الزادُ المُبلِّغ: من نصائح فضيلة الشيخ المربي حمود بن حميد الصوافي لطلبته

تحرير: زاهر بن سعيد بن محمد السابقي
تمرُّ أيام المركز الصيفي سريعة جدًا، شأنَ اللحظاتِ الجميلة، وسجيةَ الأوقات البهيجة، وبينما نحن على ثنيات الوداع، نتقاوى على الرحيل، ونشدُّ سيورَ القافلة، وأمتعة القلب، كان الشيخُ هناك يناولنا الزاد والدعاء، وقد اعتاد الشيخُ -حفظه الله- في آخر درس يلقيه للطلاب أن يكون درسًا أبويّا لطيفًا، وزادًا تربويًا مُبلِّغًا، فيه من مشاعر الوداع ما تدمع له العين، ومن معالم الطريق ما يهتدي به السالك.
واليوم وجدت في سحّارة هاتفي أحد تلك الدروس، وكنت عنونته:
(نصائح من القلب) … وهي كما هي، نصائح من القلب، أحببت أن تشموا شذاها بدون واسطة، فالعبارات للشيخ، إلا تصرفًا يسيرا مني، واختصارًا قدر الإمكان، كما تختصر قارورة العِطر بستانا من الزهور في رشّة واحدة.
بدأ الشيخ حديثه قائلا:
(كنا نحضكم سابقا على الاجتهاد، وطلب العلم، على مواصلة الليل بالنهار، والسير بالسُّرى، نحضكم أيضًا على التمسك بتعاليم الإسلام، تلك الوصايا السابقة التي مرَّ ذكرها ليست محصورة وأنتم في هذا المكان فقط، أنتم تغادرون إلى أهليكم وبلدانكم)
١- تقوى الله عز وجل
فنوصيكم قبل كل شيء بتقوى الله عز وجل، فخير ما يوصي به المسلمُ المسلمَ تقوى الله عزَّ وجل، وخير ما يتحلى به الإنسان في دنياه: تقوى الله عزَّ وجل، وخير ما يتزوده الإنسان لآخرته: تقوى الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} [سورة البقرة:197].
فبالتقوى تتكامل النفوس، وتتفاضل الأشخاص، ومن أراد شرفًا فليلبس من لباس التقوى، {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [سورة الأعراف:26]، فما من خير عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، إلا وتقوى الله سبيلٌ موصلٌ إليه، ووسيلة مبلِّغة له، وما من شر عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، إلا وتقوى الله حصن حصين، وحرز متين من الوقوع فيه.
٢– برُّ الوالدين
ومما نوصيكم به -ونكرر هذه الوصية مرات ومرات- برُّ الوالدين، والإحسان إليهما.
فالله سبحانه وتعالى أوصى بذلك، وقرنه بحقه الواجب له وحده دون غيره، فقد قرن الله طاعة الوالدين بطاعته، والإحسان إليهما بعبادته، في آيات كثيرة، فانتبِهوا، انتبهوا!
ثم أخذ الشيخ يتلو تلك الآيات العطرات، ويلقي تلك الأحاديث الشريفة، التي تذكّر بهذا الحق العظيم، وتوصي ببر الوالدين، وتحذر من عواقب عقوقهما والعياذ بالله.
وكثير من الناس يهملون هذا الحق العظيم، فتكثر الإساءات والمخالفات ضدَّ الوالدين.
بعد ذلك قال الشيخ:
فعلى كل واحد منكم أن يقوم بهذا الواجب، وهذا الإحسان، وهذه الطاعة، ويجب عليه الامتثال للوالدين، والتواضع لهما والعطف عليهما.
كل واحد منكم يذهب إلى بيته فيجد أباه، فيسلم عليه، ويصافحه، ويلاطفه، أو يجد أمه -ولو كانت في المطبخ- يذهب إليها، ويسلم عليها، ويلاطفها، ويكلمها بالكلام الطيب الليِّن؛ فقد كانا يتعبان لتستريح، ويسهران الليل لتنام، وكانا يجوعان لتشبع، فتذكَّر تلك المواقف وأنت صغير السن، تذكَّر.
وهل تستطيع أن تكافئ والديك؟! أبدا.
مهما قمت بإحسان، ومهما قمت بمعروف وحسن سيرة لن تستطيع مكافأتهما.
فعلى الواحد منكم إذا دخل أحد والديه إلى البيت أن يتلقاه من عند الباب، ويصافحه، وإذا أراد أن يخرج إلى مكان، يقوم معه، ويقرِّب له نعله، وإذا استطاع أن يلبسه إياها فليلبسه.
ولا ينبغي للواحد منكم أن يأتيهم ضيف ويترك أباه يصول ويجول مع الضيف، وهو في غرفته ولو من أجل المذاكرة، فلكل شيء وقت، ومن التقصير أن تشاهد أباك يقرب الطعام وأنت جالس.
وإذا شاهدت أمك تشتغل في البيت فقم بواجبك معها ولا تبقَ جالسا.
ولا يزهد الإنسان في حق أمه ويهمل حقها، فالأم أولى بالرعاية، وأحقُّ بالاهتمام والعناية؛ لأن مشقتها أعظم وعناءها أكثر، مع ما تقاسيه من حمل ووضع ورضاع، وسهر ليل، وتعب نهار؛ ولذلك عندما جاء رجل يسأل رسول الله ﷺ أي الناس أحق مني بحسن الصحبة يا رسول الله؟! قال: أمك، قال: ثم من؟! قال: أمك، قال: ثم من؟! قال: أمك، قال: ثم من؟! قال: أبوك.
لأمك حق لو علمت كبيرُ كثيرك يا هذا لديه يسيرُ
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير ُ
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطيرُ
وتفديك مما تشتكيه بنفسها وما ثديها إلا لديك نميرُ
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير ُ
وكم مرة جاعت وأعطتك قُوتها حنانًا وإشفاقا وأنت صغيرُ
ثم انبرى الشيخ ينبه تنبيها لطيفا في أدب اصطحاب الأب في السيارة فقال:
وإذا أراد أحدكم أن يأخذ أباه في السيارة، فلا يقل له بشدّة: افتح الباب، اركب، سُدَّ الباب، انزل.
وإنما يفتح له الباب، ويقول له بهدوء: اركب أو تفضل، ويسد عنه الباب بلطف، وقبل أن ينطلق يستأذن أباه، فيقول: نسير؟! زاهبين؟! نذهب؟!
وإذا وصلوا مكانًا وهناك أناس ينتظرون، فلا يسبق أباه، وإنما ينزل فيفتح الباب لأبيه، فيسلم عليهم أبوه أولا، ثم يسلم هو عليهم.
وإذا جلسوا في مجلس فلا يتقدم أباه في جواب، كأن يسألوا عن أخبار البلد وأحوالها، فالأب يجيب، والولد يجلس بأدب.
حتى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بدَّ أن يوجه للوالدين بطريقة مختلفة عن الآخرين، بكل لطف ولين وعطف؛ فالمعاملة الحسنة تجر الوالدين على اتباع المعروف بخلاف الغلظة والقسوة.
فعلى طلبة العلم أن يكونوا قدوة في البر بالوالدين والإحسان إليهما، وكم لذلك من ثمرات دنوية وأخروية، ويكفي أنه لو دعا لك الأب أو الأم فدعاؤهما مستجاب، فتعرَّض لدعائهما، واحذر من غضبهما.
٣– الاحتراز عن أموال الناس
على الإنسان أن يتحرى ويحترز عن أموال الناس، سواء كانت قليلة أو كثيرة، فلا يغتر الإنسان ويتساهل في شيء من أموال الناس بغير إذن (القليل من أموال الناس يورث النار)، (ردوا الخيط والمخيط؛ وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله، قال: وإن كان قضيبا من أراك).
٤- التفقه في الدين
وحيث إن الله تعبدنا بأشياء، فالواجب علينا أن نؤدي هذه العبادة على علم وبصيرة، لذلك يجب على المسلم أن يتفقه في دينه؛ حتى يعرف كيف يعبد الله، كيف يؤدي الواجبات التي أوجبها الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى لا يُعبَد بجهل، إنما يُعبَدُ بعلم، وقد ورد الأمر بطلب العلم، الحضّ عليه، والترغيب فيه، ولا يستوي للإنسان أن يكون على الطريق المستقيم إلا بالعلم.
٥- صلة الرحم وحق الجيران
صلةُ الأرحام حق واجب، وكذلك حقُّ الجيران، فينبغي لطلبة العلم أن يكونوا من أسرع الناس إلى أداء هذه الحقوق؛ حتى يكونوا قدوة للآخرين، عظوا الناس بأفعالكم، قبل أن تعظوهم بأقوالكم.
6- حسن المعاملة
وكذلك أيضًا مما نوصيكم به: المعاملة الحسنة مع الناس جميعا، (وقولوا للناس حسنا)، (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
فمن كان أكبر منك سنًا فكن لهُ ابنًا بارًا، ومن كان أصغر منك سنًا فكن له أبًا حنونا، ومن كان مساويا لك في السن فكن له أخًا شقيقا، مهما صدر منه من الزلات والهفوات، أنت لا تجازي السيئة بالسيئة، ادفع السيئة بالحسنة كما أمر الله سبحانه وتعالى.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [سورة فصلت: 34-35].
أنت إذا قابلت السيئة بالسيئة كنت مثله، أما إذا قابلت السيئة بالحسنة كنت أفضل منه، وأحسن منه، أليس كذلك؟!
وهذه الكلمات دعوها في أعينكم:
(صل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك، وأحسِن إلى من أساء إليك).
7- إفشاء السلام
(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وقد أخبرناكم سابقًا أن المراد بإفشاء السلام أن تسلم على الصغير والكبير، على من عرفت وعلى من لم تعرف، حتى قالوا لو كنت مع أخيك المسلم لقيته فسلمت عليه، وحالت بينكما شجرة أو حائط، ثم لقيته، فسلِّم عليه (أفشوا السلام)
وأنت تنال الأجر بذلك، وإفشاء السلام يورث المحبة والمودة بين الناس.
وهكذا كان الشيخُ يناول طلابه الزاد الذي يهديهم إلى الطريق، ويقيهم وعثاء السفر في هذه الحياة، ليكونوا أهل رحمة ورجال هُدى.
لتحميل المقال اضغط هنا