العربيــــة لغتنــا الأولـــى

حســــن بن علي بن حمـــــد العميـــري
أصبحت موجة التغريب اللغوي اليوم في البلاد العربية عاتية، وإن أردت دليلا على هذا؛ فانظر إلى التسمية في لافتات المحلات والأنشطة التجارية، واسمع إلى ما يستعمله كثير من الكبار والصغار من لغةٍ يوميةٍ هجينةٍ في حياتهم دون أي إحساس بالحرج أو تأنيب الضمير، واقرأ ما يكتبه عدد كبير من طلاب الجامعات وغيرهم في منصات التواصل الاجتماعي.. هنالك سترى العجب العجاب، وستعجب أكثر حين يستنكر بعض هؤلاء معاتبتك له -إذ يستعمل كثيرا من المفردات الأعجمية في كلامه اليومي-؛ لأنه لا يرى فيما يفعل مدعاة للعتب، ولا للانتباه أصلا، وربما وصفك بالتخلف والرجعية!!
وإن أردت مثالا حيا على هذا؛ فدونك هذه المضحكةَ المبكية: عاتبت مرة رواد أعمال عمانيين من الشباب سَمَّوا مقهى لهم باسم إنجليزي، وأشهروا منتجا لهم فاختاروا له اسما مركبا من كلمتين: إنجليزية وعربية؛ فرد عليَّ أحدهم مستغربا هذا العتاب العجيب، الذي ربما بدا له أنه قادم من أزمنة متخلفة أو من كوكب آخر: يا أخي هذا مجرد (ماركتنج).. (ماركتج)!!
وقد سجلت بإزاء هذا عددا من الخواطر في أيام متفرقة من سنوات مختلفة، وأجمعها هنا؛ لمزيد من التذكير والتنبيه، وبالله التوفيق.
(1) سنلتقي في الـ (ويكند)!
قبل أيام كنت أستمع إلى المدونة الصوتية: (فنجان)؛ وفيها ضيَّف أبو مالح الشاعرة اللبنانية سوزان تلحوق، مؤسِّسة جمعية (فعل أمر) التي تُعْنى بالحفاظ على اللغة العربية وتشجيع الشباب العربي على الاهتمام بها واستخدامها في حياتهم.
اعتذر مقدم البرنامج لضيفته في بداية الحلقة عن استخدامه اللغة الإنجليزية في رسالته لها للتنسيق بشأن الحلقة؛ قائلا: لا أعرف لماذا أرسلت لك الرسالة بالإنجليزية.. أنا عربي وأنت عربية.. لست أدري لماذا فعلت هذا!!
وهذه الـ (لا أعرف) أو الـ (لست أدري) هي نفسها التي تجعل عددا من الأشخاص بيننا (في البيت، أو الحي، أو العمل، أو السوق، وغيرها) يستخدمون في أحاديثهم مع بني جلدتهم كلمات إنجليزية من مثل:
– كان بإمكانه أن يستعين بـ (التيم/ الفريق) الذي لديه.
– سنلتقي في الـ (ويكند/ نهاية الأسبوع).
– رددت عليك في الـ (جروب/ المجموعة).
– أفضل الـ (بلاك كوفي/ القهوة السوداء) على الشاي.
– نعم.. بدأتُ (دايت/ حِمية) منذ فترة.
– لو سمحت أرسل لي (لينك/ رابط) الموضوع في الموقع.
وهذه الـ (لا أعرف) أو الـ (لست أدري) هي نفسها، أو شيء قريب منها، التي تدعو آباء وأمهات إلى الإصرار على تعليم أبنائهم الإنجليزية أو الفرنسية دون العربية. تقول ضيفة الحلقة: إن من أهلها من يعيش في دولة عربية أخرى، ولم ينطق أولاده الذين بلغوا الرابعة من العمر بكلمة عربية واحدة!
قلت لأحد الأصدقاء مرة: أفكر في المستقبل اللغوي للطفل الذي ينشأ في بيت يتكلم فيه الأب والأم على النحو الذي مثَّلْتُ له أعلاه؛ كيف ستكون لغته؟ لن يعرف المسكين إلا هذه اللغة الخليطة المضحكة المبكية، والله المستعان!
وفي السياق ذاته؛ آسفني وآلمني وجعلني أتحسر شطرا كبيرا من يومٍ اطلعتُ فيه على خطاب في إحدى المؤسسات الحكومية عندنا في عمان: مرسِلُه عماني، ومستقبِلُه عماني، ومسؤول التنسيق والتواصل بشأن الموضوع عماني، وموضوع الرسالة شأن يتعلق بالمؤسسة نفسها.. لعلكم عرفتم المؤسف في الأمر، وهو أن الخطاب مكتوب باللغة الإنجليزية!!
- لماذا بالإنجليزية؟!..
وأختم هذا الحديث بمقولات ساقها د.بندر الغميز، الأكاديمي والباحث اللغوي السعودي في إحدى حلقات (فنجان) أيضا؛ لفتت انتباهي، وأتذكرها الآن لارتباطها بهذا السياق الذي نحن فيه:
– لسنا نحن فقط من يقول إن جانبا من تعليم الإنجليزية مرتبط بأبعاد استعمارية، بل حتى الغربيون يقولون هذا. فروبرت فليبس في كتاب الهيمنة اللغوية يقول: إن تعليم اللغة الإنجليزية هو عمل استعماري بأدوات لغوية!
– سئل (بسمارك) السياسي الألماني عن أفظع حدث في القرن الثامن عشر، فأجاب بأنه اتخاذ الجالية الألمانية في أمريكا اللغة الإنجليزية لغة رسمية لهم.
– سياسي فرنسي: اللغة الفرنسية فعلت ما لم تفعله الجيوش.
– باحث تونسي: إذا أردت أن تعرف إن كان إنسان ما قد بدأ ينسلخ من هويته؛ فلاحظ مدى قبوله لغة أخرى في معاملاته اليومية التي لا تتطلب لغة غير لغته.
– الفصحى هي لغتنا المعيارية التي يستطيع العرب المعاصرون من كل الدول العربية التحدث بها، وهذا لا يوجد في دول أخرى، فالإنجليزية المعيارية في أمريكا هي لهجة شيكاغو ومتشيجان تقريبا، ولا يتقنها كل الأمريكيين.
– أصدر فرانسوا الأول أمرا ملكيا في فرنسا باعتماد لهجة باريس لغةً رسمية للمعاملات والمداولات، وذلك بهدف تأسيس بوصلة لغوية للفرنسيين.
“فاعتبروا يا أولي الأبصار”!!
(2) “بلاك ستريت” وأخواتها!
قال لي ولدي ذو السنوات التسع: نحن في (فنجا) ولسنا في مدينة أمريكية!
قالها، وقد أخبرته أن محلا جديدا كبيرا سيفتح قريبا منا. وأكثر الظن أنه قالها وقد سمع استيائي من تسمية المحل (إكسبرس لاين هايبر ماركت)، واستيائي غير مرة من تفضيل التسميات الأجنبية للمحلات، مع أن في العربية بمستوييها (الفصيح والدارج) سَعَةً لتسميات جاذبة غير مستهلكة..
يا للأسف!
تبدو الألفاظ الأجنبية مغرية لكثير من أصحاب الأعمال. قبل أيام كنت في (صحم) فرأيت مقهى أو مطعما يسمي نفسه (فايف منت برجر). وفي (عِزّ- منح) يجري التحضير لمقهى لا أذكر تسميته، ولكنها تبدو فرنسية أو إيطالية. وفي الخوض؛ دخلت مرة مطعم (فوديس) فقلت لمن كان معي: لقد أعجبتني خدمة هذا المطعم، ولكن أشعر بالضيق من مسماه الأعجمي. وفي (فنجا) أمر يوميا على طريق تغزو اللغة الإنجليزية عددا لا بأس به من لافتات المحلات فيه، وثمة أرى من التسميات (جست فريش)، و(فيش باسكت)، و(بلاك ستريت)، وغيرها من الكلمات التي استبدلها أصحاب المحلات بالكلمات العربية التي كانت الجهات الحكومية المسؤولة في بلادنا تصر عليها..
ولا تسل عن كلمتي (ماركت) و(مول) و(كافيه) التي أصبحت لها عربيَّةُ الأمرِ الواقع، فمن ينكرهما اليوم فكأنه قد أنكر معلوما من العربية بالضرورة..
كنا نفتخر بأن الجهات ذات العلاقة في بلادنا تتصرف بمسؤولية عالية تجاه هويتنا وثقافتنا، يوم أن دفعت باتجاه تسمية المحلات التجارية بالمفردات العربية، أما اليوم فثمة واقع مؤسف..
أصبحت اللافتات أعجمية بكاملها، ولم تستخدم العربية فيها إلا وسيطا لقراءة هذه المفردات.. لا، بل لقد أصبحت بعض لافتات المحلات من دون كلمة عربية في المسمى!!
انتبه د.مصطفى محمود في بعض ما كتبه إلى أن هذا نوع من الاستعمار اللغوي والغزو الثقافي الذي يراد منه (بالتراكم) إبعاد المجتمعات العربية الإسلامية عن هويتها وتاريخها وتراثها.
وإذا كان من وراء هذا عمالة وافدة أجنبية؛ فإن ما أشار إليه د.مصطفى محمود سيكون بلا شك أحد الأسباب التي قد تخطر على البال مباشرة، لكن العجيب فيما لو كان أصحاب هذه المحلات عمانيين (أبناء البلد) يتهافتون على هذه التسميات الأعجمية كما تتهافت الأكلة على قصعتها، “وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
إن على التاجر مسؤولية ثقافية أيضا. ليس التاجر الأمين هو الذين يعامل الناس بالصدق في تجارته فحسب، ولكنه الأمين أيضا على ثقافتهم (هذا على افتراض أن التاجر يعي مدلولات هذه التسميات، وقيمة التسميات التي تنتمي للمجتمع)..
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل البعض منا في عربيتهم وهويتهم.. اللهم إن اللغة العربية مغلوبة في بلادها فانتصر!
(3) “واو”.. لغة السنانير
في اليوم العالمي للغة العربية، وفي كل يوم تتكلم فيه بالعربية؛ قرر أن تتغير، أن تستبدل بـ (الإطار) كل (تاير) في السيارة، وأن تضيء بيتك بـ (المصباح) بدلا من (الليت)، وأن تدع الموافقة بـ (اوكيه) إلى أن تقول: (بإذن الله/ إن شاء الله) أو حتى فقل: (طيب/ زين/ انزين).
واعلم أن فرحتنا بـ (الإجازة الأسبوعية) ليس ينغصها علينا إلا قولك في الدلالة عليها (ويكند)، فكأنك جعلت الخميس، وهو (الونيس) -كما يقولون هذه الأيام-؛ تعيسا..
وإذا تعجبت من شيء؛ فما حاجتك إلى أن تقول (واو)، وهي لغة السنانير؟! كان في إمكانك -رعاك الله- أن تقول (يا الله/ ما شاء الله)! فلعل الله أن يُنْزِلَ البركة فيما تعجبت منه..
وإذا نَقِمْت على شيء فـ (حوقل)، أو فقل (يا إلهي)، واهجر (شت) غيرَ ملوم ولا خسران..
ولا يصدنك عن قول (وقت الشاي) -وقد أزمعت شربه وأنت في مزاج رائق، ونَشْرَ صورته في إنستاجرام- قولُ كثير من الإمعات (تي تايم) أو (شاهي تايم).
أقول قولي هذا، واعلم أن كلمة (هاتف/جوال/ نقال) منك أيها العربي ألذ في أسماعنا بدلا من (موبايل). وكذلك؛ فإنه لن يخلف ظنك (التطبيق) وقد استبدلت مسماه العربي بمسماه الإنجليزي (أبليكيشن). أؤكد لك أنه سيعمل بالكفاءة نفسها، ودمت سالما غانما..
في اليوم العالمي للغة العربية، وكل يوم؛ علينا أن نعتز بعربيتنا، نجتهد أن نكلم بها أنفسنا وأولادنا وأهلينا، نتحدث بالممكن منها مع الأجانب بيننا، ننكر منكرها ونأمر بمعروفها. وليكن أحد إنجازاتنا اليومية الصغيرة أن نستبدل ألفاظها الفصيحة بألفاظ أعجمية جلبتها إلينا تأثيرات العولمة أو ثقافة الاستهلاك أو تضاريس الزمان.
(4) العربية في حكوماتنا
بعثت لي إحدى الجهات، في مكان عملي، رسالة بريدية باللغة الإنجليزية.
اتصلتُ بالموظف الذي وردني البريد منه، وقلت له: لماذا ترسلون رسالتكم بغير العربية؟ أنت عربي، وأنا عربي، والمؤسسة التي نعمل فيها عربية، في دولة عربية، لغتها الرسمية هي العربية؟ علام تبعثون رسائلكم بالإنجليزية؟!
فأجاب، وليته لم يجب: لدينا موظفون أجانب تصلهم الرسالة نفسها!
قلت له: كان في إمكانكم أن تبعثوا بها باللغتين العربية والإنجليزية، وكان أحسن من هذا أن تجعلوا المراسلات بينكم وبين العمانيين والعرب بالعربية، فيما تجعلون الإنجليزية مقصورة على الناطقين بغير العربية، وكان أحسن من هذا كله أن يشترط على الأجنبي الذي يتولى مسؤوليات إدارية عليا أن يتحصل على مهارات القراءة والكتابة بالعربية.
شيء عجيب حقا، يخالف ما تقرر من أن لغة الدولة الرسمية هي العربية!
وأعجب من هذا أيضا؛ أن مراسلات ترد من بعض الجهات الحكومية باللغة الإنجليزية، دون مسوِّغٍ واضح.. وما عسى أن يكون هذا المبرر أن لو اتضح؟! مسؤول عماني يخاطب مسؤولا عمانيا مثله؛ ما الذي يدعوه إلى اتخاذ الإنجليزية وسيلة لذلك؟ ألا تعد هذه مخالفة صريحة لأنظمة الدولة التي هو أولى بالالتزام بها، بالنظر إلى منصبه؟
وفي السياق ذاته؛ ما زلت أعجب من شعارات لبعض هذه المؤسسات الرسمية صيغت باللغة الإنجليزية فيما جُعِلت (العربية) شرحا للشعار فحسب، أو إضافةً خجولة غير مرئية ولا مهمة في بِنْية الشعار.
ألا يعكس العربي الذي لا يبالي بكمية المفردات الإنجليزية في لغته اليومية، ولا يهتم بأن يكون توقيعه في الوثائق والمستندات الرسمية بلغته العربية؛ ألا يعكس صورة ضعيفة عن شخصه؟ ألا يسيء إلى ثقافته وحضارته؟ ألا يُمَيِّع انتماءه –على وجه من الوجوه، ولا سيما إذا كان مسؤولا رسميا منظورا إليه- إلى بلده العربي الذي يعلن في دستوره –بنص صريح- أن لغته الرسمية هي العربية؟
(5) الفستق أم “بستاشيو”
ظل (الفستق) حبيبا إلى كثير من عرب اليوم حتى وقت قريب، لا سيما أجيال الطيبين منهم.
ثم خَلَف من بعدهم (في أنفسهم، وفي غيرهم) خَلْفٌ أضاعوا الاسم الأول -الذي تقتضيه عربية اللسان والهوية والثقافة- وجاوزوه إلى تسمية أعجمية هي (بستاشيو)، معللين هذه بأنها أكثر رقيا، وأدنى إلى روح العصر، وأحب إلى بنيه، وأنهم إن جهروا -وهم في مقهى أو دكان الحلويات- بما سماه به أجدادهم وآباؤهم؛ فكأنهم أَتَوْا بالطلاسم التي لا تفهم، أو كأنما تَكَلَّمَ من أفواههم شفلحةُ وعنترةُ وعلقم!!..
ألا فاعلم -رعاك الله- أن قولك (بستاشيو) لن يزيد الكعكة أو القهوة مذاقا ألذَّ وأكرم من قولك (فستق).. بل إنك، وأنت العربي؛ بتفضيلك الأخيرة قد جمعت بين الحسنيين: لذة الطعم، ولذة النغم..
آه.. النغم!
نعم.. أليست (فستق) ألطف موقعا في الأذن من (بستاشيو)؟!.. جرب.. واختبرها كلمة وطعما!
لتحميل المقال اضغط هنا