم حينما أفلتوا حبل الله، ومردوا على التحايل على أمر ربهم، وإيفت نفوسهم بالإثم والعدوان، و{ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ } ؛ مُسِخوا ولعنوا وأزاغ الله قلوبهم، ولن يزال العالمُ يرى منهم كل شر وخِسَّةٍ ورذيلة؛ فأصبح المقربون بالأمس مطرودون اليوم ، وهي سنة ربانية ماضية، وقاعدة عامة ليست منحازة إلى عرق أو لون أو طائفة، ولا تحابي أحدا على أحد، وما أمتنا منها ببعيد.
ولا يمكن لعين متدبرة لسورة البقرة أن تخطئ في رؤية هذا المقصد العظيم، الذي دعت إليه بالتصريح تارة وبالتلويح تارات، ودارت حول محورِه رحى براهينها وقصصها وأمثالها، إقامة للدليل على أن الكتاب هدى ليُتَّبَع في كل حال[2]، ويُتلقى حق التلقي، وأن معاقد النهوض والانتصار في القيام بأمانة الله، والاستمساك بحبل الله، والتسليم لأمر الله .
وفيها إشارة إلى أن هذا الكتابَ فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل -عليهم السلام- يرشدنا في كل أمر يحزبنا، وشأنٍ ينوبُنا، إلى صوابِ المخرجِ منه، فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد[3].
وقد ابتدأ نزول آيات سورة البقرة بداية العهد المدني بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، “وظلت السورة مفتوحة يضم إليها النبيُّ الكريمُ ما شاء اللهُ أن يضيفه إليها من وحي يتصل بموضوعها ، ومعروفٌ أن آخر آية نزلت[4] من القرآن كله هي قوله تعالى [وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ] [البقرة: 281] وقد أمر النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بضمها إلى الآيات التي تتحدث عن الربا في خواتيم سورة البقرة “[5]
فلا عجب أن تشتمل آياتها على أركان الإسلام الخمسة، وجملة من القضايا الاجتماعية والمالية وقواعد المعاملات ، لأن الدين نظامٌ ومنهجٌ يشمل كل تفاصيل حياة الناس وعلاقتهم بربهم وبما حولهم من الموجودات، وفي ذلك إشارة إلى أن أخذَ الدين وتلقي هده لابد أن يشمل كل شؤون الحياة وليس في جانب دون آخر ، [أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ] [البقرة: 85]
ولنا أن نستنطق هذا المقصد العظيم في السورة الكريمة باختصار شديد من خلال النقاط الآتية :
أولا: مقدمة وخاتمة السورة:
افتتح الله تعالى السورة بقوله [الٓمٓ () ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ] [البقرة: 1-2] والإشارة في مطلع السورة واضحة جلية بأن هذا الكتاب يتضمن هداية البشرية التي ينبغي أن تؤخذ بقوة، كما قال الله مخاطبا أحد أنبيائه [يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ ] [مريم: 12] لأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو [لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ ] [البقرة: 2] لا يتخلله أي خطأ أو شذوذ، وهو منسجم مع بعضه البعض كانسجام سائر موجودات الكون ، وهو هدى للمتقين الذين يؤمنون به شهادة وغيبا ، عكس المنافقين الذين يدعون الإيمان شهادة وينكرون غيبا ، والمشركين الذين يجحدون شهادة وغيبا ، وقد ذمهم القرآن لعدم اهتدائهم بنوره وهديه وجعلهم كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدي الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى؟[6]
وفي ختام السورة [ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ] [البقرة: 285] ثناء على النبي الكريم والأمة المحمدية بأنها لن تزال حاملة لشعلة الإيمان الحق ، ثناءً يحمل من التشريف ما يضاهيه من التكليف ، بغية أن تبقى وتثبت على منهج الرشاد ، القائم على العض بالنواجذ على هذا الدين وتلقي القرآن والوحي الرباني بالتسليم [كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ] [البقرة: 285]
ثانيا: علاقة اسم السورة بالمقصد:
اسم السورة يشير إلى رمزية قصة البقرة التي أخفق فيها بنو إسرائيل في تقدير الأمر الرباني والتعامل معه بمنطق الجدل والكبر وعدم التسليم والمماطلة والتحايل على أمر الله ، فكانت عاقبة تعاليهم على هدى الله أن بلغت قلوبهم من القسوة ما يفوق الحجارة الصلدة ، وهذه عقوبة دنيوية معجلة تقودهم إلى العقاب الأخروي الأبدي.
ثالثا: تصريحات وتلميحات السورة للمقصد العام :
اشتملت السورة الكريمة على آيات بينات تشير صراحة وتلميحا إلى هذ المقصد العام من مقاصدها كما في قول الله تعالى :
- [أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ][البقرة: 44] والاستفهام إنكاري يفيد التوبيخ وذم خصلة التلاوة دون عمل بمضامينه.
- [وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ][البقرة: 113]
- [ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ][البقرة: 121] والآيات تشير إلى أن تلاوة الكتاب المأمور بها هي المقترنة بالعمل به وتلقيه حق التلقي وأخذه بخضوع القلب وانقياد الجوارح.
رابعا: من قَصص السورة:
قصة آدم : ضرب الله فيها مثلين ؛ أحدهما بحال الشيطان حينما أعرض عن الهدى ولم يتلق الأمر الرباني بالتسليم والطاعة فكان مصيره البوار ، وثانيهما حال آدم الذي قدر الله عليه وعلى ذريته الخطأ ،”كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” ولكنه تاب وأناب ، فتلقى كلمات من ربه فتاب عليه وهدى ، [فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ] [البقرة: 37] وكان مثالا في منهج التمسك والتلقي لهدى الله بالإذعان التام .
قصة البقرة : وفيها يضرب الله لنا مثلا في القوم الذين تنكبوا عن الصراط واتبعوا أهواءهم مع كل المنن التي أعطاهم الله إياها ومع رسولهم الذي حاول جاهدا إقناعهم ودعوتهم لقبول هدى الحق عز وجل، وذلك جلي واضح حينما خاطبهم بأن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، والتصريح بأن مصدر الأمر هو الله ترغيبا لهم لينقادوا له ، ولكنهم لاجوا وجادلوا فشدد الله عليهم ، وفي الأخير وإن كانوا ذبحوها إلا أن الله وصفهم بقوله [وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ] [البقرة: 71] من شدة مماطلتهم واستهتارهم بالأمر الرباني .
قصة طالوت : وفيها يحكي لنا الله -عز وجل- حال أكثر الناس وعدم يقينهم بقدرة الله وقهره وعدم تلقيهم للأمر الرباني بالتسليم والانقياد ، فهم طلبوا أن يكون لهم ملك يجمع شملهم ويوحد شتاتهم ، فأخبرهم نبيهم بأن الله – وليس غيره – اختار لكم طالوت ملكا ، فحكموا عقولهم القاصرة وقدموها على حكمة الله وعلمه، ورفضوا اختيار الله وخيرته لهم ، ومن رحمة الله بهم أن أراهم آيات حسية ليسلموا وينقادوا، ومع ذلك لما خرجوا مع طالوت سقطوا في الامتحانات المرة تلو الأخرى حتى ما بقي منهم إلا فئة قليلة تلقت الهدى والأمر الرباني بالتسليم والانقياد موقنة بأن خوارزميات النجاح والنصر إنما هي في التمسك بحبل الله وحده [قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ] [البقرة: 249]
وأخيرا أختم بأنه لا مكان لأمة الإسلام على خريطة العزة والسؤدد إلا أن يثوبوا إلى دينهم، ويتمسكوا بتعاليم ربهم، ويقولوا بلسان حالهم قبل مقالهم :{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285]
{ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة :286]
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل القرآن وسورة البقرة
[2] «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، البقاعي» (2/ 9):
[3] «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، البقاعي» (2/ 10):
[4] على قول .
[5] نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم ، محمد الغزالي صـ 12
[6] «تفسير المراغي» (1/ 58)