التفسير المادّي للتراث
سلطان بن صالح بن سلطان الراشدي
بسم الله الرحمن الرحيم
يحكي الجاحظ في (البيان والتبيّن) أن إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وقد صدق، فكم تثقل عليك الجلسة مع شخص يكرر لك قصة ًيستهل بها كلما لقيك! فتضطر أن تجاريه تمسكا بآداب المجالس كما يقول إمامنا السالمي: (وسل ولا تمل أو تملا…وإن عرفتها فأبدِ الجهلا).
لكن إعادة الحديث وتكراره في علم النفس والاجتماع ركن ركين وفن عظيم لإقناع الناس بفكرة -ولو كانت مستنكرة- كما يقول لوبون صاحب كتاب (سيكولوجيا الجماهير): “عندما نريد أن ندخل الأفكار والعقائد ببطء إلى روح الجماهير فإننا نجد أن أساليب القادة تختلف، فهم يلجؤون بشكل أساسي إلى الأساليب الثلاثة التالية: أسلوب التأكيد، وأسلوب التكرار، وأسلوب العدوى، لا ريب أن تأثيرها بطيء لكنه دائم”.
وقد استقبل هذا التنظيرَ بحفاوة هتلر لتمرير مفاهيم النازية في المجتمع وترسيخها فيهم، فعيّن غوبلز وزيرا للدعاية التي جعل من أهم أدواتها التكرار!
هذا تكرار مُمنهج مُسيّس، ويدانيه تكرار منشؤه الاندهاش، يجعل صاحبه يكرر ما يذكره الآخرون شبرا بشبر وذراعا بذراع وربما زاد ونقص حتى يزيح عن نفسه شبهة التقليد!
وهذا حال بعض الذين تأثروا بالفكر الحداثي في بلدنا عمان، فهم لا يزالون يكررون على أسماعنا المعاني ذاتها التي التقطوها من الحداثيين العرب من قبلهم أمثال: جرجي زيدان وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وفهمي جدعان ووائل حلاق، الذين بدورهم أخذوا منهجية تفكيرهم وجملة من علومهم من المستشرقين الغربيين، وليس أخذهم عن المستشرقين بسر حتى نفضحه، فهم يصرحون بذلك ويعدونه مفخرة وأي مفخرة!
وأنت تعلم أن الاستشراق هو العقل المدبر للتبشير والاستعمار، هدفه تجريد أمة الإسلام من تراثها بتشويه صورته ونسبته إلى غيره من الأمم، كما يقول محمود شاكر -بعد أن استقرأ كتب المستشرقين- في رسالته (في الطريق إلى ثقافتنا): «وبيّنٌ لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلا للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره، وأنها كتبت لهدف معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوروبي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب».
غاب عن الحداثيين هذا الأمر فأخذوا يقتبسون من المستشرقين مناهجهم في التفكير وتحليل النصوص كأداة (التَّسْييس) كما يسميها إبراهيم السكران، وهي افتعال خلفيات وأغراض سياسية خلف العلوم الإسلامية وتاريخها، فتظل تبحث في تراثنا عن قيمة موضوعية فلا تجد إلا تراثا يقف خلفه غرض سياسي أو مصلحة دنيوية! كما يقول المستشرق جولدزيهر: «أخبار الروايات التي تبدو في قالب أبعد ما يكون عن الريبة حتى في سيرة الرسول ومغازيه، وفي تاريخ الإسلام القديم، تواري في طياتها ميول الأحزاب والاتجاهات المختلفة، وآمال الطبقات المحلية المتنوعة في الأمة الإسلامية الناشئة».
فعندهم أن علماء المسلمين غير العرب إنما تعلموا العلم ليكتسبوا سلطة معنوية تعوضهم عن السلطة السياسية التي حرموا منها! كما يرى عبد المجيد الشرفي، والقراءات السبع تعد -عند ذويب- أحد الأسلحة النظرية الفتاكة التي عولت عليها سلطة الخلافة العباسية!، ولشدة هوس التفسير السياسي فإن أحدهم يذكر أن الشافعي هو الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا، مع أن الشافعي ولد سنة (١٥٠هـ) أي بعد سقوط الدولة الأموية بعقدين إلا قليلا!
بعد هذه المقدمة السريعة، يأتي السؤال:
هل تأثر الحداثيون في عمان بغيرهم؟
لم تكن عمان في منأى عن هذا التأثير، فيومَ بدأت بوادر هذا الفكر في عمان قالها سماحة الشيخ الخليلي -حفظه الله- بأعلى صوته: -مبينا كثرةَ ترداد هؤلاء لمن سبقهم-: «وإنني لأقسم بالله قسم من بر في يمينه، وصدق في قوله، وجعل مخافة ربه رقيبا عليه، أن ما يرددونه من هذه الأقاويل سمعته بعينه من قبل سبعة وعشرين عاما، عندما حضرت ملتقى للفكر الإسلامي بمدينة الجزائر».
وأذكر لذلك نموذجا واحدا حاكى المستشرقين والحداثيين العرب في منهجهم، وإنما اختلف عنهم في التطبيق على التراث الإباضي، فالمنهج هو المنهج ولكنّ الاختلاف في الأمثلة، حيث قام الكاتب الحداثي بدراسة في: (تبرير السياسة بالدين) عند نور الدين السالمي -رحمه الله- التي وصل فيها إلى خلاصة مفادها في قوله: «الصراع على السلطة هو صراع طبقي بقصد حماية المصالح والجري وراء الأهواء السياسية ولكن بغلاف ديني» لتذهب سدى جهود مجتمع مؤمن وعلماء مصلحين سعوا إلى تحقيق العدل وبسط الخير، فإذا هم في لمحة خاطفة أتباعُ هوى!
أما التأثر بالمستشرقين فجلي في الكتاب جلاء الصبح، فهو يستخدم أداة تحليلية استشراقية، جاعلا أقوالهم تارة ميزانا يعتمد عليه في فهم التاريخ متى وافق مراده، فقد أتبع الخلاصة الآنفة الذكر بقوله: «ولقد لاحظ المستشرق فاليري هوفمان ذلك التناقض في شخصية أبي مسلم الرواحي إذ كان -حسب زعمه-: “خليطا من التناقضات؛ فهو من جهة مناصر شديد لإمامة إباضية صالحة، وصديق ومستشار للسلاطين، ومعجب بالحكم الإنجليزي، ومقر بالفكرة الإباضية القديمة القائلة بأن غير الإباضية من المسلمين هم كفار نعمة، وهو كذلك معجب بغير الإباضية من المسلمين، وينادي بوحدة تضم كل المسلمين بل وغير المسلمين”»
وليته إذ نسب إليه الكلام تعقبه في زعمه التناقض، لأنه دارس شيئا من الفلسفة والمنطق عارف بأن النقيضين هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولم يقع أبو مسلم -رحمه الله- في شيء من ذلك، فأفعاله منسجمة غير متناقضة كما هو واضح لكل من به طِرْق، فنصرةُ الإمامة والحكمُ بكفر النعمة على من خالف الحق لا يعنيان البتة قطع التواصل مع المخالف وإساءة التعامل معه وعدم السعي للوحدة والائتلاف، فالمنهي عنه في التأصيل العام هو ولاية غير المؤمنين أما البر والإقساط مع المخالف فمأمور به في شرعنا الحنيف، والعجيب أن هذين الأمرين جاءا متتاليين في سياق واحد مما لا يدع مجالا للمتأمل أن يقع في وهم التناقض، يقول ربنا: ﴿لا يَنهىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقٰتِلوكُم فِى الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيٰرِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَإِنَّما يَنهىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قٰتَلوكُم فِى الدّينِ وَأَخرَجوكُم مِن دِيٰرِكُم وَظٰهَروا عَلىٰ إِخراجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰلِمونَ﴾ [الممتحنة: 8 – 9] وبهذا تعلم بطلان زعم المستشرق أن أبا مسلم محب للإنجليز، لأن هذا يتعارض مع النهي عن توليهم -كما هي عقيدة أبي مسلم في كتبه-، وكيف يتصور ذلك عن أبي مسلم وعينيته وميميته ومقصورته كلها تفيض صراحة في اعتزازه بمبدأ الولاية والبراءة في الله، فهو القائل:
«محبتهم ديني بها أبتغي الرضا ……إلى الله والزلفى وهم لي دعائم».
ثم إن الكاتب الحداثي يستصحب ما ذكره المستشرق في أبي مسلم بعد صفحات عدة من الكتاب كأنما يعد كلامه قاعدة للتحليل، فيقول: «مما يجعلنا نستدعي ظاهرة التناقض والازدواجية في الشخصية الدينية في النص التاريخي كما لاحظه المستشرق فاليري هوفمان في أبي مسلم البهلاني ومواقفه الظاهرة والراديكالية؛ لأن هذه المواقف تخضع للقيم البراغماتية والتحولات السياسية وليست مجردة أو متعالية». وإذا كانت مواقف أبي مسلم البهلاني غير مجردة من المصالح فنشكك في مصداقية كلامه، فكيف بمستشرق لا يؤمن بالإسلام جُعل أداة لاستعمار الدول الإسلامية واحتلالها، أهو أحق بالصدق؟!
ونجد الكاتب أرحب نفسا وأكثر ثقة بما جاء في الدراسات الاستشراقية منه بما جاء في كتب علمائنا لأنهم متأثرون -كما يزعم- بالنزعة الطائفية والأهواء السياسية، فانظر إلى قوله بعد ذكره كلام المستشرقين في ارتباط الإمامة بالنظام القبلي: «تعد هذه اللفتة من الدراسات الاستشراقية مهمة جدا».
وأما تأثره بالحداثيين العرب، فهو يصرح بذكرهم في مواضع متعددة كقوله: «ولو عدنا إلى السمة التي وسعناها بآراء نصر حامد أبو زيد، أو عبد الجواد ياسين»
بعد هذا وذاك، لا شكّ أن النتائج التي سيتوصل إليها الكاتب قائمة على ذات منهج التسييس، فمواقف العلماء ما هي إلا سعي وراء مصالح دنيوية، فهذا الإمام السالمي -كما يزعم- لم يؤلف رسالة (الحق الجلي) إلا دفاعا عن المشروع السياسي الذي يأمله، فيلوي أعناق النصوص ليصل لمصالحه الشخصية، بل رحلته إلى الشيخ صالح بن علي الحارثي لم تكن أصلا لطلب العلم كما توهم الناس ذاك الزمان وانخدع الدارسون في عصرنا! بل كانت لغرض سياسي بحت وهو البحث عن مؤيدين للإمامة!، يقول الكاتب: «كما يعني أن الانتقال والرحلة إلى صالح بن علي لم يكن لطلب العلم، وإنما للبحث عن مؤيدين للإمامة، والدفاع عن منزلته في الكتاب دفاع عن المشروع السياسي، وقد كان السالمي ملما بتفاصيل حياة صالح بن علي، وما أخذ عليه في مواقفه السياسية كان متداولا من القادحين أو المناوئين قبل موته؛ لأن الكتاب لم يستغرق طويلا حتى خرج متماسكا. إن اتصال السالمي بصالح بن علي في نهايات حياته لم يكن بدافع علمي كما أسلفت؛ لأن شيخه ليس على درجة عالية من العلوم الشرعية».
وليته إذ زعم ما زعم عبّر عن ذلك بصيغة الظن والاحتمال، لا بصيغة الجزم التي تشي باطلاعه على أدلة متضافرة أوصلته إلى تلك النتيجة! وما الأداة التفسيرية التي يستخدمها إلا قائمة على الظن فهلّا كان ملتزما بمنهجه، وقد ذكّرني هذا بلقائي مع الشيخ أبي زيد الإدريسي المتخصص في علوم اللسانيات، يومها بين لي كيف أن الأداة التفسيرية هذه هي من أضعف الأدوات التفسيرية حيث تقوم أساسا على الظن لا على الدليل، ولكنه التزيّد الذي يجعل المنبهر يندفع في الاعتداد بآرائه، مبالغا في تشويه صورة خصومه، كزعمه بأن الإباضية يرون أن الإمامة تفوق حسنا وفضلا على الخلافة الراشدة! حيث يقول: «وضمن منظومة أيديولوجية تريد لنفسها -كما يعتقد الباحث- أن تستمر لبناء يوتوبيا إسلامية متمثلة في (الإمامة الإباضية) تعيش في وجدان (المسلم الإباضي) بوصفها المظهر الأحادي للعدالة الإلهية، وبما هي رمز ديني معادل للخلافة وأفضل منها وفق هذا المنظور».
كما يوهم القارئ بأن الإباضية يرون الإمامة مقدسة لا يدخلها الخطأ والتقصير، كأنه لم يطلع على القصص الكثيرة التي كان فيها أهل الحل والعقد بالمرصاد فيما يرونه تقصيرا صادرا من الإمام، فأول إمام في عمان وهو الإمام الجلندى بن مسعود لما دمعت عيناه عند قتل ابني عمه اللذين ثارا عليه فاستوجبا الحد، لما حصل ذلك عُزل مباشرة من منصبه حتى لا يكون في قلبه محاباة لأقربائه، والإمام الخليلي رحمه الله جلس هو وواحد من الرعية على بساط واحد أمام القاضي ليحكم في قضية جرت بينهما، لتفهم أن الإباضية لا يرون عصمة الإمام، كما أن الإمام نفسه لا يرى عصمة نفسه، يقول الكاتب: «فإذا كانت العصمة عن الشيعة، والقرشية عند السنة، غير موجودة عند الإباضية، فإن هذه الصورة النمطية أسهمت في صناعة وضع خرافي حول الإمامة يأباه الدين والعقل، تمثل في التقديس وظهور الكرامات، لا سيما إذا تولى التأييد نخبة من العلماء كالسالمي، وبهذا فإن التراث الإباضي بشأن مسلك الأئمة يقدم يوتوبيا دينية يجدها تحمل كل قيم العدالة، وبدونها لا تقوم للعدالة والدين قائمة، فالإمام بهذه الصورة يكتسب الوضعية المجردة المتعالية على التاريخ».
ولتضخُّم أداة التسييس عند الكاتب فإنه يرى أن قيام دولة الإمام عزان بن قيس -رحمه الله- كانت من أجل مصالح سياسية شخصية، وأن الشيخين الجليلين سعيد بن خلفان وصالح بن علي شخصيتان تتنافسان على تلكم المصالح، وما الإمام عزان إلا إمام شكلي أو اسمي لتمرير تلك المصالح! يقول: «بيد أن الخوف على المصالح بمحاولة اعتقاله أدى إلى تحول سياسي خطير لعب دورا مهما في تاريخ الدولة بقيام إمامة عزان بن قيس الذي يعد إماما اسميا أو شكليا مع وجود شخصيتين قويتين متنافستين مثل: سعيد بن خلفان الخليلي الذي تربطه بالإمام الجديد علاقة مصاهرة، والحارثي الذي لعب دور رئيس الوزراء في دولته، إن هذه التبريرات الطبقية البراغماتية غائبة غيابا كليا من خطاب السالمي الذي يتعمد إغفال التحليل أو ترك الحلقات المفقودة لأغراض أيديولوجية».
والذي زاد الطين بلة في النص السابق عبارته الجازمة في نية الإمام السالمي حين لم يذكر ما يود منه أن يذكره، فيصفه بأنه تعمد ذلك لأغراض دينية طائفية، وهذا الكاتب نفسه من خلال استقراء كتاباته في كتبه أو منشوراته فإنه تبين حساسيته المفرطة من المذهب الإباضي لكنه إذا وُصف بذلك ملأ الدنيا ضجيجا بأن المتشددين يدخلون في النيات وهي من عالم الغيب! لكنّه وحده له الحق في اتهام العلماء في نياتهم وأنهم يقصدون بأفعالهم كذا وكذا بصيغة جازمة لا تقبل الاحتمال!
ولأن فكرة التسييس مؤثرة في منهجية تفكيره فإنه يحسب أن العلماء يتنافسون على المصالح السياسية كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فهو يتساءل باستغراب: «ولعل السؤال الذي يدعو إلى الاستغراب حول شخصية صالح بن علي هو بما أنه بهذه الصفات التي تؤهله ليقوم بأعباء المحتسب، وهو دور تعويضي عن الإمام الغائب، فلماذا لم ينتخب إماما وهو يتسم بدرجة عالية من الولاية والمكانة حسب تلميذه نور الدين السالمي؟ ولماذا اصطحب معه سعود بن عزان في غزواته يريد أخذ البيعة له ولم يأخذها لنفسه؟».
هذه لفتات سريعة ليس الغرض منها مناقشة خلاصات الكتاب بقدر ما أريد من خلالها بيان تأثره بأدوات التفكير الاستشراقية والحداثية في تكرار ممل وتقليد متواصل.
والعجيب أني كلما قرأت كتابات هؤلاء أو دخلت نقاشا مع أحدهم -كما حدث أيام انتشار المساحات الصوتية في تويتر حيث قال لي أحدهم: لا يوجد عالم متجرد، كلهم يريدون مصالح دنيوية- تساءلتُ في نفسي عن مفهوم الإخلاص لله تعالى: أين هو في خطابهم؟ كم هي الآيات الدالة على أهمية الإخلاص لله من مثل: ﴿وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ وَيُقيمُوا الصَّلوٰةَ وَيُؤتُوا الزَّكوٰةَ وَذٰلِكَ دينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] ثم يصورون لنا أن العلماء الصالحين أتباع هوى كأن الإسلام ليس دينا واقعيا فلا يمكن أن يعمل الإنسان عملا لله وحده، لكنها المبالغة في الانبهار بما عند الغرب وتضخيم نطاق التفسير، فلسنا نبرئ تراثنا من عثرات تقع هنا وهناك، فالإنسان يبقى إنسانا تتنازعه الأهواء، لا سيّما تلك النوازع الداخلية كما يقول الثميني في كتابه (النيل): «فمن الأفعال النفسانية ذنوب لا ينجو منها إلا معصوم، ولا يتفطن لها ويستغفر منها إلا موفق معان».
لكنّ العثرات حين تقع يسارع العلماء والمصلحون لإنكارها لأن هذا من واجب الولاية والمحبة والنصح لله، كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ: «الدين النصيحة، قلنا:لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
ونظرةٌ قصيرة في تراث علمائنا لا تخطئ عينك فيها استدراكات بعضهم على بعض، بل إن إمامنا السالمي الذي صور لنا الكاتب كيف يسعى لمصالحه ويحسن صورة علمائه كان سائرا في آخر حياته لمناقشة شيخه ماجد بن خميس العبري في مسألة اختلفا فيها فارتطم قرب وصوله بجذع شجرة توفي بعدها بمدة قصيرة!
يثور هذا السؤال دائما عند الدفاع عن عالم معين: لماذا أنتم ضد النقد الموضوعي؟
لا أدري عن أي نقد موضوعي يتحدثون، إذا كان النقد الموضوعي ينصب في مناقشة الأفكار فتراثنا طافح بذلك في ظل أخلاق عالية في الحوار والنقاش، فأبو مسلم البهلاني على سبيل المثال يخالف -في نثاره- العالمينِ اللَّذَيْنِ عاصراه بكل أدب واحترام، وهما قطب الأئمة والإمام السالمي، وما نقص ذلك منهم شيئا، وهذا ابن بركة من قبله حين خالف محمد بن محبوب في علة الربا، بعد أن استقرأ كلام ابن محبوب دون تعجل، ثم بين بأسلوب راقٍ تناقض كلام ابن محبوب، معقبا ذلك بقوله: «ولم أعرف مقاصده في هذا، ونسأل الله التوفيق» بعد كل ذلك التفصيل العميق نسب عدم المعرفة إلى نفسه!! إنه الرقي في الاختلاف بين العلماء.
على أن الحوار بين العلماء لو اشتد وخرج عن إطار الدين فلا يعني ذلك إضفاء المشروعية على ذلك، بل نعود إلى قاعدة النصح للأئمة والعلماء، وكما جاء في الأثر: كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -يشير إلى قبر النبي ﷺ-.
أما أن يكون النقد الموضوعي متلازما تلازما تاما بالشدة في النقاش واتهام النوايا والنظر في الشخوص مع إهمال للفكرة وتسرع في الطرح فلا أظنه يسمى نقدا موضوعيا!
هذا الهروب من نقد الفكرة إلى نقد الشخص، واتهامه باتباع المصالح والأهواء ليس وليد اللحظة، بل هي حيلة استعملها الذين أجرموا من قبل، فها هو فرعون يهرب من تحدي موسى إلى اتهام السحرة بالتآمر عليه: ﴿قالَ ءامَنتُم لَهُ قَبلَ أَن ءاذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذى عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَسَوفَ تَعلَمونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلٰفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ﴾ [الشعراء: 49]
وهذا نبي الله نوح -عليه السلام- عندما دعا قومه اتهموه بأنه يريد بذلك مصلحة شخصية له وجاها يفضل به عليهم: ﴿فَقالَ المَلَؤُا۟ الَّذينَ كَفَروا مِن قَومِهِ ما هٰذا إِلّا بَشَرٌ مِثلُكُم يُريدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيكُم وَلَو شاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلٰئِكَةً ما سَمِعنا بِهٰذا فى ءابائِنَا الأَوَّلينَ﴾ [المؤمنون: 24]
وفي كل أمرٍ كان، إذا سيطرت فكرة على قلب إنسان، فإنه يجعلها أداة تفسيرية لكل شيء، فذلك الذي يكون مهووسا بالسحر والجانّ يسعى لتفسير كل الأحداث اليومية بتلك الفكرة، وتلك النسوية التي تؤمن بالصراع بين الجنسين ستفسر أكثر الأشياء براءة بأنها اعتداء من جنس الذكر عليها، أو صراع بين الجنسين، كما شعرت إحداهن بذلك حين أتاح لها المجال أحد الرجال لتتقدم عليه في الطابور رحمة بها واحتراما لها، لكنها فسرت ذلك بأنه انتقاص منه لها وتصوير بأن المرأة ضعيفة! وهكذا يستمر الإنسان في دوامة غير متناهية يفسر فيها الأشياء تحت سلطة تلك الفكرة الضاغطة.
لتحميل المقال اضغط هنا