العقلانية: بين وهج المصطلح وضبابية المضمون

عمر بن أحمد بن حمد الخليلي
لا يشك أحد في أهمية ضبط المصطلحات والعناية بها في وصف أي ظاهرة، سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو سلوكية، ولا يخفى ما لانتقاء اللفظ على نفس السامع، فقد يمرر المضمون الخبيث باللفظ المستحسن، فلا تمجّه الآذان ولا تنكره القلوب، وما ذلك إلا لإلف اللفظ عند السامع، وكذلك الحال في وصف المضمون الحسن بقبيح الأوصاف يجعل النفس تنفر منه وإن كانت الفِطَر في الأصل جُبِلت على قبوله، ولهذا أصل في الشريعة حينما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها”[1] وما كان تغيير اسم الخمر إلا لبشاعة اللفظ في الأسماع وثقل وقعه على القلوب، مما يجعل النفس لا تكاد تدعو صاحبها إلى شربها لما انطبع في النفس من استقباحها وازدراء شاربها، ولكن حينما لبّس الشيطان على بني آدم وزيّن لهم سوء أعمالهم صارت الخمر مشروبا روحيا، وصار السكّير المعربد متحررا.
ويلخّص الشاهد البوشيخي أهمية المصطلح في نص جامع إذ يقول “الإشكال المصطلحي إشكال عظيم، لا يقدّره قدره إلا الراسخون في العلم.
وقد كان همّ النبوات، مذ آدم عليه السلام، تسمية الأشياء بأسمائها، وضبط كلمات الله عز وجل، لكيلا يعتريها تبديل أو تغيير.
والدين -مذ كان- تعريف وتثبيت لمفاهيم المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها التصور الصحيح للكون والحياة والإنسان.
وما خطوط الكفر والفسوق والعصيان إلا زوايا انحراف عن ذلك التصور لدى الإنسان.
ولو أن بني آدم أقاموا المصطلحات، وأتمّوا الكلمات، ولم يغيروا خلق الله، ودين الله لما احتاجوا إلى كل هؤلاء الرسل، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، لردّهم ردّا إلى الفطرة، وإعادتهم بعد أن عبثوا بالأسماء، إلى حاقّ الأسماء”[2]
وما جئت بهذا المثال (الخمر) للحديث عنه أصالة، ولكن ليكون مدخلا إلى مصطلح آخر راج -أو رُوّج عمدا- في قُطرنا خاصة، وهو مصطلح (العقلانية)، الذي صار يطلق على من كان يدعو إلى التحرر من قيود النص وإطلاق التشكيكات في الأحكام الشرعية[3]، وفي إطلاقه على المقصودِين إشكالات عدة يمكن أن تلخّص في الآتي:
إشكالات في أصل المصطلح:
- أن فيه اعترافا ضمنيا بأن العقل يمكن أن يخالف الشرع، وهذا طعن ضمني في الوحي، وأنه يمكن أن يأتي فيه ما يتعارض مع العقول، مع أنّ المسلمين يقطعون بأن الوحي لا يأتي بمحالات العقول، وإن كان قد يأتي بمحاراتها[4]
- أننا لا نجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا قد ضل بسبب عقله؛ وإنما يكون الضلال في الذين لا يتفكرون، ولا يتدبرون، والذين على قلوبهم أقفالها، وإنما أصحاب العقول وأولو الألباب هم المهتدون المستقيمون على شرع الله تعالى، بل نجد في الوحي إعلاءً من شأن الذين يعقلون، فقد تكررت مفردة (العقل) بمشتقاتها في القرآن الكريم حتى بلغ عددها 49 مرة[5]
- أن هناك فرقا بين العقل والهوى، وهؤلاء الذين اصطُلح عليهم بهذا المصطلح هم أهل أهواء، وليسوا ممن يتّبعون العقل، فالعقل يقود إلى اتباع الوحي، ويذعن له بالتصديق، ولكنّ الذي يتخذ إلهه هواه هو الذي يضل عن الصراط المستقيم ويدعو للانحلال من ربقة التعاليم الشرعية، ونقض الأحكام المجمع عليها والتشكيك فيها.
- أن في اللفظ فتنة للناس، فالعقل والعلم يحب الانتساب إليهما كل أحد، ولو كان أجهل الناس وأبعدهم عن العقل، ولذلك قد يروج على الناس فكر تحت شعار مضلل، كما راجت الشيوعية الحمراء في عمان قبل خمسين سنة تحت شعار الثورة على الظلم، والسعي لإقامة دولة عدل، حتى بان عوار ذلك الفكر واتضح أنه حية رقطاء وإن لان ملمسها.[6]
إشكالات في توسيع دلالة اللفظ:
- أنه يدخل جميع المنحرفين فكريّا في دائرة واحدة، فيكثُر بذلك سوادهم، بينما لو كان كل انحراف يعدّ فرقة على حدة لتبيّن أن القوم ليسوا بتلك الكثرة.
- أنه يصعّب توصيف الظاهرة، فلكل واحد من القوم توجّه ومسلك، بل لا يبالغ من يقول إن لكل واحد منهم توجهات ومسالك قددا، فترى الواحد يقول بالقول وينقضه غدا دون تصريح منه بالتراجع عن الرأي السابق، وكل هذا دون توضيح لمعالم منهجه ولا طرق التلقي والاستدلال عنده، بل إن منهم من لو تتبعته لم تجد له نتاجا إلا تشكيكات صبيانية في إجماعات مستقرة، أو اعتراضات على بعض الأحكام الثابتة بالسنة المطهرة، فطريقتهم هدمية تشكيكية لا بناء واضح المعالم فيها، ولا يبعد أن يكون هذا تخفيفا على كواهلهم من تبعة النقد، إذ إن صاحب المنهج يسهل نقده، ويصعب عليه التخلص من إلزامات الخصوم، أما الذي يأتي دون أساس فلا يمكن أن تمسك عليه ما تنقده به.
- أن في هذا ظلما لطائفة منهم؛ إذ الضلال دركات، ولا يصح أن يجمع المخالف للقول الراجح أو المعتمد في مسألة مع من ينكر سنة النبي صلى الله عليه وسلّم جملة وتفصيلا، فالإنصاف يقتضي أن يُجعل كل واحد في منزلته وألا نجور عليه في أحكامنا.
- أنه يوسّع دائرة التبديع والاتهام لكل من خالف حكما سائدا أو وافق أهل الأهواء في مسألة ما، فتجد المخالف في مسألة المعازف مثلا[7] يرى نفسه قد نُقل من (خندق) الملتزمين إلى (خندق) العقلانيين، فصار هو ومنكر السنة والمستهزئ بشرع الله تعالى تجمعهم أخوّة في العقلانية!
- أنه ينفر الملتزم إذا أخطأ في بعض المسائل؛ وهذا مبني على الإشكال السابق، فحين يرى الملتزم أنه قد أُخرج من دائرة الالتزام وصار في الصف المقابل ونبذه الملتزمون نبذ النواة فستكون ردة فعله غير حميدة، إذ سيكون ناقما على الملتزمين وستؤزّه شياطين الإنس والجن إلى أن ينتقل إلى الصف الآخر نكاية بالملتزمين وإعلانا للمفاصلة بينه وبينهم.
ولئن كان إطلاق هذا المصطلح قد يستساغ في فترة زمنية ماضية لكون الظاهرة حديثة وبسيطة، فإنه الآن لا يسوغ نظرا للتعقيد الشديد الذي آلت إليه هذه الحركة -الحركة المنشقة من صف الملتزمين- والمراحل المتعاقبة التي مرت بها، والأطوار المختلفة التي تغيّرت فيها جملة من الأفكار والآراء عند القوم فيها.
ختاما؛ فإن هذا يجلّي لنا شيئا من الإشكالات في هذا المصطلح الوافد، وهذه دعوة إلى عرض كل مصطلح حادث على المحك، وتأمل مدلولاته ومدى توافقها بلفظه، لكيلا يكون في إطلاق المصطلح تزيينا لمنكر ولا دعوة لباطل، فيحمل على هذا كل مصطلح حادث جاء لتزيين معنى خبيث كـ (المثلية، والفوائد البنكية، والتسامح، والإسلاميين) وغيرها من المصطلحات الحادثة، والله المستعان وعليه التكلان.
لتحميل المقال اضغط هنا
[1] رواه الربيع في مسنده، رقم 634 ورواه ابن ماجه (4020).
[2] الشاهد البوشيخي، قول في المصطلح، مجلة دراسات مصطلحية، العدد الأول، 1422-2001، ص1
[3] ليس هذا -بطبيعة الحال- تعريفا للعقلانية، إذ إن تعريفها من العسر بمكان، لاختلاف مشارب أتباع هذا الوصف، وتباين درجاتهم، ولكنه وصف كاف للدلالة على المقصودين به.
[4] هذا التعبير بالمحالات والمحارات لابن تيمية، انظره في درء التعارض (1/147)، والفرق بينهما أن المحالات ما لا يمكن تصوّره عقلا، كاجتماع النقيضين وارتفاع الضدين، أما المحارات فمثل المعجزات والكرامات، فهذه وإن كانت ليست مما يمنعها العقل، إلا أنها ليست من معهوده.
[5] قيمة العقل في الإسلام لمحمد الصايم ص13 والفكر الإسلامي بين العقل والوحي لعبد العال مكرم ص12-13
[6] هذه الإشكالات منقولة بتعديل من مقالة أ.د جعفر شيخ إدريس التي عنونها بـ(ليسوا عقلانيين.. وإنما هم أهل أهواء)
[7] لا يُفهم من كلامي تسويغ الخلاف في مسألة سماع المعازف، فحكاية الإجماع فيه تواترت عن أهل العلم، ولكن المقصود تبيين درجات الخلاف في المسائل.