بحوث ودراسات

الحكمة من حرمة بيع الذهب بالآجل

عبد الله بن أحمد بن سعيد السليمي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد فهذا جواب كتبته حول الحكمة من منع الفقهاء بيع حلي الذهب والفضة بالنقود مؤجلا، فقلت فيه:

      للذهب والفضة أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية، وذلك لارتباطهما بالربا الذي أصبحت أضراره الاقتصادية ظاهرة للكثير من الناس، وقد كان الذهب والفضة هما النقد المتداول بين الناس، وليس الأوراق النقدية المعروفة اليوم، وكان الربا المعروف في الجاهلية هو أن يقترض رجل من آخر دنانير ذهب أو دراهم فضة ليعيدها بعد ذلك بزيادة.

     ولكن: ماذا لو أراد صائغ فضة أن يشتري فضة ليصوغها ويتاجر في حليها، هل يصح له أن يشتري الفضة (الخام) ويدفع قيمتها من الذهب مؤجلا؟ مع الانتباه أن العقد هنا هو عقد بيع وشراء وليس قرضا، فهل يعد ذلك جائزا؟

     لم تكن هذه الصورة حاضرة عند أهل الجاهلية، فقد كانوا يعرفون الربا ويتعاملون به إلا أن هذه الصورة لم تكن تخطر في أذهانهم، ولا تعد نوعا من الربا، وإنما هي عقد بيع.

ولكن الشرع حرمها إذا كان دفع البدل مؤجلا، ففي الحديث: “الذهب بالورِق (الفضة) ربا إلا هاء وهاء”[1]، فلماذا جعلها الشارع صورة من الربا؟

الجواب: حتى لا تكون هذه الصورة وسيلة للتحايل على الاقتراض بالربا، فبدل أن يتعاقدا بالقرض، يتعاقدان على أن يشتري أحدهما ذهبا مقابل أن يدفع للثاني فضة بعد مدة من الزمن مع مراعاة الزيادة بسبب التأخير، وللحكمة ذاتها يكاد يتفق أصحابنا على منع بيع الشيء بجنسه نسيئة ولو كان حجرا بحجر، وذلك توفيق من الله تعالى لهم في فهم علة الربا وإدراك الحكمة من تحريمه، قال أبو سعيد: “ولا يجوز بيع صنف من الأصناف بشيء من صنفه من جميع ما تقع عليه الأملاك نسيئة إلا على سبيل القرض، وأما على البيع فلا يجوز، ولو كان حجرا بحجر فلا يجوز ذلك، لأن ذلك من جنسه، ولأن ذلك مملوك، فما جاز حجر بحجر نسيئة جاز درهم بدرهم نسيئة على غير سبيل القرض، وجاز صاع بر بصاع بر  نسيئة على غير سبيل القرض، ولا يجوز ذلك إلا بالقرض، فافهم هذا الباب الذي جهله كثير من الناس إلا أولوا الألباب”[2].

ولأن الأوراق النقدية هي نقود الناس اليوم فهي كالفضة والذهب في ذلك الزمان، فلو جاز بيع الذهب والفضة بالنقود نسيئة لأمكن لمن أراد أن يقترض ١٠٠٠ ريال مثلا أن يتعاقد مع المقرض أن يبيعه ذهبا يدفعها لاحقا.

ولتوضيح المثال: إذا كانت ألف ريال تعادل ١٠٠ جرام من الذهب، فيقول من أراد أن يقترض ألف ريال للمقرض، أبيعك ١٢٠ جراما من الذهب أدفعها لك بعد سنة مثلا مقابل أن تعطيني ١٠٠٠ ريال الآن، ومقصودهما القرض لا البيع، يستفيد المقرض بأن يأخذ ٢٠ جراما زيادة على المائة جرام التي تعادل الألف ريال.

فإن قيل: إن هذا مبني على سد الذريعة، وهو أصل مختلف فيه.

فالجواب: أن سد الذريعة هنا معتبر في الشرع بنص الحديث، ويؤكده منع ُالبر بالشعير، ومنع التمر بالزبيب نسيئة كما منع الذهب بالفضة نسيئة، ولا يختلف الحكم في بيع الذهب بالأوراق النقدية إذا قلنا بأن العلة فيه هي النقدية، كما أن الشارع احتاط للربا في أحكام أخرى، فحرم بيع ما لا يملك وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يقبض ونهى عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع ونهى عن العينة.

سؤال آخر: هل يختلف الحكم إذا كان الذهب حليا؟

الجواب: لا، وذلك لأن الحلي نوع من الذهب أو الفضة، وقد جاء الحكم في أحاديث كثيرة معلقا بالذهب والفضة، فإخراج الحلي من الحكم محتاج إلى دليل.

فإن قيل: يتحول بالصنعة شيئا جديدا، وأصبح يسمى حليا، فخرج عن حكم الذهب المحرم، فالجواب: أن إطلاق اسم جديد عليه لا يخرجه عن اسم الذهب، بل إطلاق الذهب عليه يعد حقيقة، فلا يستقيم إخراجه عن حكمه.

فإن قيل: إخراجه بسبب أن العلة في الربا هي النقدية، والحلي لم يعد نقدا بالصنعة، فالجواب عن هذا من وجهين:

الأول: هو أن علة النقدية مستنبطة وليست منصوصة، ويصعب تخصيص الحكم بها مع ورود أدلة كثيرة تعلق الحكم بجنس الذهب، فهناك احتمال أن يكون للربا علتان، الأولى: هي النقدية والثانية: هي كونه ذهبا أو فضة، وزوال إحدى العلتين مع بقاء الأخرى لا يسقط الحكم، ويتأيد هذا بحديث فضالة بن عبيد الأنصاري حيث قال:” أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب وزنا بوزن”[1].

فالقلادة هنا نوع من الحلي إلا أنها عوملت معاملة الذهب الخام، واشتُرِط فيها التماثل، ولو كان الحلي لا يشمله هذا الحكم لجاز بيع القلادة بالذهب متفاضلا.

الوجه الثاني: هو أن الصنعة في الذهب والفضة لا تزيل عنهما النقدية الموجودة في الذهب الخام، فمعظم قيمة الحلي إنما هي بسبب خامه لا بسبب الصنعة، فلا تتجاوز قيمة الصنعة خُمُس قيمة القطعة غالبا، وعندما يقدم الحلي أو تتلف الصنعة تبقى للقطعة معظم قيمتها، فكيف يصح إلغاء هذه القيمة (الخام) بسبب الصنعة؟

ثم إن الحكمة التي لأجلها منع بيع الذهب الخام بالنقد نسيئة المشروحة سابقا موجودة في بيع الحلي، فلا معنى للمنع منه في الذهب الخام وإباحته في الحلي.

وكل ما سبق مبني على قول جمهور أهل العلم، والله أعلم.

فإن قيل: سوق تجارة التجزئة اليوم قد تطور، وقد تنافس التجار في تسويق سلعهم إلكترونيا، وهذا المنع في بيع الذهب بالآجل قد يحرم تجار الذهب من التطور ومواكبة التقدم، وربما عزف أهل الورع عن هذه التجارة وتحكم فيها من لا يتقي الله في أحكامها، فهل من مقترح يحل لهم مشكلتهم؟

أجيب: قد يكون حل مشكلتهم بأن يوجه الراغب في الشراء إلى أن يوكل مندوب التوصيل فيحولون إليه قيمة الحلي ويوكلونه ليقوم بشرائها من تاجر الذهب، فيكون البيع بين مندوب التوصيل وبين تاجر الذهب يدا بيد، ثم يقول بتوصيلها لطالبها.

فإن قيل: قد لا يكون هذا حلا جيدا لهم، فقد لا يثق الزبون بمندوب التوصيل كما أن الزبون يرغب أن تكون عملية الشراء أكثر سلاسة وسرعة، ثم إن هذا الحل لا يتناسب مع بيع الذهب وشرائه على مستوى دوليفيزيد على مشكلة الثقة تكاليفُ نقل الذهب من بلد لآخر دون تحقق من إتمام العقد، فهل من حل آخر لهم؟

فأقول: هناك حل آخر أحب أن أعرضه على أهل العلم لينظروا فيه ويتفحصوه ويزنوه بميزان الشرع وقواعد الفقه ومقاصد الشريعة، فإن رأوه حسنا سائغا فبفضل الله، وإلا فلا يؤخذ إلا بعدله، وخلاصته استثناء صورة شراء الحلي من تاجر الذهب من حكم الربا بشروط، وهي:

الأول: ألا يتم الاتفاق على أجل معين لتسليم السلعة، وإنما يكون الشراء حالا، ويقوم البائع بإجراءات التسليم دون تأخير غير معتاد، وإذا أمكن تعيين السلعة المشتراة برقم أو نحوه فذلك أفضل.

الثاني: أن يدفع المشتري الثمن كاملا عند العقد.

الثالث: أن يكون سعر الحلي أكثر من سعر وزنه في السوق بما لا يقل عن قيمة الصنعة المعتادة في وقت دفع الثمن للبائع.

وإنما قلت باستثناء هذه الصورة بهذه الشروط تحقيقا للمناط، لأن حقيقة الربا هي الزيادة مقابل الأجل، فالذي يأخذ العوض مؤخرا يأخذ زيادة على ذلك، وفي هذه الصورة فإن قبض المشتري للحلي مؤجلا  لا يقابله زيادة في الثمن، بل إني اشترطت أن يكون سعر البيع أعلى من قيمة وزن الذهب في السوق، واشتراط عدم التأجيل ليبقى للعقد صفة التنجيز لا التأجيل من حيث الأصل، وحتى لا يكون في تحديد الأجل ذريعة لخفض القيمة، وأما اشتراط دفع الثمن كاملا، فحتى نمنع أن يتخذ هذا البيع وسيلة للتحايل على الربا، واغتفار المدة بين العقد واستلام المشتري للسلعة قد ينظر إليه أنه من لوازم العقد، وليس مقصودا من المتعاقدين.

وفي ظني أن الفقهاء قد استثنوا بعض الصور من حكم الربا حين رأوها لا تؤدي إلى زيادة مقابل الأجل، فأجازوا صورة بيع العينة إذا كانت البيعة الثانية بسعر أعلى من البيعة الأولى وأجازوا عكس العينة إذا كانت البيعة الثانية بسعر أكثر من الأولى، فقد قال في الإيضاح: ” …وكذلك أيضا إن باع سلعة نقدا بعشرة دراهم ثم اشتراها بعشرين إلى أجل، فلا يجوز ذلك، لأنك لو تأملت لوجدته قد ردت إليه سلعته وأخذ عشرة دراهم بعشرين إلى أجل، وأما إن اشتراها بمثل ما باعها له أو بأقل منه أو اشتراها نقدا كما باعها نقدا سواء بأقل مما باعها به أو بمثله أو بأكثر منه فلا بأس بهذا كله لأنه لم يتذرع إلى حرام في هذا، وهو بين لمن تدبره إن شاء الله”[3].

واستثناء هذه الصورة يفيد أن هناك فرقا بين أن يكون العوض المتأخر زائدا عن المتقدم وبين أن يكون ناقصا عنه، ولو لم نقل بالفرق ما صح الاستثناء، إذ سيكون السبب المحرم في العينة موجودا في الحالتين، اللهم إلا أن يقال بأن مسألتنا في بيع الحلي هي أقرب إلى الصرف، ويرد السؤال حينها، لو كان البيع في عكس العينة مثلا بألف ريال نقدا على أن يعيد شراءها البائع بما يعادل 800 ريال من الدولارات نسيئة، فظاهر الصورة أن البائع مستفيد وليس مربيا لأنه دفع أقل مما أخذ، فهل تجوز كالصورة المستثناة سابقا أو لا؟ ويتضح السؤال أكثر فيما لو اقترض رجل من آخر في سفره عملة معينة، واتفقا على أن يردها المقترض بعملة بلدهما عندما يعودان بصرف ينقص عن سعر السوق في يوم الرد بنسبة 2% مثلا، فهنا المقترض مستفيد وليس مربيا، وقد تكون استفادة المقرض من باب السفتجة، فهل تجوز هذه الصورة أو لا؟ إذا قيل بالمنع في هاتين الصورتين، فقد يكون الاستدلال باستثناء صورة العينة في حال كون العوض المتأخر أقل من المتقدم صعبا، ولكننا سنحتاج إلى بيان سبب الفرق بينهما مع أنهما من باب واحد في الظاهر.

والقول بجواز المعاملة إذا كان العوض المتأخر أقل من المتقدم يقتضي تقييد النهي عن بيع الربويات إلا مثلا بمثل، وفي ذلك إشكال لا يخفى لا سيما إذا قيل بحرمة ربا الفضل كما هو رأي الجمهور من غير الإباضية، وعليه الفتوى اليوم، والقائلون بجواز ربا الفضل لم يجيزوا الاختلاف في القدر ولو كان المتأخر أقل من المتقدم.

ثم إن هناك صورة قد سوغ أبو نبهان فيها الخلاف، وهي ما إذا كان البدلان من الذهب والفضة متعينين، فخرج الخلاف في جواز بيعهما ببعض وأحدهما غائب، إذ قال: “…قلت له: فإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا إلا أنهما يُعرَفان، فاتفقا في تبايعهما على هذا بذاك؟ قال: فعسى أن يختلف في جوازه لدخوله معنى على رأي في ها وها وجواز بعده على رأي آخر…”[4]، وقد أجازها قبله أبو سعيد إذ جاء في مسألة منسوبة إليه: “في رجلين تبايعا على كسور غائبة عند أحدهما بهذا الذهب الحاضر أو هذه الفضة الحاضرة التي هما به عارفان أعني المكسورة الغائبة إذا كانا يعرفانها، فهذا يختلف فيه، فأحسب أن بعضا يجيز ذلك، وبعضا لا يجيزه، وأرجو ألا يبعد إجازته لما وقع البيع على هذا الغائب المعروف بهذا الحاضر المعروف، فهذا يخرج معنا يدا بيد لا بنسيئة، وكذلك إن باع له الكسور الغائبة بهذا الحاضر من الذهب والفضة، فأي ذلك وقع عليه البيع من هذا بهذا وهذا بهذا فمعناه عندي واحد”[5]

وتخريجا على ما جوزه أبو سعيد، فإنه يمكن اعتبار الحلي في مسألتنا مقابل المكسر في المسألة التي ذكرها، وما يدفعه المشتري في مسألتنا مقابل الذهب الحاضر في مسألته، إلا أن أبا سعيد قال بعد ذلك:” وإن كان باع له هذا الذهب الحاضر أو الفضة الحاضرة بكذا وكذا درهما أو دينارا من غير أن يكون يدا بيد فهذا عندي بيع ضعيف؛ لأنه لا يقع معناه يدا بيد”، ولا أدري سبب الفرق بينهما إلا أن الأولى يكون فيه الغائب شيئا يعرفانه ذهبا مكسرا، والغائب في كلامه الأخير أقرب إلى أن يكون شيئا في الذمة، والحلي في مسألتنا أقرب للمكسر منه للدراهم أو الدنانير في الذمة، على أن عبارة أبي نبهان تفيد الإطلاق من غير فرق.

وفي جامع ابن بركة عبارة يصعب فهمها بغير ما نقلته عن أبي سعيد وأبي نبهان، فقد قال بعد كلام حول صرف ما في الذمة: “…وإذا كان أحدهما (أي النقدين) حاضرا والآخر غائبا جاز”[6]، وهذا النص موجود في الضياء وبيان الشرع والمصنف دون تعديل أو تعقيب.

وجواز المبادلة بالتعيين من غير تقابض قد ذكره قبل ذلك أبو الحواري إلا أنه لم يره جائزا في النقدين، ففي جواب له:” وقلت: هل يجوز قياض جراب من تمر بجراب من تمر إذا عرف كيلهما أو وزنهما، أو حتى يكون قرضا وكل جراب من بلد؟ فعلى ما وصفت: فقد وجدنا في الآثار أن ذلك جائز. وقال من قال من الفقهاء: لا يجوز ذلك إلا بالقرض، فمن أخذ بالقول الأول أجاز له ذلك إن شاء الله، والقول الآخر معنا إنه هو الأكثر، ولم نسمع بإجازة القياض، إلا في الطعام، وأما المصارفة والدنانير بالدنانير والدراهم بالدراهم، فنقول لا يجوز ذلك إلا بالقرض”[7].

ومما جاء في جواز الاقتصار على التعيين في تبادل الربويين دون التقابض الفعلي ما ذكره أبو نبهان أيضا في مسألة قال فيها: ” وفي رجلين تبادلا ثمرة مال بمثلها من الكرام أو النخل أو الزرع في بلدين، فإن كان هذا البدال في وقوعه قبل دراك الثمرتين لم يجز لهما، إلا أن يكون على شرط لقطعهما قبل كون الزيادة فيهما أو في أحدهما، وإن كانتا في الحال مدركتين؛ فالاختلاف لجوازه؛ لقول من رآه لا من النسيئة فأجازه بعض من المسلمين، وقول من لم يجزه حتى تكون الثمرة من المالين حال المبادلة حاضرة من المتبادلين، يدركها كل واحد منهما رؤية بالعين، والقول فيهما إن كان البدال يوما بعد حصادهما على هذا الحال”[8]، وقيده كثير من الفقهاء بكون الثمرتين في الأرض نفسها.

وجواز الاقتصار في التقابض على التعيين في غير النقدين كما ذكره أبو الحواري هو قول الحنفية[9]، واستدل له بعضهم بما ورد في الرواية عند مسلم “عينا بعين” بدل “يدا بيد”[10]، ولم يرخصوا في النقدين لأنهم رأوا التشديد في أمرهما أكثر من غيرهما كما يفهم من بعض الروايات.

ولا شك أن أسعد القولين بالدليل وأقواهما بالحجة وأقربهما للصواب قول من اشترط التقابض ولم يقتصر على التعيين في تبادل الربويين ما أمكن ذلك، إلا أنني أشير إلى الخلاف هنا بغية أن أجد مساغا وحلا لمسألتنا، وما ذكرته من حل هو في الحقيقة أقرب مما ذكروه، وقد يكون أقل إشكالا، إذ إن احتمال الزيادة في الغائب من البدلين وارد في مسألتهم، وهو بعيد في الصورة التي أبحث استثناءها حيث إن المشتري الذي يستلم حليه متأخرا يدفع فوق قيمة الحلي قيمةَ الصنعة، فمن الصعب أن يكون استفاد عوضا مقابل التأخر في استلام بدله، ثم إن صورة مسألتنا يكون فيها أحد البدلين غائبا وليس كليهما كما في المسألة التي ذكروها، إلا أن الفرق بين مسألتنا ومسألة أبي نبهان وأبي سعيد أن الغائب متعين في المسألة التي فرضاها، بينما قد لا يتعين في مسألتنا كما إذا وجدت أكثر من قطعة من الحلي بالصنعة ذاتها شكلا ووزنا.

وما ذكرته من حل هو أولى من الأخذ بقول من أخرج الحلي من حكم الذهب، فأجاز بيعه بالنقود نسيئة، وهو قول راج في بعض البلاد مع ما فيه من إشكال سبق بيانه، إلا أن ما يعكر الأخذ بهذا الاستثناء المنشود هو أن الشارع الحكيم قد احتاط كثيرا في أمر الربا وسد أبوابه ومنافذه كما سبق بيانه، وما حيرة العلماء في إدراك حكمةٍ لتحريم ربا الفضل مع التقابض إلا شاهد على ذلك، وأقوى ما استنبطوه لذلك هو الاحتياط للربا، فهل ما بينتُه من بُعد الصورة المستثناة عن حقيقة الربا المحرمة التي هي زيادة مقابل الأجل في القرض أو الدين كاف للحكم بجوازها؟ خصوصا إن استحضرنا حاجة الناس إلى مثل هذه الرخصة، وكثرة وقوع المسألة، وأن الشارع قد استثنى من حكم ربا الفضل بيع العرايا عند الحاجة، فهل حاجة الناس اليوم تبيح استثناء هذه الصورة بالضوابط المذكورة من حكم ربا البيوع الذي حُرم سدا للذريعة كما يبدو؟

إن ما ذكرته هنا لا يعدو أن يكون بحثا في حكمة الشارع من تحريم ربا البيوع وغوصا في أسرارها، واستنطاقا لمقاصد النصوص من أحكامها، وتحقيقا لمناطها في بعض أفرادها وإعمالا للأحكام في مواطن عللها، وليس بخاف على فقيه أن علة ربا البيوع والحكمة من تحريمه من أكثر القضايا تعقيدا وإشكالا في فقه المعاملات، فلا أملك إلا أن أترك الحكم لأهل البصيرة والحكمة من أهل العلم والورع للنظر فيما ذكرت، ليفيضوا علي بما حباهم الله من فضله في بيان خطأ ما أخطأت فيه وتصويبي فيما انحرفت فيه عن الحق والصواب سائلا المولى الكريم أن يثيبهم عني خير الجزاء.

                                                                        

  • تنبيه: اطلع سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي على هذا المقال وله فيه جواب، وخلاصته أنه أكد على ما ذكر هنا من حرمة تبادل الأصناف الستة على سبيل البيع –لا القرض- إلا أن يكون يدا بيد ومثلا يمثل، وحرمة بيع أي شيء بجنسه إلا أن يكون يدا بيد، ثم ذكر قبوله للحل المذكور أولا لتعذر التقابض بين المتبايعين في التجارة الإلكترونية، وهو أن تكون يد المندوب إن وكله المشتري قائمة مقام يد المشتري، ثم ذكر أنه لا يقوى على الأخذ بالصور الأخرى التي ذكرها الباحث وإن سوغها بعض علماء المذهب لافتقارها إلى الدليل. وكان جوابه بتاريخ 22 من ذي القعدة 1441هـ.

 

لتحميل البحث اضغط هنا

المراجع:

  • أبو زيد، عبد العظيم جلال، فقه الربا، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1425هـ/2004م)
  • السعدي، حميل بن خميس، قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة، (مسقط: مكتبة الجيل الواعد، ط1…)
  • السكندري، محمد بن عبدالوهاب ابن الهمام، شرح فتح القدير، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ/2003م)
  • السليمي، عبدالله بن محمد بن بركة، كتاب الجامع، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، دط، 1428هـ/2007م)
  • الشماخي، عامر بن علي، كتاب الإيضاح، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، ط4، 1420هـ/1999)
  • الكدمي، محمد بن سعيد، زيادات أبي سعيد على كتاب الإشراف، تحقيق: إبراهيم علي بولرواح، (مسقط: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ط1، 1432هـ/2011).

[1] – رواه مسلم، صحيح مسلم، رقم 1591.

[1] – رواه الربيع بن حبيب في مسنده رقم 576، وقريب من لفظه عند البخاري رقم 2134 و2174، وغيره.

[2] – الكدمي، أبو سعيد، زيادات أبي سعيد الكدمي على كتاب الإشراف لابن المنذر، تحقيق: إبراهيم علي بولرواح، (مسقط: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ط1، 1432هـ/2011)، ج3، ص343.

[3] الشماخي، عامر بن علي، كتاب الإيضاح، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، ط4، 1420هـ/1999)، ج3، ص46-47.

[4] – السعدي، خميس بن جميل، قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة، (مسقط: مكتبة الجيل الواعد، ط1…) ج53، ص361.

[5] – المصدر السابق، ج53، ص343.

[6] –  السليمي، عبد الله بن محمد بن بركة، كتاب الجامع، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، دط، 1428هـ/2007م)، ج2، ص340.

[7] – السعدي، قاموس الشريعة، ج53، ص313.

[8] – المصدر السابق، ج53، ص316.

[9] – السكندري، محمد بن عبد الوهاب ابن الهمام، شرح فتح القدير، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ/2003م)، ج7، ص18.

[10] – أبو زيد، عبد العظيم جلال، فقه الربا، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1425هـ/2004م)، ص94.

يسعدنا تقييمك للبحث

تقييم المستخدمون: 4.23 ( 6 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى