بحوث ودراسات

التعزية بنظرة تجديدية يفرضها الواقع

د. أحـمـد بن مظفـر بن عبـدالله الـرواحـي

مقـدمـة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذا بحث طالما شغل جانباً من تفكيري ردحاً من الزمن، وكان يلحُّ علي كلما نزل بالمجتمع مصاب بفقد خِلٍّ أو عزيز، ويتمثل هذا التفكير المُلِحّ في التزام الناس نمطاً اعتادوه من تقديم العزاء لأهل المصيبة منذ أزمان خلت، إلا أنه أصبح مع مرور الأيام ثقيلاً على المعزى وعلى المعزي بسبب التكلف الواضح الواقع عليهما، والمخاطر الجمة التي تصاحب ذلك النمط والمخالفة الشرعية التي تقع فيه مما ستقف عليه بمشيئة الله، مع أن القيام بالتعزية والمواساة يمكن بطرق أيسر على الجميع، والله أسأل التوفيق والسداد لما قصدت، والنفع للعباد فيما كتبت إن ربي لسميع الدعاء.

المبحث الأول: في معنى التعزية وفي الفرق بينها وبين النياحة والرثاء وفي صفتها

المطلب الأول: في التعزية لغةً واصطلاحاً

عرفها لغة ابن منظور في لسان العرب بما نصه: (عزا : العزاء : الصبر عن كل ما فقدت، وقيل : حسنه عزي يعزى عزاء – ممدود – فهو عز ، ويقال : إنه لعزي صبور إذا كان حسن العزاء على المصائب ، وعزاه تعزية – على الحذف والعوض – فتعزى قال سيبويه : لا يجوز غير ذلك. قال أبو زيد : الإتمام أكثر في لسان العرب، يعني التفعيل من هذا النحو، وإنما ذكرت هذا ليعلم طريق القياس فيه، وقيل : عزيته من باب تظنيت، وقد ذكر تعليله في موضعه، وتقول : عزيت فلانا أعزيه تعزية، أي أسيته وضربت له الأسى، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزيا، أي تصبر تصبرا. وتعازى القوم: عزى بعضهم بعضا – عن ابن جني. والتعزوة: العزاء – حكاه ابن جني عن أبي زيد – اسم لا مصدر; لأن تفعلة ليست من أبنية المصادر، والواو هاهنا ياء، وإنما انقلبت للضمة قبلها كما قالوا الفتوة. انتهى.

وأما اصطلاحاً: فهو التصبير وذكر ما يسلي الميت ويخفف حزنه، وهذا التعريف الاصطلاحي مأخوذ -كما ترى- من أصله اللغوي هذا، ويجب التفريق بين التعزية والنياحة والرثاء أما النياحة فقد قال ابن منظور: (نوح: النوح: مصدر ناح ينوح نوحا. ويقال: نائحة ذات نياحة. ونواحة ذات مناحة. والمناحة: الاسم ويجمع على المناحات والمناوح. والنوائح: اسم يقع على النساء يجتمعن في مناحة ويجمع على الأنواح، قال لبيد: قُوما تنوحانِ مع الأنواحِ ونساء نوح وأنواح ونوح ونوائح ونائحات، ويقال: كنا في مناحة فلان. وناحت المرأة تنوح نوحا ونواحا ونياحا ونياحة ومناحة وناحته وناحت عليه. والمناحة والنوح: النساء يجتمعن للحزن) انتهى المراد منه.

وأما اصطلاحاً فيمكن أن يؤخذ من قول عمر الفاروق -رضي الله عنه- حين مات خالد بن الوليد -رضي الله عنه- بالشام فاجتمعت النساء يبكين عليه فأرسل رجل إلى عمر الفاروق -رضي الله عنه- لينهاهن عن ذلك فقال: (دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة)، قال ابن حجر: النقع وضع التراب على الرأس واللقلقة رفع الصوت وعن إبراهيم أن النقع شق الجيوب، ومعنى ذلك أن النياحة المنهي عنها شرعا ما كان فيه نقع أو لقلقة أو نحو ذلك كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية” رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: “صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة صوت مزمار عند نعمة وصوت مرنة عند مصيبة” وزيد فيها في رواية أخرى: “لُعنت النائحة والجالسة إليها والمستمعة”. رواه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والمُرِنّة النائحة كنا فسرها الإمام الربيع بن حبيب -رحمه الله- راوي الحديث واستدرك عليه الإمام نور الدين السالمي شارح المسند بقوله وهو تفسير بالمراد وإلا فالنائحة أعم من المرنة، والمرنة هي الصالقة بالصاد المهملة والقاف، أي التي ترفع صوتها البكاء وترنّ منها الأرض. انتهى من شرح مسند الإمام الربيع بن حبيب ج3 ص374.

وأما الرثاء لغةً فد قال ابن منظور: (ورثى فلان فلانا يرثيه رثيا ومرثية إذا بكاه بعد موته. قال: فإن مدحه بعد موته قيل رثاه يرثيه ترثية. ورثيت الميت رثيا ورثاء ومرثاة ومرثية ورثيته: مدحته بعد الموت وبكيته. ورثوت الميت أيضا إذا بكيته وعددت محاسنه، وكذلك إذا نظمت فيه شعرا). انتهى.

هذا، وقد قسّم القرافي في “الفروق” (2/174) المراثي إلى أربعة أقسام، فقال:” لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَرَاثِي وَعَدَمِ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا، وَإِنْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَرَاثِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: حَرَامٌ كَبِيرَةٌ، وَحَرَامٌ صَغِيرَةٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَنْدُوبٌ. أَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ وَيُوضِحُ لِلْأَفْهَامِ نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ، وَالتَّبَرُّمِ بِقَدَرِهِ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً، بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً، فَيَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ يَكُونُ حَرَامًا كَبِيرَةً نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا. كَأَنْ يَقُولَ الشَّاعِرُ فِي رِثَائِهِ:

مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْ            تَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ

فَيَتَضَمَّنُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ: “مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ” تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ، وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيُشِيرُ قَوْلُهُ: “يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ” إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرًا صَرِيحًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَلِذَا لَمَّا حَضَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَحْفِلِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ لِعَزَاءِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَّتِهِ: مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَسَمِعَهُ الشَّيْخُ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْ الْمَيِّتِ، وَالشُّعَرَاءُ كَثِيرًا مَا يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ . وَهَذَا الْقِسْمُ شَرُّ الْمَرَاثِي. وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ صَغِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَيُهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجرِهِمْ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ، يَكُونُ حَرَامًا صَغِيرَةً”.

قلتُ: وقد استشكلت هذا القسم من حيث إنه صغيرة مع كونه حراما والظاهر أن منع هذا يكون من باب سد الذريعة إلى ما يؤدي إليه من المحرمات، والله أعلم.

“وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ فِيهِ دِينُ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ، يَكُونُ مُبَاحًا خَالِيًا عَنْ التَّحْرِيمِ.

وَأَمَّا ضَابِطُ الْمَنْدُوبِ مِنْ الْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ زَادَ عَلَى مَا فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ وَحَثِّهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ، يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ.

وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ، فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا دخل عليه قال:

اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا       صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ

خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ                 وَاَللَّهُ خَيْرٌ مِنْك لِلْعَبَّاسِ

فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سَرَّى عَنْهُ عَظِيمَ مَا كَانَ بِهِ.

وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاءِ، مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ، مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ، مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ، مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ.  َعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ َالْمَرَاثِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ “. انتهى باختصار وهو كلام حسن جداً.

المطلب الثاني: في صفة التعزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وما يكون فيها

جاء لفظ تعزية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته بقوله: ( ِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) رواه البخاري (1284) ، ومسلم (923)، وجاء في تعليمه -صلى الله عليه وسلم- من أصيب بمصيبة أن يقول اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها كما جاء ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم تصيبه مصيب فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيرا منها” رواه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها، ونص أهل العلم على جواز ما شاكلها من الألفاظ كقول المعزي للمعزى: البقاء لله أو أحسن الله عزاءك أو نحو ذلك، ومن الناس من يقول في تعزيته : (البقية في حياتك)، فأجاب عن ذلك سماحة الشيخ العلامة الخليلي -أبقاه الله- بأن هذا من باب تمني طول العمر للمعزى، فلا حرج فيه … انتهى باختصار ( الكتاب السادس من الفتاوى ص142).

والسنة أن يصنع أهل الخير من الجيران والأصحاب لأهل الميت طعامًا؛ لاشتغالهم بمصيبتهم، دل على ذلك حديث عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ))، رواه أبو داود في كتاب الجنائز والبيهقي في الصغرى في كتاب الجنائز من حديث عبد الله بن جعفر.

المطلب الثالث: في أمد التعزية هل لها أمد تنتهي إليه أو أنها ليس لها أمد

فمن العلماء من حدها بثلاثة أيام أخذاً من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- عند الإمام الربيع بن حبيب -رحمه الله- وغيره ” لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا” وهو مذهب شيخنا العلامة الخليلي – أبقاه الله -يُنظر الكتاب السادس من الفتاوى ص143-ص144.

ومن أهل العلم من لم ير حداً محدودا للتعزية وقد أجاب عن حديث أم سلمة بأنه خاص بالإحداد، والإحداد غير التعزية، ولأنَّ المقصودَ بالتعزيةِ الدُّعاءُ، والحَمْلُ على الصَّبْرِ، والنَّهْيُ عن الجَزَعِ، وتقويةُ المصابِ على تحمُّلِ هذه المصيبةِ، واحتسابُ الأجرِ، وذلك يحصُلُ مع طولِ الزمانِ إلى أن تُنْسَى المصيبةُ، وهذا القول وجهٌ عند الشافعية، وقد قال به بعض علماء الحنابلة كابن تيمية وابن عثيمين وابن باز والله أعلم.

المبحث الثاني: فيما استجد من أمر التعزية إلى زماننا هذا، وفيه مطلبان

المطلب الأول: في اتخاذ الناس مكاناً للتعزية وصنع طعام للمجتمعين: وكلام أهل العلم فيه

جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب ورقم السؤال215016 ما أنقله للفائدة مع تصرف (وهذه المسألة من مسائل الخلاف المعتبر بين أهل العلم، وللعلماء فيها اتجاهان: الاتجاه الأول: لا يرى الاجتماع لأجل العزاء، وأن هذا الاجتماع مكروه، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية، وصرح بعضهم بالتحريم، وأقوى ما استدل به القائلون بالكراهة أمران:

1- أثر جرير بن عبد الله قَالَ: (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ: مِنْ النِّيَاحَةِ). رواه أحمد (6866)، وابن ماجه (1612).

2- أن هذا الأمر لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه، فهو من المحدثات، وفيه مخالفة لهدي السلف الصالح، الذين لم يجلسوا ولم يجتمعوا للعزاء. قال الإمام الشافعي: ” وَأَكْرَهُ الْمَأْتَمَ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُكَاءٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ، وَيُكَلِّفُ الْمُؤْنَةَ مَعَ مَا مَضَى فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ”. انتهى من “الأم” (1/318). قال النووي: ” أَمَّا الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ عَلَى كَرَاهَتِهِ … قَالُوا: بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفُوا فِي حَوَائِجِهِمْ، فَمَنْ صَادَفَهُمْ عَزَّاهُمْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي كَرَاهَةِ الجلوس لها …”. انتهى من “المجموع شرح المهذب” (5/306). وقال المرداوي: “وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَنصَّ عَلَيْهِ ” انتهى من ” الإنصاف” (2/ 565). وقال أبو بكر الطُرطوشي :”قال علماؤنَا المالكيون: التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به، فإنه لما جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم نعيُّ جعفر؛ جلس في المسجد محزوناً، وعزاه الناس”. انتهى من “الحوادث والبدع” (ص:170). انتهى.

وقد نقل بعض عن الإمام محمد بن عبد الله الخليلي -رحمه الله- أنه كتب إلى أحد الناس معتذراً إليه عن عدم الوصول لتعزيته (ونعتذر عن الوصول لأنه ليس من سنة الرسول) وعقَّب على هذا سماحةُ الشيخ العلامة الخليلي -أبقاه الله- بأن السلف كانوا يعزون المصابَ أينما وجدوه ولا يُعنَون بالذهاب إليه وإنما كانوا يسعون إلى دفن الميت ويجتمعون عليه، وقد كان الإمام رحمه الله أميلَ إلى مسلكهم لدفع الكلفة عن الناس، والله أعلم. انتهى من الكتاب السادس من الفتاوى ص145. وأما الاتجاه الآخر: فلا يَرى حَرجاً من الاجتماع والجلوس للتعزية إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع، ومن تجديد الحزن وإدامته، ومن تكلفة المؤنة على أهل الميت، وهو قول بعض الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة، ينظر: “البحر الرائق” (2/207)، “مواهب الجليل” (2/230). قال ابن نُجيم الحنفي: “وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ إلَيْهَا ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ”. انتهى من ” البحر الرائق” (2/207). وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، نقلها حنبل والخلال. قال المرداوي: ” وَعَنْهُ: الرُّخْصَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّى وَجَلَسَ، قَالَ الْخَلَّالُ: سَهَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْجُلُوسِ إلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ …، وَعَنْهُ: الرُّخْصَةُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، نَقَلَهُ حَنْبَلٌ وَاخْتَارَهُ الْمَجْدُ [ابن تيمية]. وَعَنْهُ: الرُّخْصَةُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَلِغَيْرِهِمْ، خَوْفَ شِدَّةِ الْجَزَعِ”. انتهى من “الإنصاف” (2/565). وقال ابن عبد البر في “الكافي” (1/283):”وأرجو أن يكون أمر المتجالسة في ذلك خفيفاً ” انتهى٠وأقوى ما استدل به القائلون بالجواز:

1- حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ : كُلْنَ مِنْهَا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:(التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). رواه البخاري (5417)، ومسلم (3216). [التلبينة: هي حساء يعمل من دقيق ونخالة، وربما جعل معه عسل، وسميت به تشبيها باللبن، لبياضها ورقتها]. فهذا الحديث فيه الدلالة الواضحة على أنهم كانوا لا يرون في الاجتماع بأساً، سواء اجتماع أهل الميت، أو اجتماع غيرهم معهم.

2- وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ:”لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ، لاَ يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: ” وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ “. رواه ابن أبي شيبة في “المصنف” (3/ 290)، وعبد الرزاق الصنعاني (3/ 558) بسند صحيح. وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ، أي ما لم يرفعن أصواتهن أو يضعن التراب على رؤوسهن.

وأجاب هؤلاء عن أثر جرير بن عبد الله بجوابين:

  • الأول: أن الراجح فيه أنه ضعيف، فقد أعله الإمام أحمد، والدراقطني. فهذا الاثر رواه أحمد بن منيع في “مسنده”، وابن ماجه في “السنن” (1612)، والطبراني في “المعجم الكبير” (2/307) من طريق هُشيم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير به. وهذا سند ظاهره الصحة، فإن رواته أئمة حفاظ ثقات، لذلك صححه جماعة من أهل العلم كالنووي في “المجموع” (5/320)، وابن كثير في “إرشاد الفقيه” (1/241)، والبوصيري في “مصباح الزجاجة” (1/289)، والشوكاني في “نيل الأوطار” (4/148)، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (11/126)، والألباني في “أحكام الجنائز” (ص/210)، وكذا محققو مسند أحمد (11/505) وغيرهم. غير أن في الحديث علة خفية بينها الحفاظ والنقاد، هي تدليس هشيم بن بشير، فإنه على ثقته كان كثير التدليس والإرسال، وأحياناً عن الضعفاء والمجاهيل.

يقول الحافظ الذهبي في “تذكرة الحفاظ” (1/249):” لا نزاع في أنه كان من الحفاظ الثقات، إلا أنه كثير التدليس، فقد روى عن جماعة لم يسمع منهم ” انتهى. ولذلك أعل بعض الحفاظ المتقدمين حديث جرير هذا بتدليس هشيم فيه: قال أبو داود: ” ذَكَرْتُ لِأَحْمَدَ حَدِيثَ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ: ” كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ “. قال: زعموا أنه سمعه من شريك، قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا أُرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلاً”. انتهى من “مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني” (ص: 388). وجاء في “العلل” (13/462) للدارقطني ما يشعر باحتمال تدليس هشيم له، فإن كان المدلَّس هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي فهي رواية ضعيفة، فإنه ضعيف الحديث عند عامة المحدثين، ومثله لا يقبل تفرده بحديث ينبني عليه حكم شرعي بالتحليل أو التحريم. نعم، تابعه نصر بن باب كما في مسند أحمد (6905) غير أن نصراً هذا جاء في ترجمته في “تعجيل المنفعة” (ص/420): ” قال البخاري: يرمونه بالكذب، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال علي بن المديني: رميتُ حديثه، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال أبو خيثمة زهير بن حرب: كذاب”. انتهى. فلا تقوى متابعته على تحسين رواية شريك، بل هناك احتمال قوي بأن المدلَّس في رواية هشيم هو نصر بن باب نفسه وليس شريكاً٠

  • الثاني: على القول بصحته فالمقصود منه: الاجتماع الذي يكون فيه صنعٌ للطعام من أهل الميت لإكرام من يأتيهم ومن يجتمع عندهم، ولذلك نص في الأثر على الأمرين : ( كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ : مِنْ النِّيَاحَةِ ) ، فاجتماع هذين الوصفين معاً ، هو الذي يعد من النياحة. قال الشوكاني:‏ “‏ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ وَأَكْلَ الطَّعَامِ عَنْدَهُمْ نَوْعًا مِنْ النِّيَاحَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّثْقِيلِ عَلَيْهِمْ وَشَغْلِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شُغْلَةِ الْخَاطِرِ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَصْنَعُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا فَخَالَفُوا ذَلِكَ وَكَلَّفُوهُمْ صَنْعَةَ الطَّعَامِ لِغَيْرِهِمْ “. انتهى من ” نيل الأوطار” (4/ 118) انتهى النقل.

يبقى الكلام على فعل عائشة -رضي الله عنها- الذي فيه أنها مع اجتماعها لاستقبال المعزين لها فيمن مات من أهلها كانت تصنع طعاماً فمن أين ساغ لها ذلك؟ والجواب أنها إنما كانت تصنع طعاماً لخاصتها وهم الذين لهم علاقة إما سببية أو نسبية للميت وليس لكل النساء المجتمعات وهذا الذي جاء في الرواية منصوصاً عليه (أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا…)، وقد أفتى سماحة الشيخ العلامة الخليلي أبقاه الله بجواز تناول الطعام للملازمين للعزاء ما داموا مشتركين في المصاب وفي العبء. (ينظر الكتاب السادس من الفتاوى ص175)، كما شدد سماحة الشيخ العلامة أبقاه الله في الأكل المتبرع به للعزاء فقال إن كان الأكل ممن [كذا ولعلها لمن] يأتي للعزاء من غير أصحاب المصيبة فلا يسلم الآكل من الوزر ولا ثواب للمنفق واله أعلم (الكتاب السادس من الفتاوى ص159)، وسيأتي أن ثمة محاذير استجدت في زماننا هذا تقتضي سد باب الجلوس للتعزية، والله الموفق.

المطلب الثاني: ما أحدثه الناس من مخالفات شرعية

في التعزية ودور أهل العلم في التحذير من ذلك:

  • أولاً: الولائم للمعزين
  • ثانياً: استئجار قارئ للقرآن بمبالغ كبيرة لأحياء ليلة من ليالي العزاء كما يسمونها واستعراض القارئ مهارته في تنغيم صوته وارتفاع الأصوات إعجاباً به دون خشوع أو تدبر لما قرأ من وعيد أو زجر مع ما يصاحب ذلك من تقديم التعزية أثناء قراءة القرآن ومن شرب للدخان والعياذ بالله، وقد أفتى سماحة الشيخ العلامة الخليلي أبقاه الله من سأله عن رأيه فيمن يقوم بالتأجير على قراءة القرآن عن ميت بأن الأجرة على القرآن غير جائزة وقراءته عن الغير أمر غير معهود عن النبي صلى الله عليه وسلك والصدر الأول من هذه الأمة والأولى اتباعهم والله أعلم. (انتهى من الكتاب السادس من الفتاوى ص167)، ومن الناس من يأمر بقراءة القرآن طوال أيام العزاء أو في آخر يوم من أيام العزاء وقد قال سماحة الشيخ العلامة أبقاه الله في ذلك ما نصه: (ينبغي ترك ذلك لما قد يترتب عليه من المحاذير والله أعلم، وذكر في جواب آخر المحاذير التي أشار إليها، وهي أن قراءة القرآن تكون مع اشتغال الآخرين بحديث الدنيا مع ما يتخلله من الضحك والهزل والقارئ يقطع قراءته ويقف قائما عندما يدخل الداخل وكل ذلك ينافي ما أمر الله به في قوله: “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون” فأين الاستماع والإنصات من هؤلاء الذين لا يجلون كلام الله فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى من فتاوى الكتاب السادس ص 161،ص162.

المبحث الثالث: ما يصيب المعزى والمعزي من الرهق والتكلف والأذى وفيه مطلبان

المطلب الأول فيما يصيب المعزى من الرهَق:

– أولاً: الالتزام باستقبال المعزين من أول الصباح حتى المساء ولو كانت الوفاة في ساعة متأخرة من الليل.

– ثانياً: التزام المعزى بتوفير الطعام للجموع الغفيرة التي تأتي معزية ولو كان ذلك مقصورة على التمر والقهوة لأن أحوال الناس متفاوتة وما يستطيعه زيد قد يتكلفه عمر فسد هذا الباب رفعا للحرج عن غير القادر مطلوب.

– ثالثاً: احتباس المعزى لاستقبال المعزين يؤدي إلى تعطيل مصالح قد تكون ضرورية أو حاجية للمعزى أو لمن يقوم بشأنهم وليس ثمة من يقوم مقامه أو لا يمكن أن يقوم بها غيره.

– رابعاً: ضَيق المكان لاستقبال المعزين؛ لأنه ليس كل الناس لديهم مجلس يستقبل فيه المعزون وبعض المجالس محدودة المساحة جداً ولو نقلوا التعزية في المسجد فإن للمسجد حرمته، وكثيراً ما يحدث اللغط في المساجد وحديث الدنيا فضلا عن القول الهُجر، ولا ننسى أن من المعزين من فئة النساء اللاتي يأتين زرافات ووحداناً إلى أهل المصاب وقد لا يوجد متسع في بيت العزاء فيضطر أهل المصاب فتح بعض الغرف الخاصة في البيت لاستيعاب هذه الجموع وقد يطلعن على ما لا ينبغي الاطلاع عليه! والبعض يضطرون اضطرارا إلى استئجار خيمة تنصب عند بيت أهل المصيبة! وفوق ذلك لا تلتزم كثير من النساء بالأوقات المتاحة للتعزية بل يأتين قبل الوقت ويخرجن إلى وقت متأخر من الليل.

المطلب الثاني: ما يقع على المعزي من التكلف والأذى

  • أولاً: نظراً إلى اتساع المعارف والعلاقات بين الناس أصبح الوطن الواحد قرية صغيرة، فالروابط كثيرة منها رابطة النسب ومنها رابطة السبب ومنها رابطة العمل ومنها رابطة الدراسة بل ربما تمتد هذه الروابط إلى خارج القطر فتجد المعزي يزمع السفر من أقصى البلاد، للقيام بالعزاء في أقصاها ولربما خرج في أول النهار ووصل ظهرا أو قريباً من الظهر ويريد بعد ذلك أن يستأذن فيجد المعزى في نفسه تقصيرا إن هو سمح له بالرجوع في ذلك الوقت ويجد المعزي حرجاً في أن يأكل من بيت العزاء إن هو أجاب ولربما تبادل المعزي والمعزى الأيمان فيقع الحنث من أحدهما وهذا واقع مشاهد، وقد أبى سماحة الشيخ العلامة الخليلي الترخيص لمن رام أن يولم لمن جاء من مسافة تصل إلى مائتي كيلو متر أو أكثر، وقد يصلون وقت غداء أو عشاء وهم قاصدون صاحب العزاء مع العلم الناس لا تكف ألسنتهم في حالة ما إذا لم يكرم صاحب العزاء مزوريه الآتين من تلك الأماكن البعيدة، فأجاب -حفظه الله-: لا ينبغي فتح هذا الباب للناس، وما على الإنسان من ألسنة الناس إن كان هو على سبيل الحق ومسلك الرشد فإن الحق أحق أن يتبع والله المستعان انتهى من فتاوى الكتاب السادس ص16.
  • ثانيا: مخاطر الطريق التي تعترض المعزي فكم سمعنا من حوادث أليمة راح ضحيتها المعزون ولربما تجشموا السفر في أوقات الأنواء المناخية فخاطروا بأرواحهم كل ذلك من أجل ألا يعتب عليهم المعزى!
  • ثالثاً: إصرار البعض على تقديم التعزية بعد ثلاثة أيام وهذا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا عزاء بعد ثلاث بناء على جعل من حديث أم سلمة رضي الله عنها دليلا على حصر التعزية في الثلاث الأيام وهو اختيار شيخنا العلامة الخليلي أبقاه الله – وباعث ذلك اللوم الذي يخشاه من صاحب المصيبة والأصل أن يحسن المسلم الظن بأخيه المسلم فلعله لم يعلم إلا بعد انقضاء مدة العزاء أو أنه لم ينتبه أو أنه نسي.

خاتمة في الحلول المقترحة

المقترح الأول: سنُّ قانون بقصر العزاء على وسائل الاتصال الحديثة، وفي المقولة المشهورة على الألسنة: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وليس بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بل أكثر العلماء ينسبونه إلى ذي النورين عثمان بن عفان من الصحابة -رضي الله عنهم- ومعناه صحيح، وقد كان للدولة دور محمود في القضاء على مخالفات شرعية في العزاء، منها منع الولائم ومنها الاقتصار على التمر والقهوة ومنها تحديد وقت للعزاء مدة ثلاثة أيام بناء على قول من قال بالتحديد، وقد تقدم ذكر القول المعارض له بحيث ينتهي بغروب الشمس وقد حدثت استجابة كبيرة لتلك القرارات، فإذا ما سن قانون يقصر العزاء على وسائل الاتصال الحديثة إلا للأقارب والأرحام فإن الناس سيستجيبون وسيرتفع عن المعزي وعن المعزى حرج ورهق كبيرين عندما يكون القرار من الدولة.

– المقترح الثاني: توعية الناس بأن العادات قد تتغير إن اكتنفتها مخالفات شرعية وما كان صالحا في وقت قد يتغير صلاحه بتغير المجتمع وقد تبين لك أخي القارئ حجم المخالفات والضرر الذي يلحق بالمعزي والمعزى، وعندنا من الوسائل البديلة ما يجعلنا نحافظ على أن نكون معا في آلمنا دون أن نعرض بعضنا بعضاً للمخاطر والمخالفات الشرعية.

المقترح الثالث: الوسائل المتاحة الواتس آب وأمثاله من وسائل التواصل بحيث يمكن أن تنشأ مجموعة واتسآب لتقديم التعزية من غير أن ينتظر المعزي رداً من المعزى أو إرسال رسالة نصية أو صوتية على الخاص. وقد سئل سماحة الشيخ العلامة أبقاه الله عن حكم التعزية لي الصحف والمجلات فقال إن أريد بها المواساة لا المباهاة فليس فيها حرج، والله أعلم. (ينظر الكتاب السادس من الفتاوى ص168)

هذا ما يسر الله كتابته، فإن أصبت فمن الله وأن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه، والله أسأله قبول هذا العمل وغيره من أعمالي الصالحة عنده “إن ربي قريب مجيب”، وأن ينفع به عباده، “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”.

كان الفراغ من هذا البحث بتيسير الله في مسجد النور بقرية الجناة من وادي بني رواحة بولاية سمائل ليلة الثامن من شهر شوال عام خمسة وأربعين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والحمد لله رب العالمين.

لتحمـيل البحث اضغط هنا


– صورة المقال منقولة.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.65 ( 1 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى