اللغة

الاختيارات اللغوية في برهان الحق (1)

إبراهيم بن عبدالله بن سالم آل ثاني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله وصحبه والتابعين لهم بإحسان؛ أما بعد:

فـ(برهان الحق) موسوعة علمية، وهي كما وصفها مؤلفها (دراسة معمقة في تأصيل العقيدة الإسلامية ودرء الشبه عنها بالأدلة العقلية والنقلية) بلغت 16 جزءا، وهذه الموسوعة تحمل في طياتها دررا من المسائل في غير علم العقيدة، وفي هذا المقال وما بعده -بإذن الله- أحببت أن أجمع الاختيارات اللغوية للشيخ الخليلي –حفظه الله-، وهي -كما هو معلوم- ليست مقصودة ابتداء بل جاءت لغرض استعمالها في المناقشة العلمية لما وضع الكتاب لأجله، لذلك فهي تختلف في طريقة عرضها في الكتاب بحسب حاجة المؤلف إليها، ولكني سأعرضها هنا مع بيانها مختصرة مع شيء مما قيل فيها، والراجح عند المؤلف، ذاكرا أدلة المؤلف إن وجدت، وقبل ذلك أنبه على أمور وهي:

  • أن هذا المقال لا يذكر مناقشة المصطلحات الشرعية وأصولها اللغوية التي ذكرها المؤلف، فهي كثيرة جدا لا يستوعبها مقال بل تحتاج إلى بحث مستقل.
  • ولا يحوي هذا المقال أيضا تنبيهات المؤلف في كتابه على الأخطاء اللغوية، ولها مقال آخر إن شاء الله.
  • ولا كذلك المسائل اللغوية المتعلقة بتفسير نص آية أو حديث أو نص آخر.
  • ولا المسائل التي لا خلاف فيها، أو كانت مقررة في العربية لكنه اعترض بها على فهم أو استدلال خاطئ، إلا ما جعلته بمنزلة ما فيه خلاف.
  • ولا المسائل التي ذكر فيها الخلاف من غير ترجيح.
  • ولا كذلك فيما قد يثور النقاش اللغوي فيه من مسائل لأجل الخلاف العقدي مع كونها محسومة عند اللغويين كما هو الحال في كثير من مسائل الحقيقة والمجاز.

المسألة الأولى: دلالة كان على غير المضي في صفات الله.

اختلف النحاة في مجيء كان دالة على غير المضي في نحو قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} النساء: ١٥٨، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: ١٧]، ويشمل هذا الخلاف غيرها من المواضع أيضا من نحو قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

فذهب جماعة من النحاة إلى عدم إفادتها المضي، منهم ابن عطية صاحب التفسير، فقد قال الزركشي: “وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة على الزمان”[1].

وكلام ابن عطية المشار إليه في تفسيره هو هذا: “وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ أي كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتا ماضيا”[2].

ونقل هذا القول الأزهري في تهذيب اللغة (ت 370هـ)، وذكره ثالث ثلاثة أقوال؛ قال: “وأَما قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً، وَمَا أَشبهه فَإِنَّ أَبا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَانَ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً لِعِبَادِهِ. وَعَنْ عِبَادِهِ قَبْلَ أَن يَخْلُقَهُمْ، وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ الْبَصْرِيُّونَ: كأَنَّ الْقَوْمَ شاهَدُوا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً فأُعْلِمُوا أَن ذَلِكَ لَيْسَ بِحَادِثٍ وأَن اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: كانَ وفَعَل مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعلم. وَاللَّهُ عَفُوٌّ غَفُور؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، وأَما الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَمَعْنَاهُ يؤُول إِلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَسِيبَوَيْهِ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْحَالِ يَقِلُّ، وصاحبُ هَذَا الْقَوْلِ لَهُ مِنَ الْحُجَّةِ قَوْلُنَا غَفَر اللَّهُ لِفُلَانٍ بِمَعْنَى لِيَغْفِر اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ الْمَاضِي مؤدِّياً عَنْهَا اسْتِخْفَافًا لأَن اخْتِلَافَ أَلفاظ الأَفعال إِنَّمَا وَقَعَ لِاخْتِلَافِ الأَوقات. وَروي عَنِ ابْن الأَعرابي فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ أَي أَنتم خَيْرُ أُمة، قَالَ: وَيُقَالُ مَعْنَاهُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمة فِي عِلْمِ اللَّهِ”[3].

وهذا القول –أي الثالث- هو ظاهر اختيار الشيخ الخليلي، يدل على ذلك قوله:  (قلتُ: إنَّ (كان) في نحو ما ذكراه من أمثلة إنما تفيد تأكيد النسبة بين المسند والمسند إليه، ولا تفيد مضي وقوع هذه النسبة، ولذلك يتكرر في القرآن الكريم الإتيان بها في هذه الأمثال، كقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: ١٥٨]، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: ١٧]، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: ٩٦]، وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٤٣]، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: ٩٩]، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: ١٠٨]، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: ١٣٣]، فإنها لو حملت على معنى المضي في نحو هذه الآيات لكان مؤدى ذلك أن اتصاف الله سبحانه بهذه الأوصاف كان في الأزمنة الماضية، وأنها مسلوبة عنه في الحاضر والمستقبل، والحقيقة خلاف ذلك، فإن منها ما هو من صفات الذات، كالعزة، والعلم، والقدرة، ومنها ما هو من صفات الأفعال، كالعفو والمغفرة، ومنها ما هو دائر بين صفات الذات وصفات الأفعال بحسب بما يراد به من معنى، كالحكمة، والرحمة”[4].

وقال في موضع آخر أيضا: “قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 5]، ووجه الاستدلال به أن الله نفى أن يكون لبشر شرف تكليم الله تعالى له إلا بما ذكره من الوجوه، وأكد هذا النفي بتسليطه على (كان) لتأكيد تعذر وقوع المنفي، ولا يتقيد هذا النفي بزمان دون غيره لما سبق بيانه من أن صفات الله تعالى لا تتحول، فما كان انتفاء تكليمه لبشر إلا بوجه من هذه الوجوه إلا لعزته تعالى وجلاله، وهي صفات لا تتبدل، فلا يتبدل مقتضاها؛ إذ لا ينفك اللازم عن ملزومه، ولو جاز تبدلها لانقلبت إلى أضدادها، وهو عين المحال…”[5].

ويظهر من كلامه أن معناها هنا هو توكيد الكلام أو توكيد النسبة بين المسند والمسند إليه، وهذه فائدة قد تستخرج من كلام بعض النحاة بدلالة الالتزام.

أما القول الآخر فهو أنها لا تخرج عن معنى المضي حتى في هذه الأمثلة، فهي هنا دالة على المضي، لكنهم اختلفوا في دلالتها على الانقطاع على ثلاثة أقوال، قال الزركشي: “وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع على مذاهب:

أحدها: أنها تفيد الانقطاع؛ لأنها فعل يشعر بالتجدد.

والثاني: لا تفيده بل تقتضي الدوام والاستمرار، وبه جزم ابن معط في ألفيته حيث قال: وكان للماضي الذي ما انقطعا.

وقال الراغب في قوله تعالى: {وكان الشيطان لربه كفورا}: نبه بقوله كان على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر.

والثالث: أنه عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} قاله الزمخشري في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}”[6].

ومن نافلة القول التنبيه على اتفاقهم جميعا على وجوب اتصاف الله بصفات الكمال في الأزل وفيما لا يزال، وإنما الخلاف في دلالة كان في هذه الآيات، ثم الكلام على مدلول دوام الاتصاف بالصفة بها أو بغيرها معها أو بدونها.

ومصدر الإشكال التعارض الظاهر بين دلالة الفعل الماضي وبين المعنى الاعتقادي المقطوع به من وجوب وصف الله بصفات الكمال في الأزل وفيما لا يزال، وللقائلين بدلالتها على المضي توجيهات تلتقي وتفترق، منها ما سبق ذكره هنا.

وأقوال النحاة والمفسرين في هذه المسألة بينها تداخل ويحتاج بيان المسألة فيها إلى تحرير وضبط لموضع النزاع، وإلى فهم معنى كلامهم أهو في دلالة كان نفسها أم في مجمل دلالة الآية مع قرائنها؟ كما قد يقال في كلام ابن عطية إنه يقصد معنى الآية لا معنى كان، فقد يقر بدلالتها على المضي لكنها في ذلك الموضع غير منقطعة لدلالة غيرها من الأدلة والقرائن.

المسألة الثانية: (لن) تفيد تأكيد النفي وتأبيده

اختلف النحاة في معنى لن؛ هل تفيد التأكيد والتأبيد؟

فقيل: لا تفيدهما[7].

وقيل: تفيدهما معا[8].

وقد يذكر بعض النحاة أو المفسرين أحدهما فقط حسب مقتضى سياق الحديث.

والقول الثاني هو القول الذي اختاره المؤلف، قال: “ولن تفيد تأكيد النفي وتأبيده”[9].

وأطال المؤلف في هذه المسألة، وأتى فيها بما لا تجده في البحوث اللغوية المختصة ببحث هذه المسألة، والكلام فيها من صفحة 445 إلى 466 من الجزء الرابع من البرهان.

ونجمل كلامه في هذه المسألة في ثلاثة أمور:

  • الاستدلال على قوله بعشرات الآيات والأحاديث والشواهد الشعرية، وجمع هذه المادة الكبيرة من الشواهد في المسألة الواحدة ميزة نادرة، وهي متوافقة مع طول نفس المؤلف في نقاش المسائل؛ فقد ذكر أكثر من 50 آية، و7 أحاديث، و10 شواهد شعرية.
  • النقل عن كثير من النحاة والمفسرين ممن قالوا بما يوافق قوله، مع قلة من يذكر عادة ممن يقول بهذا القول، فنقل إفادة لن للتأبيد عن: الواحدي (ت 468هـ)، وابن عطية (ت 514هـ)، وابن عبد الهادي (ت 744هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، وابن عجيبة (ت 1224هـ)، وابن عاشور (ت 1393هـ)، و د. أحمد العوضي (معاصر)، ونقل نصوصا أخرى عن غيرهم يفهم منها ذلك، وقبل هؤلاء جميعا الربيع بن حبيب (ت 175هـ)، ونقله عن النحويين وأهل اللغة، قال: “لن حرف من حروف الإياس عند النحويين وأهل اللغة”[10].
  • تقصي استدلالات القائلين بعدم إفادتها التأبيد أو التأكيد ومناقشتها مناقشة طويلة من الجانبين اللغوي والعقدي، فناقش كلام الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان، وابن عاشور في تفسيره، وأبي السعود في تفسيره، وكلام ابن الخطيب الزملكاني الذي أورده السيوطي في شرح عقود الجمان، وكلام ابن تيمية، ثم أنكر على ابن هشام قوله في المسألة مع علو منزلته في العربية.

وقد ناقش مسألة لن في القرآن الكريم بعض الباحثين، فخلص إلى أنها “وردت في القرآن في مئة وخمسة مواضع استعملت في أربعة وتسعين موضعا للنفي الأبدي، واستعملت في أحد عشر موضعا للنفي غير الأبدي”[11]، وهذه المواضع التي هي للنفي غير الأبدي ذكر أنها قيدت بقيود لفظية، وفي الحقيقة أن تلك القيود هي التي أفادت انقطاع التأبيد ولولاها لما انقطع، فتؤول النتيجة إلى التوافق مع ما قاله الشيخ الخليلي، وإن كان تعبير الباحث لم ينفك من سطوة تأثير القول الأشهر فعبر بقوله: “لن تفيد التأبيد بكثرة وتفيد غير التأبيد بقلة”، وذكر أنه سبق إلى مثل هذا ابن مالك فقال: إن لن تنصب بحد وبغير حد، وتبعه عليه خالد الأزهري، وذكر مغالاة ابن هشام في نفي التأبيد عنها[12].

وهذه المسألة أثَّر فيها استحضار الجانب العقدي، فمالت بالإنصاف في النقاش عن جادة الصراط، لذلك تتكرر الاستدلالات الضعيفة في هذه المسألة، وانظر مثالا على ذلك استدلالات ابن هشام في المسألة وهو من أكابر علماء العربية.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] – البرهان في علوم القرآن: محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة – بيروت، 1391هـ، ج4 ص121، الشاملة.

[2] – تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، ج9 ص51، تفسير الآية 4، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، ط1: 1463هـ/2015م.

[3] – تهذيب اللغة: الأزهري، 10/206. لسان العرب: ابن منظور، مادة كون.

[4] – برهان الحق: الخليلي، ج2/ ص245-246.

[5] – برهان الحق: الخليلي، ج4/ ص467.

[6] – الزركشي: البرهان في علوم القرآن، 4/121-122.

[7] – مغني اللبيب: ابن هشام، 1/313، تحقيق محمد محيي الدين، المكتبة العصرية-بيروت، ط:2010م/1431هـ.

[8] – نسب إلى الزمخشري، وقوله بالتأكيد ثابت، أما قوله بالتأبيد فنسبه إليه ابن هشام، وليس مذكورا صراحة في الموضع الذي نسبه إليه، وانظر تحقيق المسألة في بحث إفادة لن تأبيد النفي: نجم محمد حسين، ص373-375. (ضمن مجلة آداب الرافدين: العدد24، جامعة الموصل كلية الآداب). وقال بالتأبيد ابن يعيش وابن عطية، ومن المتأخرين مهدي المخزومي، المصدر نفسه.

[9] – برهان الحق: ج4 ص 445.

[10] – كتاب الترتيب في الصحيح من حدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ج3 رقم الحديث 130.

[11] – آداب الرافدين: العدد24، جامعة الموصل كلية الآداب، (إفادة لن تأبيد النفي: نجم محمد حسين)، ص387.

[12] – السابق.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.45 ( 1 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى