العقيدة والفكر

الألعاب الإلكترونية في قفص الاتهام

سلطان بن خلفان بن عبدالله الهادي

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ سيدنا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإنّ مرحلة الطفولة من أهم المراحل العمرية للإنسان، حيث يكون فيها الطفل كالعجينة المهيئة للتشكيل، وكالصفحة البيضاء المعدة للكتابة والرسم، يشكّلها الوالدان والأسرة والمجتمع والبيئة؛ لتكون قادرة على البناء والتعمير، ويخطّون عليها العقيدة والأفكار الحقّة، والقيم والأخلاق الفاضلة، والعادات والتقاليد الحسنة، وكلّ ذلك بما يتوافق مع منهج الله تعالى، وما فيه الخير والفلاح له في الدنيا والآخرة.

إلا أنّ اكتساب الطفل للسلوكيات الخاطئة، وميله للعنف والعدوان، واتصافه بالتنمّر مع زملائه، وتلفظه بالعبارات البذيئة والفاحشة، وانحرافه عقديا وأخلاقيا، ما هو إلا قتل واغتيال لهذه المرحلة الحسّاسة، وعدوان سافر على براءة الطفولة، يتطلّب كلّ ذلك فتح تحقيق؛ لمعرفة الجاني الذي تسبب بهذه الآثار، ليوضع في قفص الاتهام، ويحاسب بالدليل والبرهان.

وإنّ من أهم المشتبه بهم في هذه القضية، هي الألعاب الإلكترونية؛ لذا سنفعّل كافة الأدوات الممكنة؛ لاستخلاص الأدلة والبراهين، من معاينة، ورأي للخبراء الجنائيين، وإقرار ممن تأثر بها، فهل ستثبت التهمة على الألعاب الإلكترونية، أم أنها بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف n؟

إنّ العقيدة الإسلامية هي العقيدة الملائمة لفطرة الإنسان؛ لأنها من عند الله تعالى الذي خلقه، وأعلم به من نفسه، بل لم يُخلق الإنسان إلا لعبادة الله تعالى، وفق ما شرع له منها، ومن الأعمال التي تقربه إليه سبحانه، ﵟوَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵖﵕﵜ، فدعت إلى الإيمان به تعالى وبما أمر به منها، والتحلي بالقيم والأخلاق الفاضلة؛ ليرقى إلى مدارج الكمال الإنساني، إلا أنّ مجموعة من الألعاب انتهكت كلّ ذلك، سأنبيك عنها ببيان من خلال معاينة مضمونها، لنقف على أول الأدلة التي توجه أصابع الاتهام نحوها.

أولا: المعاينة (مشاهد الألعاب):

إنّ الانتهاكات التي تضمنتها الألعاب الإلكترونية عديدة، فمنها ما لامس جانب التوحيد، فاحتوى على مشاهد تعدد الآلهة، وتجسيم الخالق وتشبيهه، كما في لعبتي إله الحرب “God of war”، وأنت الإله “You are God”، ومنها ما احتوى على مشاهد الصلبان، والأصنام، كلعبة قتال الآلهة “Fight of God”، ومنها ما تعرض للمقدسات الدينية، فاحتوت على مشاهد هدم المساجد وتدنيسها، كما في لعبة القتال الأول “First of Fight”، أو جعل أصوات التكابير والآيات القرآنية كخلفيات لبعض مراحلها مصحوبة بالموسيقى، أو بمشاهد طقوس وثنية، كما في لعبة كوكب كبير قليلا “Little Big Planet”، أو تجسيد لبعض شخصيات الأنبياء، كما في لعبة قتال الآلة “Fight of God”1.

وأمّا انتهاكات الألعاب الإلكترونية التي طالت جانب الأخلاق، فتمثلت في إثارة الشهوة الجنسية من خلال احتوائها على مشاهد لنساء كاسيات عاريات، ومشاهد لإيحاءات جنسية، وأخرى إباحية، وثالثة للشذوذ الجنسي، كما في لعبتي الساحر “The Witcher”، وإله الحرب “God of War”، ومنها ما يتيح للاعب اغتصاب النساء في الطرقات، وممارسة الفاحشة مع العاهرات مقابل المال، كما في لعبة سرقة السيارات الكبرى “GTA”.

وما يتعلق بجانب الأخلاق أيضا مشاهد العنف والعدوان التي تضمنتها كثير من الألعاب، منها ما احتوى على مشاهد القتل الدموي والوحشي، الذي تقشعر منه الأبدان، وتشمئز منه النفوس، كما في لعبة قتال الموت “Mortal Combat”، وكذلك مشاهد الضرب، والاعتداء على الآخرين وممتلكاتهم، أو الممتلكات العامة، وذلك إما بالتحطيم أو السرقة، كما في لعبة سرقة السيارات الكبرى “GTA”.

وهذه نبذة يسيرة من الألعاب، وما تضمنته من انتهاكات تثبت عدم مناسبتها لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، فضلا عن خطورتها وضررها على الأطفال، وإنْ ادعى أحدهم وجود تصنيف لها، فلا فائدة منه؛ لأنّ هذه الألعاب في متناول الجميع، صغيرا كان أو كبيرا، وكثير من الأولياء لا يعلمون ما تحتويه هذه الألعاب، إضافة إلى أنّ هذا التصنيف غربي لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية وعقيدتها، وهذا جانب من الأدلة، وسنرى ما يقوله الخبراء عنها.

ثانيا: رأي الخبراء الجنائيين (الباحثين والأكاديميين):

من الطبيعي أن يكون للخبراء(الباحثين) رأي في هذه المشاهد التي تضمنتها الألعاب، والبحث فيما ينتج عنها من آثار، فمن الجانب العقدي، فإنّ مشاهد تعدد الآلهة التي تبرزها بعض هذه الألعاب تزرع الشك في قلوب الناشئة، وخاصة ممن ليس لديهم عقيدة راسخة، فيتصورون من خلال إعمال عقولهم القاصرة غير المستندة إلى النصوص الشرعية أنّه من المستحيل أنْ يدير شؤون هذا الكون إله واحد، وهذا ما ذهب إليه المشركون من قبل، ﵟأَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥ﵞ ﵝص : ﵕﵜ، فعندما رأوا أنّ قدرة الواحد لا تفي، قاسوا الغائب بالشاهد2.

وأما تجسيم الخالق وتشبيهه بالمخلوقات، وتكرار هذه المشاهد باستمرار، تجعل اللاعب مع الوقت يتفكّر في الخالق سبحانه، ويحاول رسم صورة ذهنية وتخيلية عن ذات الله تعالى، وقد نبه الفقهاء من هذه التخيلات، فمثلا جاء في كتاب بيان الشرع أنّه “إذا خطر ببالك خاطر في الله b، وكان الخاطر أنّ الله يشبه شيئا، أو يشببه شيء، فانف ذلك عن الله b”3.

وما يتعلق بانتهاك المقدسات الدينية، من تجسيد للأنبياء، أو هدم للمساجد، أو وطء للمصحف الشريف، كلّ ذلك يؤدي إلى الاستخفاف والاستهانة بها، والاستمراء لمثل هذه التصرفات، وعدم المبالاة بما ينسب إليها من إهانات، فلا يكون همه سوى الاستمتاع باللعب فقط.

وأما الجانب الأخلاقي، فما يتعلق بالمحتوى الجنسي؛ فقد وجدوا له آثارا سلوكية، وأخرى صحية، وثالثة نفسية واجتماعية، فأولها أنها تؤدي إلى التعود على هذه المشاهد، وتقبلها مع الوقت، وينتهي ذلك إلى الإدمان عليها، فيسعى إلى البحث عن غيرها من خلال وسائل أخرى.

وثانيها أنّ هذه المشاهد تتسبب في إفراز الجسم لهرمونات تجري في الأوعية الدموية، وإنّ ازدياد كمياتها تحولها إلى سموم ينتج عنها مجموعة من الأمراض، كالبواسير، وداء الشقيقة، وآلام المفاصل، وجلطة وريدية محتملة، وغيرها من الأمراض4.

وثالثها أنّ الإدمان على هذه المقاطع تسبب له مشكلات نفسية واجتماعية إنْ استمر على مشاهدتها حتى بعد زواجه؛ لأنّه ينتج عنه عدم الرضا بشريكه، أو إحراج له لرغبته في تقليد ما يراه في تلك المشاهد، بالإضافة إلى الضغط النفسي، والشعور بالمهانة والانتقاص من الذات5.

وأمّا دور الألعاب الإلكترونية في دعم العنف والعدوان، فقد أثبتته العديد من الدراسات والبحوث، فمنها ما توصل إلى أنّ هذه الألعاب تعطي الطفل شعورا بأنّه واحد من اللاعبين، كما توصلت دراسة أخرى أجريت بجامعة إلينوي الأمريكية إلى أنّ هناك ارتباط دالاً بين الألعاب الإلكترونية والسلوك العدواني لدى المراهقين6.

وهذا ما يراه بعض الخبراء، فما هو قول بعض اللاعبين أنفسهم عن هذا التأثير، فالإقرار هو سيد الأدلة.

ثالثا: الإقرار (اعترافات بعض اللاعبين): 

وهنا سأسطر اعترافين فقط مثالا على تأثير هذه الألعاب؛ تفاديا للإطالة، فالأول ما أظهره تسجيل تركه مراهقان قبل أنْ يقوما بإطلاق النار في مدرستهما، وقتل اثني عشر شخصا من زملائهما، وأحد المعلمين، ثم الانتحار بعد ذلك، حيث يصفان في التسجيل الجريمة التي سيرتكبانها بأنها ستكون مثل لعبتهما المفضلة “Doom”، وأما الاعتراف الثاني، فهو ما صرّح به مراهق لرجال الشرطة بعد أن قتل صاحبه بالاعتداء عليه بفأس عدة مرات، تسببت له بكسور وإصابات مبرحة، ثم اختتم عمله بطعنه بسكين عدة طعنات، وهي طريقة شاهدها في إحدى الألعاب، فتذكرها وأراد مشاهدة الدماء التي أثارته7.

ومع هذه الاعترافات إلا أن للدفاع رأي في شأن الألعاب الإلكترونية، يستحق أن ينظر فيه، فهل سيكون له دور في رفع التهمة عنها؟

رابعا: مرافعة الدفاع:

يتفق الدفاع مع ما ذُكر من أدلة مُدينة، إلا أنها تُدين مجموعة من الألعاب لا كلها، فهي من الوسائل التي توصف بأنها سلاح ذو حدين، وهناك جوانب إيجابية لا ينبغي إغفالها، فلا نحاسبها جميعا بجريرة بعضها، حيث جاءت دراسات بفوائد عديدة تنتج عن هذه الألعاب الإلكترونية، منها أنها تحسّن القدرة على الإبصار، وتطور مهاراته وتركيزه إذا مارسها اللاعب لفترات قليلة، بالإضافة إلى رفع المهارات التعليمية، والملكات اللغوية والعقلية والفكرية والإبداعية للتلاميذ الممارسين لها 8، كما أنها تنمي الذاكرة وسرعة التفكير، وتحفّز التركيز والانتباه9، فهل يمكن أنّ نتجاهل هذه الفوائد، ولا نرى سوى الجانب السلبي فقط، مما جاء في مجموعة منها؟

وأخيرا بعدما سمعنا أقوال الطرفين: الادعاء، والدفاع، لم يبق سوى حكم القضاة (الأولياء والمربين) في هذه المسألة، فما ساقه الادعاء من أدلة وبراهين تأكد خطورة هذه الألعاب على عقيدة وأخلاق الناشئة والمراهقين، إلا أنّ ما أدلى به الدفاع من فوائد لا يمكن إهمالها، حيث يمكن استغلالها أحسن استغلال إذا ما أجدنا ذلك، وامتلكنا الأدوات والأساليب المناسبة، إلا أنّ في هذه الفوائد نظرا؛ والسبب أنها محصورة في الألعاب التعليمية، وألعاب الذكاء، والتي أنتجت لهذين الهدفين، بينما بقية الألعاب نادرا ما تخلو من الملاحظات التي ذكرناها، وغيرها، فالشركات المنتجة لها غربية، تنطلق في مضمونها من ثقافة وعادات وعقيدة صنّاعها، ناهيك إنْ لم تكن معادية للإسلام وأهله، حيث إنّ بعض مضامينها تؤكد ذلك، إضافة إلى هذا فإنه يشترط أنْ يكون اللعب بها لفترات قليلة في اليوم، لا كما نلاحظه من بعض اللاعبين الإدمان عليها، حتى طغت على أوقات أدائهم لأعمالهم وواجباتهم، بل حتى أوقات راحتهم ونومهم.

فهل سيكون للقضاة(الأولياء والمربين) ردّ حاسم في هذه المسألة، أو على أقل تقدير يقننون نوعية الألعاب، والفترة التي يجب أن يلعبها الناشئة، أم سيترددون في الحكم عليها، ويتركون ملف القضية مفتوحا حتى إشعار آخر؟

لتحميل المقال اضغط هنا

المراجع:

  • العجمي، عبدالله عوض، “تأثير الألعاب الإلكترونية في التكوين العقدي لدى الناشئة”، مجلة الشريعة للدراسات الإسلامية 108 (الكويت، 2007م).
  • انظر: الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب، ط3. (بيروت: دار الفكر، 1405ه)، ج26، ص177.
  • الكندي، محمد بن إبراهيم، بيان الشرع، دط. (مسقط: وزارة التراث، 1405ه)، ج2، ص41.
  • انظر: النابلسي، محمد راتب، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ط5. (دمشق: دار المكتبي، 1431ه)، ص229- ص230.
  • انظر، أحمد، كريم، “أضرار مشاهدة الأفلام الإباحية، موقع موضوع، أضرار_مشاهدة_الأفلام_الإباحية/http//mawdoo3.com
  • الصوالحة، علي سليمان، ويسري رشاد، وعلي مصطفى، “علاقة الألعاب الإلكترونية العنيفة بالسلوك العدواني والسلوك الاجتماعي لدى أطفال الروضة، دط. (عمان: دم، 2015): ص191. وانظر: عبدالله، أحلام حسن، عادل شكري، “الاتجاه الإيجابي نحو اللعب بالألعاب الإلكترونية وتأثيره على السلوك العدواني وكفاءة الذات المدركة لدى عينة من المراهقين دراسة شبه تجريبية”، التربية المعاصر 7(مصر، 2005م): ص7.
  • انظر: رقية، محمودي، “هل تغذي العنف المدرسي من حيث السلوكيات والتصرفات من رموز العنف الافتراضي المتضمن الألعاب الإلكترونية العنيفة”، مجلة الحكمة، 28(الجزائر: مؤسسة كنوز الحكمة، 2013م): ص68- ص71.
  • انظر: الزيودي، ماجد محمد، “الانعكاسات التربوية لاستخدام الأطفال للألعاب الإلكترونية كما يراها معلمو وأولياء أمور طلبة المدارس الإبتدائية بالمدينة المنورة”، مجلة العلوم التربوية 1(السعودية: جامعة طيبة، إبريل 2015م): ص16.وانظر: سلطاني، عادل، “الألعاب الإلكترونية وتأثيراتها في إعادة تشكيل ثقافة الشباب في عصر العولمة”، رسالة ماجستير، (الجزائر: جامعة محمد خيضر، 2012م): ص98.
  • انظر: الهدلق، عبدالله بن عبد العزيز، “إيجابيات وسلبيات الألعاب الإلكترونية ودوافع ممارستها من وجهة نظر طلاب التعليم العام بمدينة الرياض”، مجلة القراءة والمعرفة 138(مصر: دت، إبريل 2013م): ص170.

يسعدنا تقييمك لهذا المقال

تقييم المستخدمون: 2.18 ( 2 أصوات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى