اللغة

المحكمة اللغوية بين مصطفى الرافعي وعباس العقاد (1)

رائد بن ناصر بن خلفان العامري           

الرافعي والعقاد أديبان كبيران كانت بينهما معارك أدبية، “وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يُظن بأحدهما أنه يجهل قيمة الآخر فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوَّة تعارضُ قوة، ورأيٌّ يصارع رأيا”[1]، فأخذ كل منهما على صاحبه وخطَّأه في مسائل في اللغة والأدب، فرأينا عرض هذه المسائل ووضعها في ميزان اللغة والنحو، فكانت هذه المحكمة اللغوية التي تنظر في ادعاءاتهما، ولاسيما مآخذ الرافعي في كتابه الساخر(على السفود) الذي نقد فيه شعر العقاد، ولسنا في هذه المحكمة اللغوية مع أحد منهما ولا عليه، وإنما غايتنا أن نفصل بينهما بما نحسبه الحق في هذه المسائل.

ولكي تكون على صورة محكمة وضعتُ قاضيا ينظر في المسائل، وأضفتُ ما يؤيد رأي كل منهما على لسان محاميَين لهما، فما نسبتُه إلى القاضي أو المحاميَين فهو من كلامي، وأما ما نسبتُه إلى الرافعي والعقاد فهو لهما، نقلتُه من كتُبهما ومقالاتهما مع تبيين مصدر كل قول. فإليكم هذه المحكمة:

  • ادعى الرافعي على العقاد أنه لم ينصب التمييز في قوله:

في كلِّ رَوْضٍ قُرىً للزهْرِ يعمُرُها          يا حَبَّـــذا هـي أبيــاتٌ وســــكانُ

زعم الرافعي أن العقاد لم ينصب (أبيات وسكان) على التمييز، فقال: “ولا أدل على جهل العقاد بالنحو والعربية من هذا فإن (أبيات) و(سكان) هنا في هذا التركيب يجب أن تكون منصوبة على التمييز، وقد جعلها مرفوعة لأنه جاهل جهلا صريحا”[2].

قال محامي العقاد مدافعا: أما الجاهل فنحن الذين نقرر من يكون، لأننا نحن -وتلك عادتنا- الذين ينزعون عباءة العلم عن المتسترين بالعباءات زورا، وإن تعجب فاعجب من هذا الرافعي وجرأته على نقد العقاد، فإنه أجرأ من خاصي خصاف[3]، وما يزيد على جرأته شيء غير جهالته، وأما جواب نقده فنقول: الاسم النكرة بعد المخصوص في نحو قول القائل: “حبذا النحو علما”، منصوب، فـ(النحو) في المثال هو المخصوص بالمدح، و(علمًا) اسم نكرة منصوب بعـد المخصوص، وقد اختلف التشريعات النحوية في إعرابه فقيل: تمييز مطلقا، وقيل: حال مطلقا، وقيل: إن كان مشتقا فهو حال، وإن كان جامدا فهو تمييز، “والحق أنه بحسب المعنى، فقد يكون تمييزا، وقد يكون حالا، وليس للجمود والاشتقاق دخل في ذلك”[4]، على أن الاسم النكرة قد يتقدم على المخصوص بالمدح، ومنه قول الشاعر([5]):

ألا حبذا قوما سليم فإنهم     وفوا إذ تواصوا بالإعانة والصبر

وإذا نظرنا إلى بيت العقاد وجدنا ادعاء الرافعي صحيحا إذا ما قلنا: إن المخصوص بالمدح هو الضمير (هي)، فكان على العقاد عندئذ أن ينصب أبياتا على التمييز، ولكن– مع ذلك – نرى أن ادعاء الرافعي لا ينهض لإدانة موكلنا العقاد لأن قوله: (هي أبيات وسكان) جملة تامة (المبتدأ وخبره)، فإنه يجوز أن العقاد قد انتهى من أسلوب المدح وبدأ جملة جديدة، وهي الجملة الاسمية المكونة من المبتدأ والخبر فقال: هي أبياتٌ وسكانُ.

قاطعه محامي الرافعي فقال: توجيهك لبيت العقاد ضعيف ركيك لأنك جعلت كلام العقاد ناقصا، فإنك بزعمك أنَّ (هي أبيات وسكان) جملةٌ مستقلة جعلتَ أسلوب المدح ناقصا، فكأن العقاد قال: يا حبذا، ثم سكت، فلا مخصوص بالمدح ولا تمييز! إن اللغة سماع وقياس وليست تسويغات متكلفة للتراكيب السمجة والعبارات الغثة.

محامي العقاد: لو أنك أمهلتني حتى أكمل لعلمت أنك عجول، وعلمتَ أننا نستند على السماع والقياس، وأن موكلك الرافعي يعترض على ما ليس له وجه اعتراض، لأنه يجوز حسب القوانين النحوية استعمالات أخرى في أسلوب المدح بـ(حبذا)، وهي مسموعة في عصور الاحتجاج، كالاستغناء عن المخصوص بالمدح “لظهور معناه، فمن الاستغناء عنه قول بعض الأنصار رضي الله عنهم:

باسـمِ الإلـهِ وبـه بَـدينا

ولو عَبدْنا غيرَه شَقينا

فـحبّـذا ربّا وحَبّ دِينا

فاستغنى عنه هنا بذكر التمييز. وقد يستغنى عنه دون تمييز”[6] كما في بيت العقاد، ومن الشواهد المسموعة في ذلك قول الحماسي: [من الطويل]

ألا حبذا لولا الحياء وربما         منحت الهوى من ليس بالمتقارب

أي حبذا حالي معك، فلا شيء يمنع – إذن – من حمل بيت العقاد على هذا، أي كأن العقاد قال يا حبذا ثم سكت، فبدأ بالجملة الجديدة (هي أبيات وسكان)، فاستغنى العقاد عن المخصوص دون تمييز، ومثل هذا ورد أيضا في أمثلة النحويين فقالوا: “رأيت زيدا وحبذا. أي: وحبذا هو”[7].

فأبى محامي الرافعي حجة محامي العقاد وقال: وهل كان العقاد يقصد الاستغناء عن المخصوص دون تمييز حتى يُحمل قوله على قول الحماسي في عصور الاحتجاج؟! وأين بيت العقاد من بيت الحماسي بل أين عجمة العقاد ورطانته من فصاحة الحماسي وبلاغته، فالحماسي “يريد: ألا حبذا حالتي معك، يشير إلى أن هواه إياها، وزيارته لها، وما ترتب على ذلك في قوله:

هَويْتُكِ ‌حَتَّى ‌كَادَ ‌يَقْتُلُنِي الهَوَى      وَزُرْتُكِ حَتَّى لامَنِيْ كلُّ ‌صاحِبِ

وحتى رَأَى مِنِّي أَعَادِيكِ رِقَّةً       عليكِ ولولا أنتِ ما لانَ جَانِبِي”[8]

وإنما قول العقاد في استعماله (حبذا) ووجوب نصب (أبيات وسكان) كقول عامر بن الطفيل[9]:

وَأَبو أُبَيٍّ ما مُنيتُ بِمِثلِهِ       يا ‌حَبَّذا ‌هُوَ مُمسِياً وَنَهارا

فانظر كيف نصب (ممسيا)، وانظر كيف حمَلَ الجهلُ بالنحو العقادَ على رفع (أبياتٌ وسكان)، ثم كيف تحمل بيت العقاد:

في كلِّ رَوْضٍ قُرىً للزهْرِ يعمُرُها          يا حَبَّـــذا هـي أبيــاتٌ وســــكانُ

على مثال النحويين: رأيت زيدا وحبذا والتقدير فيه: وحبذا هو؟ إنك إن فعلت ذلك كان التقدير في كلام العقاد: يا حبذا هي مع أن العقاد قال: هي أبيات وسكان، فكأنه قال مع هذا التقدير: يا حبذا هي هي أبيات وسكان، وهذا تعبير غث يمجُّه العقل والذوق.

محامي العقاد: سيكون في التقدير توكيد لفظي هي هي.

محامي الرافعي: لقد نقضت حجتك بزعمك أن هي هي توكيد لفظي لأنك تزعم أن العقاد بدأ جملة جديدة تقديرها: (هي أبيات وسكان) فكيف يكون المبتدأ توكيدا لفظيا؟ ثم كيف يكون لفظيا من غير تلفظ ولا وجود له إلا في جمجمتك؟! أرأيت كيف يفضي بك الجهل بأساليب العربية إلى التخليط والترقيع، كلما شرعت في رد مآخذ الرافعي ازداد بيت العقاد تضعضعا وضعفا، وبان من عيبه ما كان مطويا مندسا فكأن الشاعر يعني أبيات العقاد بقوله:

وإن حاولوا أن يشعبوها فإنها     على الشّعـب لا تـزداد ‌إلّا ‌تداعـيا

محامي العقاد: ويجوز أن يكون قول العقاد: أبيات خبرا لمبتدأ محذوف، وحذْفُ المبتدأ شائع معروف، والتقدير هي أبيات وسكان، أفتزعم أن هذا تقدير يمجه العقل والذوق، ومتى تهيأ لك العقل والذوق؟!

محامي الرافعي: وكيف أبيِّن لك صحة الذوق وفساده؟ وليس عندك من الأدوات ما يعينك على الفهم والإدراك، بل ليس أدل على فساد ذوقك وسقمه من قبولك أن تكون محاميا عن شويعر متشاعر كالعقاد مع ما في شعره من ركاكة ظاهرة وعلل وافرة.

القاضي: بيت العقاد فيه ركاكة وضعف، ولكن إدانته متعذرة لأن حذف المخصوص بالمدح والتمييز معًا قد ورد في الشعر القديم، بل ورد أيضا في أمثلة القوانين النحوية كما ذكر محامي العقاد، وبيت العقاد يجوز أن يحمل على أنه لا مخصوص فيه ولا تمييز، كأنه قال: يا حبذا فسكت ثم قال هي أبيات وسكان، ولك أن تجعل التقدير يا حبذا هي ثم بدأ جملة جديدة محذوفة المبتدأ، وسواء أقصد العقاد ذلك أم لم يقصد فلا سبيل لتخطئته لجواز حمل البيت على الحذف، ولسنا مكلفين بالبحث عن قصده بل نحمل قول الشعراء على أحسن الوجوه الجائزة إن وجدنا لها سبيلا حتى إن بدا قصد الشاعر خلاف الصواب.

لتحميل المقال اضغط هنا

[1] جمهرة مقالات محمود شاكر، ص7.

[2] على السفود، ص73.

[3] خصاف: اسم فرس كان لرجل من باهلة فَطَلَبه منه بعض المُلُوك للفحلة فخصاه فَضرب به المثل في الجرأة على الْمُلُوك.

[4] معاني النحو: فاضل صالح السامرائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمّان، ط2، 1423هـ – 2003م، 4/265.

[5]() جلال الدين السيوطي، شرح وتحقيق: الأستاذ الدكتور عبدالعال سالم مكرم، عالم الكتب، 1421هـ -2001م، 5/49.

[6] شرح التسهيل، 3/28.

[7] المقاصد الشافية، 4/569.

[8] التذييل والتكميل، 10/ 170-171.

[9] ديوان عامر بن الطفيل، ص79.

يسعدنا تقيمك لهذا المقال

تقييم المستخدمون: 4.15 ( 2 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى