اللغة

الاختيارات اللغوية في برهان الحق (3)

إبراهيم بن عبدالله بن سالم آل ثاني

مر في المقالين السابقين ذكر أربع مسائل، وفي هذا المقال ذكر ثلاث اختيارات لغوية للشيخ الخليلي –حفظه الله- من كتابه برهان الحق.

المسألة الخامسة: هل يلزم في الاحتجاج بالشعر معرفة قائله ورواته؟

مما قيل في النحو إنه علم طبخ حتى احترق؛ وليس الأمر كذلك، بل إن العلوم كلها إن بحث فيها تشعبت وطال ذيلها، وسبحان العليم القائل: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، والناظر في علم النحو يجده مع كثرة ما ألف فيه محتاجا إلى مزيد بحث في أبواب أصوله، ومن أمثلة ذلك ضوابط ما يحتج به من اللغة، وقد جمع السيوطي في المزهر قدرا جيدا من الكلام عما يحتج به من اللغة وما لا يحتج به وعن نقلها[1]، منه شذرات من كلام جماعة من النحاة الأوائل والذين سبقوه، مع حضور عقلية المحدِّث لديه، ولا عجب فالعلوم اللغوية والشرعية متداخلة، وبينها وشائج تربط بينها، لكن في المقابل لا بدَ من مراعاة خصوصية كل علم منها، وما تقتضيه ماهيته ومواضيعه.

بعد هذه المقدمة نلج في المسألة التي نريد ذكرها؛ وهي هل يلزم في الاحتجاج بالشعر معرفة قائله ورواته؟ فقد احتج المؤلف بقول الشاعر –والبيت في الصحاح للجوهري، ومنسوب في غيره إلى الأخطل-:

قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق

ثم ذكر تعقبات ابن القيم على الاستدلال بالبيت، مع ردود المؤلف على اعتراضات ابن القيم، ومنها هذا النص المراد من المسألة:

“ونعجب من مطالبة ابن القيم بالإسناد في عزو الشعر إلى قائله، وما ذلك إلا من مراوغته في المجادلة، وإلا فأين الأسانيد التي جاء بها هو عندما يستشهد بالأشعار، فكيف يطالب غيره بما لم يفعله بنفسه؟! على أن الناس ما زالوا يتناقلون الأشعار ويستشهدون بها من غير أن يلتزموا ذكر أسانيدها، ناهيك بابن عباس -رضي الله عنهما- في حواره مع نافع ابن الأزرق، فكم عضد ما يقوله بالشعر العربي من غير أن يذكر سند شيء منها إلى قائله، وهذه كتب التفسير مليئة بالشواهد الشعرية ولم يكن في شيء منها ذكر أسانيد يتعزز بها نسب تلك الشواهد إلى قائليها، ناهيك بابن جرير الطبري وابن أبي حاتم فإنهما مع عنايتهما بإسناد الأقوال المأثورة عن السلف في التفسير لم يسندا شيئا من الشعر قط”[2].

ويظهر منه أن المؤلف يرى عدم الحاجة إلى معرفة قائل البيت ولا إسناده –مع تنبيه سيأتي- محتجا بأمرين:

  • أولهما: عدم إتيان الخصم بإسناد ما يحتج به من أشعار، وهذا الأمر حجة على الخصم مقبولة في باب الجدل والمناظرة –والمقام هنا كذلك-، لكنه ليس حجة في إثبات المسألة أصالة.
  • ثانيها: أن الناس –وهو عموم يراد منه الخصوص وهم علماء اللغة ونقلتها- لم يلتزموا ذكر الإسناد في نقل الأشعار التي يستشهدون بها، ومثل له بفعل ابن عباس مع نافع ابن الأزرق، وبما في كتب التفسير لا سيما الذين يعتنون بالأسانيد كالطبري وابن أبي حاتم.

وفي النص مسألتان:

الأولى: معرفة قائل البيت، والصحيح عندهم عدم لزوم معرفة القائل ما دام الناقل ثقة -مع وجود الخلاف- فاللغة تؤخذ من العدول وغيرهم، بل من المشركين، ومن الصغار والكبار، بل حتى من المجانين كما نص على ذلك النحاة[3]، قال ابن هشام: “ولو صح ما قاله – يعني سقوط الاحتجاج بيت للجهل بقائله- لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه، فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها، وخمسين مجهولة القائلين”[4]، والصحيح أن الأبيات غير المنسوبة في الكتاب تزيد على ذلك بكثير[5].

الثانية: إسناد البيت، وهنا ينبغي أن نفرق بين حالين، الأولى: الاحتجاج بأبيات نقلت في كتب اللغة الموثوقة ورواتها معروفون، فهذه الأبيات لا يحتاج معها إلى التوقيف على نقلتها كالمعلقات وغيرها.

والثانية: ما نقله أهل اللغة أو غيرهم مما لم يعرف رواته، فهنا حصل الخلاف بينهم على نحو الخلاف في المرسل من الأحاديث، وينبغي أن يكون التشدد في نقل اللغة أخف. وإذا كان ما ينقله الجوهري وغيره من أرباب العربية الموثوقين من اللغة نثرا مقبولا، فما الفرق بينه وبين ما ينقلونه شعرا؟

المسألة السادسة: الفرق بين المجاز والحقيقة

من المسائل التي بحثها اللغويون والبلاغيون والأصوليون مسألة الضابط في التفريق بين الحقيقة والمجاز([6])، وكان مما ذُكِرَ مما تتميز به الحقيقة من المجاز صحة نفي المجاز، وللمؤلف رأي مخالف لهذا الرأي الذي قال به بعض أهل العلم فليس صحة نفي المجاز عنده هي الضابط في التمييز بينهما، وهذا نصُّ كلامه ردّا على ابن القيم؛ قال: “إن من التناقض أن يرجع مؤلف هذا الكتاب إلى إقرار المجاز بعد أن اشتد إنكاره له وعدَّه طاغوتا، فتراه هنا يقره، ويرى أن التفرقة بينه وبين الحقيقة بأن المجاز يصح نفي حقيقة لفظه عما تجوِّز به فيه بخلاف الحقيقة، وقد سبق لنا في تفسيرنا عندما نقضنا الوجوه التي جاء بها في إنكاره للمجاز أن بينا أن الفارق بين الحقيقة والمجاز ليس هذا الذي ذكره، وإن قاله بعض أهل العلم”([7]).

ثم علل ذلك بقوله: “ذلك لأن الحقيقة قد تنفى تجوزا لأجل تعميق معنى في النفس، فيكون المنفي ليس هو أصل الحقيقة، ولكن شيء من ملابساتها”.

واحتج لكلامه بثلاثة أمثلة من القرآن الكريم:

  • “قوله تــعـالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج: ٤٦، إذ ليس المراد فيه نفي صفة العمى عن الأبصار التي تؤاف به، كيف والله تعالى يقول {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } النور: ٦١، ويراد به عمى العين لا عمى القلب”([8]).
  • “ومثله قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} عبس: ١ – ٢ ، إذ لا ريب أن العمى فيهما إنما هو عمى البصر لا البصيرة وهو الأصل في صفة العمى إذا أطلقت، وبهذا تدرك أن قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} هو مجاز أريد به التنبيه على خطورة عمى القلوب حتى كأن عمى الأبصار لا يعد بجانبه شيئا”([9]).
  • “ومثل ذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الأنفال: ١٧، فإن نفي القتل والرمي عمن هما واقعان منه وإسنادهما إلى الله I لأجل أن فعل العباد لا أثر له إن جانبه التوفيق للنجاح من قبل الله تعالى، فالله هو المؤثر بفعله، وأفعال العباد إنما تستمد تأثيرها من أفعاله تعالى ، وهذا لا ينافي  كون العباد فاعلين باختيارهم، ويترتب على أفعالهم من النتائج الإيجابية والسلبية ما يستحقون بسببه الثواب أو العقاب، فالقتل يسند إلى البشر حقيقة كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ…} النساء: ٩٢ الآية، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء: ٩٣”([10]).

وذكر في جواهر التفسير أنَّ صحة نفي المجاز إنما هي مجرد أمارة من الأمارات التي قد يفرق بها بين الحقيقة والمجاز، وهما متميزان بغيرها، ولا تتوقف معرفتهما عليها([11])، وتعرض في نقاشاته فيه إلى بعض ما ذكره أهل العلم مما تتميز به الحقيقة من المجاز([12])، ولعل المميز الفارق بين الحقيقة والمجاز عند المؤلف هو ما ذكره في هذا النص؛ قال: “وإنما يكفي في التمييز بين الحقيقة والمجاز أن تكون الحقيقة ترتسم صورتها في ذهن سامعها بمجرد إطلاق لفظها –كما قلنا- وذلك كالإنسان للجنس البشري، والثور لذكر البقر، والحصان لذكر الخيل، والجمل لفحل الإبل، والتيس لفحل الغنم، والرجل للذكر من الجنس البشري، وهكذا جميع الأسماء التي يستحضر الذهن ماهيات مسمياتها بمجرد إطلاقها، كالشمس والقمر والماء والنار والحياة والموت والليل والنهار والبر والبحر، وأن المجاز لا ينصرف الذهن إلى استحضاره إلا عندما تشخصه القرينة أنه مراد القائل، وتمنع من إرادة المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ، ويكفي ثبوت كون تلكم الأسماء دالة على تلكم المسميات بأعيانها في حال تجردها عن القرائن في الدلالة على أنها موضوعة لها”([13]).

المسألة السابعة: المعارج جمع معرج

قال المؤلف في برهان الحق: “قال ابن العربي: ذو المعارج: الذي يتولى المنازل ويصرف الأمور على المراتب وينزل المأمورين على المقادير، فيكون من صفات الفعل، والمعارج واحدها معراج وهو ما تعرض عليه الملائكة والروح…”([14]) -ثم قال المؤلف بعد كلام- قلت: الأقرب حسب مقاييس اللغة أن تكون المعارج جمع معرج وهو الذي ذكره إمام اللغة الخليل بن أحمد([15]).([16])

والحاصل أن اللغويين والمفسرين ذكروا أن مفرد معارج: معراج، ومعرج([17]).

ورأى المؤلف أن معرج هو الأقرب إلى مقاييس اللغة؛ وذلك لأن مفعل جمعه مفاعل، وله أمثلة كثيرة، أما جمع مفعال فالأصل فيه أن يجمع على مفاعيل كمفتاح ومفاتيح وقد تحذف الياء فيقال مفاتح، وحذف الياء في مفاعيل ونحوه مما اختلف النحاة فيه؛ أقياسٌ هو أم ضرورة؟ فرأى الكوفيون وبعض النحاة جوازه قياسا، ورأى البصريون أن ما رود منه ضرورة أو مؤول([18]).

وكلام الخليل الذي أشار إليه المؤلف قوله في العين: “والمعارج في قول الله عز وجل: “من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه ” جماعة المعرج.”([19]).

لتحميل المقال اضغط هنا


([1]) المزهر في علوم اللغة وأنواعها: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، إبداع-جمهورية مصر العربية، ط1: 1441هـ/2019م، ص68-75، ص92-120.

([2] ) برهان الحق، 5/205.

([3]) السيوطي: المزهر، ص92-95.

([4]) السيوطي: المزهر، ص95.

([5]) ينظر بحث رمضان عبد التواب (أسطورة الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه) ص89-14-، ضمن كتاب بحوث ومقالات في اللغة، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط3: 1415هـ-1995م.

([6]) انظر مثلا:

– المحصول: فخر الدين محمد بن عمر الرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط3: 1418هـ/1997م، 1/345-349.

– الفلك الدائر على المثل السائر: عبد الحميد بن هبة الله ابن أبي الحديد، تحقيق: أحمد الحوفي، بدوي طبانة، دار نهضة مصر، الفجالة ـ القاهرة، 4/81-86، (مطبوع بآخر الجزء الرابع من المثل السائر).

– السيوطي: المزهر، 236-238.

([7]) برهان الحق: الخليلي، 5/318.

([8]) برهان الحق: الخليلي، 5/318.

([9]) برهان الحق: الخليلي، 5/318.

([10]) برهان الحق: الخليلي، 5/318-319.

([11]) ص157، مكتبة الاستقامة-مسقط، ط1: 1425هـ/2004م.

([12]) انظر مثلا: ص185، ص189، ص202 من جواهر التفسير: الخليلي، جزء خاص.

([13]) جواهر التفسير: الخليلي، جزء خاص، ص223-224.

([14]) القرطبي: الأسنى شرح أسماء الله تعالى وصفاته، ص150-152.

([15]) انظر: الفراهيدي: العين، باب العين والجيم والراء معهما، 1/223.

([16]) برهان الحق، ج7 ص193.

([17]) الصحاح: الجوهري، مادة عرج.

([18]) النحو الوافي: عباس حسن، دار المعارف، ط:15، 4/672.

([19]) العين: الخليل، باب العبن والجيم والراء معها.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.28 ( 2 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى