المحكمة اللغوية بين مصطفى الرافعي وعباس العقاد (3)

رائـد بن ناصـر بن خلفان العامري
وادعى الرافعي أن العقاد انتهك قوانين العروض بقوله: [من المتقارب]
كأنَّ مآقيَّ ما رُّكِّبتْ إلا لِتَـرعـاك أو تأفــلا
إذ يرى الرافعي أن هذا البيت “مكسور ينقصه حرفٌ في أول الشطر الثاني“[1] أي وقع خرم فتحولت (فعـولن) إلى (عـولن)، فأيّد محامي الرافعيَّ كلام موكله، وحكم بتخطئة العقاد فقال: صدق الرافعي في ادعائه فإن الخرم هنا لا يجوز.
قال محامي العقاد وقد جحظت عيناه: عجب عجب! ثم نظر إلى محامي الرافعي قائلا: لقد كنتَ هنا في هذه المحكمة قبل أيام معدودات، ورأيت أن القاضي أبطل ادعاء شبيها بادعاء الرافعي، وهو ادعاء محمد عبد المنعم خفاجي محقق ديوان الغشري حين زعم أن قول الشاعر الذي سأل الغشري[2]: [من المتقارب]
في غادة ذات حسن مضت …
وقع فيه خرم غير جائز إذ قال خفاجي: ” (في غا ) وزنها فعْـلن والأصل أن تكون (فعولن) ووقوع الخرم هنا لا يجوز في المتقارب”[3]، وقد رأت عيناك وسمعت أذناك رفض ادعاء محمد عبد المنعم خفاجي محقق ديوان الغشري، ورأيت أن القاضي أقـرَّ الخرم في ذلك الموضع من ديوان الغشري لأنه جائز لا يخالف قوانين العروض، أفتحسب بعد هذا أن يقر القاضي ادعاء الرافعي ويقبله ؟! والقاضي يومئذ هو القاضي اليوم، والمسألة هي المسألة! وقد رأيتَ أن ادعاء الرافعي وادعاء المحقق خفاجي متماثلان، فكلاهما ادعى منع جواز الخرم في بيت من البحر المتقارب، ألا تعلم أنك بذلك – شعرتَ أو لم تشعر – تقدح في القاضي وعدله؟ ليست المحاماة أن تكون مع موكلك حقا وباطلا، بل هي اتباع الحق وقبوله أينما كان.
محامي الرافعي: أراك تكثر التخليط وتُدخل سوادا في بياض، فارجع البصر كرتين، وإنما هما مسألتان متغايرتان، فالخرم الذي في بيت العقاد وقع في الشطر الثاني، “ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت”[4] كما يعرف ذلك أهل العروض[5]، والخرم في بيت ديوان الغشري جائز لأنه في أول البيت، ولهذا أقره القاضي خلافا للخرم في بيت العقاد لأنه في الشطر الثاني.
قال محامي العقاد: بل هما مسألتان متشابهتان قُـدَّتْ سيورُهما من أديم واحد، ولا مسوِّغ يجعل الخرم جائزا في المصراع الأول (الصدر) وغير جائز في المصراع الثاني (العجز)، واعلم أن طائفة من العروضيين أجازوا الخرم في الشطر الثاني، ولو لم يكن فيهم إلا أبو الحسن الأخفش لكفى[6]، وهو من هو في العروض، ولو لم يكن له في العروض إلا استدراكه البحر الخبب على الخليــ …
لم يكد محامي العقاد يتم جملته حتى امتقع القاضي وانتقع، وضرب بمطرقته -وهو يصرخ صرخة عظيمة- الطاولة ضربة شديدة خرقتها، وكادت نفسه تخرج مع صرخته، وإذا كلُّ الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير! حتى إذا هدأت نفس القاضي وسكن جأشه بعد مدة خاطب محامي العقاد قائلا: أيُستدرك الخبب على الخليل؟ أيُستدرك على مخترعِ الدوائر العروضية؟ أيُستدرك على الذي فـكَّ منها البحور المستعملة والمهملة بحرا بحرا؟ أيفوت الخليلَ ودوائرَه حصرُ المستعمل والمهمل وعنده نظام التقليبات؟ أيفوته وهو الذي رويت له أبيات على هذا البحر[7]؟ أيفوته وليس في دائرة المتفق إلا المتقارب والخبب؟! (أصاحٍ أنت أم سكِرٌ ثميلُ؟!) ألا تعلم أن فك الخبب أيسر من فك البحور كلها[8]؟ …
أيعجز عن قنص البغاث مَنْ يقنص الأجادل وهي في السماء؟ والله لا أوتى بمحام بعدك يزعم أن الأخفش استدرك البحر الخبب على الخليل إلا جعلته نكالا وجعلت المحاماة عليه وبالا … وهذه المسألة لا يُبحث فيها من جهة الاستدراك على الخليل بل من جهة ترك الخليل هذا البحر وإهماله… دعْ مسألة المتدارك والكلام عن البحر الخبب وأكمل دفاعك عن العقاد إن كان لديك فضل حجة.
قال محامي العقاد وهو يستجمع نفسه: نحن نعلم أن أكثر الخرم يكون في أول الصدر ولكنه قد يقع في أول عجز البيت، ولامرئ القيس بيت وقع فيه الخرم أول الشطر الثاني، وهو قوله[9]: [من المتقارب]
وعَـينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ شُقَّــتْ مآقيهـما من أُخُـرْ
فانظر كيف بدأ الشطر الثاني بـ (شقَّـت) أي (عولن)، وما جاز لامرئ القيس يجوز للعقاد.
قال محامي الرافعي: ليس في هذا الشاهد دليل لأنه يجوز أن يكون الذي روى بيت امرئ القيس أخطأ أو سها فأسقط حرفا (واوا أو فاء) من الشطر الثاني، أي أنه من خطأ الرواة، وهذا أمر قد قيل[10]! ثم إن قولك: (وما جاز لامرئ القيس يجوز للعقاد) إنما هو من رمي الكلام على عواهنه لأن ”الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه، لا يقدم عليها إلا فقيه”[11]، وأين العقاد من الفقه بالشعر؟
ثم أراد محامي الرافعي أن يهتبل ما رآه من فعل القاضي في مسألة بحر الخبب فقد علم أن للخليل عند القاضي شأنا ومكانا لا يدانيه فيه العروضيون فقال: وما أحسن أن نحتكم إلى الخليل بن أحمد ونأخذ برأيه، فقد أبى الخرم في المصراع الثاني، ورأيه هو المقدم.
قال القاضي: الخليل بن أحمد مفتاح العلوم ومصرفها، وهو الذي لا ينازعه في العربية منازع، وهو مؤسس العروض الخبير بشعر العرب، العروف بعللهم وزحافاتهم، ولو علمنا رأيه في الخرم لأخذنا به، ولكن رأيه في الخرم نقل إلينا مضطربا، فمن العروضيين من “ينقل عنه أنه يجوِّزه في أول النصف الثاني على قلة، وبعضهم ينقل فيه المنع عنه ويقول إن غيره هو الذي يجوِّز الخرم فيه، وبعضهم ينقل المنع في خرم أول العجز مطلقا عن الخليل وغيره”[12]، ومهما تكن الأقوال والراجح فيها فالخرم لا يحسن وقعه في الأذن، ونحن نحث الشعراء على اتقائه، وأما العقاد فإننا نحكم له بالبراءة لوجود الشواهد وإن ندرت، ولعل الرافعي يرى أن الشواهد التي استُشهد بها على الخرم سقط منها حرف، وكم من شاهد للخرم تجده بغير خرم في رواية أخرى[13].
******** ******** ********
وادعى الرافعيُّ أن العقاد أخطأ في صوغه أفعل التفضيل من الخلود في قوله:
ضلة للخلود نأسى عليه أخلد الخالدين فينا دعـيُّ
قال الرافعي: “(أخلد الخالدين) بيِّنة الغلط إذ لا يأتي التفضيل إلا من فعل يقبل التفاوت حتى يكون شيء أفضل من شيء، والخلود لا تفاوت فيه، وإلا فليس خلودا فهو أزل لا آخر له، ومن خلد فقد خلد، كما لا يقال: أموت الموتى. وخلود الأرض بالذكر ونحوه مجاز فيؤخذ على ظاهره، ويؤتى بالتفضيل فيه من لفظ يحتمل التفضيل كقولك: أكذب الناس في ادعاء الخلود وأبقى الناس في خلود الذكر”[14].
العقاد: “إن الخلود هو الدوام، فإذا جاز التفاوت في الدوام جاز التفاوت في الخلود، وقد جاء في الحديث الشريف: أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ … فما رأي صاحبنا في كلام النبي عليه السلام؟ أيُخطئه كما خطَّأ النحاة جميعا[15] … ليصل من ذلك إلى الحكم علينا بالخطأ في بعض الكلمات … أتراه يخرج من دينه لنخطِئ نحن في كلمة، أم يبقى فيه فيسيء إلى لغة القرآن فوق ما أساء”[16].
الرافعي: “لاحول ولا قوة إلا بالله إننا لم نكن نظن أن العقاد يصاب بهذا الخبل … من تأثير كلامنا فيه مع أننا أشفقنا عليه كثيرا ولم نستقص في بيان غلطه وسخافاته وسنرد عليه الآن بمنتهى الرفق حتى لا تذهب البقية الباقية من هذا العقل الضعيف.
فاعلم يا بني أن الحديث الشريف لم يقل: أحب الأعمال أخلدها، ولو أرادها لاستعملها، ولكن من المحال يا بني أن تأتي هذه الكلمة بهذا الاستعمال في كلام أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم لأن الدوام يا بني معناه طول الزمن، وطول الزمن يا بني أمر يتفاوت، فمن طول الزمن خمسون سنة، ومنه مئة سنة، ومنه ألف إلى آخره. أما الخلود فمعناه لغة: دوام البقاء لا الدوام فقط كما تقول يا بني أي هو دوام الدوام. وإذا أردت دليلا على قدر فهمك يا بني فأقرب الأمثلة أنك تقول: دام هذا العمل يوما ودام سنة ودام دقيقة ودام ثانية، ولكنك لا تستطيع أن تقول في مكانها: خلد دقيقة وخلد يوما.
أفهمتَ الآن يا بُنيّ؟ وهل خـفَّ عنك ما صببْتُه الآن على رأسك؟!”[17].
محامي العقاد: يجوز أن يراد بالخلود طول الزمن، ودليل ذلك أن العرب تُسمِّي الأثافيَ خوالدَ مع أنها ليست خالدة قال الشاعر المُخَبَّلُ السعدي:
إلاّ رَماداً هامِداً دَفَعَتْ عنه الرياحَ خَوالِدٌ سُحْمُ
محامي الرافعي: “الخُلُود: هو تبرّي الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكلّ ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم للأثافي: خوالد، وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها”[18]. فلا حجة للعقاد في تسمية الأثافي خوالد.
محامي العقاد: ما ذكره الرافعي في صوغ أفعل التفضيل قانون نحوي عام لا يخفى على أحد حتى إن كان ضعيفا في النحو مثل محامي الرافعي، ولكن كم من مسألة جاءت على غير ما نصت عليه القوانين النحوية في أفعل التفضيل، ففي الحديث: “فهو لما سواها أضيع”، والقانون النحوي يرى إضافة (أشد) أو نحوها فيقال أشد تضييعا، فإذا جاز في الحديث (أضيع) جاز (أخلد) في شعر العقاد.
محامي الرافعي: ما رأيت محاميا أغبى وأجهل منك في النحو. تجادل فيما لا علاقة له بالمسألة، شتان ما (أضيع) و(أخلد)، ولا يجوز حمل إحداهما على الأخرى لأن علة منع (أضيع) في التفضيل أنها من فعل غير ثلاثي، وأما (أخلد) فهي من الفعل الثلاثي (خلدَ) وإنما امتنع أفعل التفضيل منه لأن الخلود معنى غير قابل للتفاوت، فلا يقال هذا أخلد من ذاك كما لا يقال هذا أعمى من ذاك لأن العمى لا تفاوت فيه..
محامي العقاد: ما ذكرتُ (أضيع) إلا تمثيلا لما منعته القوانين النحوية مع أنه ثابت في الأحاديث النبوية بله كلام العرب، وإلا فلدينا شواهد أخرى في الشعر هي مما تزعم أنه لا تفاوت فيه صِيغت منها أفعل التفضيل، بل لدينا شواهد في كتاب الله، ومنها شاهد على مجيء (أعمى) للتفضيل، وهي التي زعمت أن (أخلد) مثلها، ألم يقل الحق سبحانه: ﴿وَمَن كَانَ فِی هَٰذِهِۦۤ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِی ٱلۡءَاخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا﴾ وردتْ (أعمى) في موضعين من الآية، والثاني منهما بمعنى التفضيل، وعلامة ذلك أن أبا عمرو أمال في قراءته الموضع الأول ولم يُمِل في الموضع الثاني، وإنما أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً، وأمَّا الثاني فقرأه غيرَ ممال فهو للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه (وأَضَلَّ) فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ (مِنْ) الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ الألف وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير[19].
محامي الرافعي: أما آن لهذا أن تغادره الفدامة والبلادة؟!، فإنه أخذ كلامي لما قلت إنه لا تفاوت في العمى، فحسب أني أعني عمى البصر! مع أن كلامي كان بيّنا لذوي البصائر وعلى طرف الثمام لأولي الأفهام أن المراد عمى البصيرة لأنه مما يصح فيه التفاوت، وليس من داع يدعو إلى توضيح الواضحات، ونعم يجوز أن يكون (أعمى) في الموضع الثاني للتفضيل لكن استدلالك بأن عدم الإمالة في قراءة أبي عمرو على أنه للتفضيل استدلال بما ليس فيه حجة، وهو مردود بإمالة أفعل مع كونها للتفضيل في غير هذا الموضع فقد “أمالوا {وَلَا أدنى مِن ذَلِكَ} مع التصريح بـ (مِنْ) فَلأَنْ يُميلوا (أَعْمى) مقدَّراً معه (مِن) أَوْلَى وأَحْرَى”[20]، أفتزعم أن (ولا أدنى من ذلك) التي قرئت بالإمالة ليست للتفضيل؟!
القاضي: ليس للعقاد في هذه المسألة وجه سائغ يُصحح استعماله (أخلد) للتفضيل، ولهذا أيدت المحكمة ادعاء الرافعي، وحكمت بتخطئة العقاد وإثبات التهمة عليه.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] على السفود، ص204.
[2] ديوان الغشري ص55.
[3] المصدر السابق، الحاشية ص55.
[4] العقد الفريد: أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، تحقيق: محمد عبد القاهر شاهين، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ – 2003م، 6/239.
[5] ينظر: المحكم والمحيط الأعظم (خ ر م).
[6] ينظر: المنصف لابن جني، ص68.
[7] ينظر: اِنباه الرواة على أنباه النحاة، 1/377.
[8] النهاية في العروض، ص130.
[9] ينظر: أمالي ابن الشجري: هبة الله بن علي بن محمد الحسني العلوي، تحقيق: محمود الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1413هـ – 1992م، 1/384.
[10] نقل ذلك إميل يعقوب عن إبراهيم أنيس ولم أجده في كتابه. ينظر: المعجم المفصل في علم العروض والقافية وفنون الشعر: إميل يعقوب ص226.
[11] العمدة في محاسن الشعر، 1/140
[12] العيون الغامزة على خبايا الرامزة: بدر الدين محمد بن أبي بكر الدماميني، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1415هـ – 1994م، ص113.
[13] أنكر باحث معاصر الخرم هنا رأسًا! ينظر: النهاية في العروض، ص94 وما بعدها.
[14] نقد ديوان (وحي الأربعين) للعقاد، مقال للرافعي في جريدة البلاغ، 19 مارس 1933م نقلا من كتاب صون القريض: عبد الرحمن قائد، ص359.
[15] خطَّأ الرافعيُ أحمد شوقي في قوله: إن رأتني تميل عني … والصواب عند الرافعي (تمل) لأنه جواب الشرط، فردَّ العقاد عليه مصححا ما قاله أحمد شوقي، ثم رد الرافعي على العقاد متمسكا بتخطئة شوقي، وردَّ ما قال به النحاة في تصحيح المسألة.
[16] نقل الرافعي رد العقاد في مقاله (نقد ديوان (وحي الأربعين) للعقاد)، المنشور في جريدة البلاغ، 23 مارس 1933م، يُنظر: صون القريض: عبد الرحمن قائد، ص379.
[17] المرجع السابق، ص380.
[18] المفردات في غريب القرآن، ص291.
[19] الدر المصون، 4/410. وهذا الرأي ذكره أبو علي الفارسي والزمخشري ونقله أبو حيان في البحر المحيط.
[20] الدر المصون، 4/410.