اللغة

استدراك نحوي عروضي على محقق ديوان الحبسي

رائد بن ناصر بن خلفان العامري

 

يقول الشاعر[1] راشد الحبسي (1150هـ)[2]: [من الوافر]

     ومن يكفر بنعمته دعوه      يقاسي في الجهالة ما يقاس

فعلق محقق ديوانه عبدُ العليم عيسى وقال: ” لم يجزم يقاس الأولى لأنها وقعت في جواب الأمر للضرورة، فلو جزمها لاختل الوزن”[3]، يريد المحقق أن تـرك الجزم في (يقاسي) إنما سببه الضرورة ووزن البيت، وأن الأصل أن يجزم الفعل لوقوعه في جواب الطلب، والذي أراه أن الرفع في (يقاسي) هو الأَولى ولا ضرورة في البيت.

الجزم في جواب الطلب نحو قولك: ذاكرْ تنجحْ يتضمن معنى الشرط، أي إن تذاكرْ تنجحْ، وأنت إذا تأملت بيت الحبسي وجدت أن الفعل (يقاسي) لم يقع في جواب الطلب، فليس كل مضارع واقع بعد الطلب يكون جوابا لذلك الطلب، قال تعالى {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُون} لم يجزم (يصدقُـني) لأنه ليس على إرادة معنى الشرط، إذ ليس معناه إن ترسله يصدقني، وإنما المعنى: أرسله ردءا فإنه يصدقني، ولو أراد معنى الشرط لجزم[4].

 فجزْمُ المضارع في جواب الطلب إنما يكون بسبب ارتباطه بالطلب كارتباط جواب الشرط بالشرط وتعلقه به، فإن لم يكن ارتباط فلا ينجزم، فقولك: زرْني أزرْك (بجزم أزرْك) يعني: إن تزرني أزرك، وقولك: ذاكرْ تنجحْ يعني إن تذاكر تنجح، فالنجاح مرتبط بالمذاكرة ومعلَّق بها كما أن زيارتي إياك مرتبطة بزيارتك إياي ومعلقة بها.

    وجزم الفعل (يقاسي) في بيت الحبسي يعني إن تَدَعوا وتتركوا من يكفر بنعمة الله فإنه يقاسي، أي جُعلت مقاساته مترتبة على تركه، وهذا المعنى لا يُراد لأن الذي يكفر مقاساته حاصلة تُرك أو لم يُترك، فالمقاسـاة حاصلة ابتـداء، وليست متـرتبـة على تركه، ويؤيد هذا المعنى قول قال الله المتعال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}

     جاء في كتاب سيبويه: “هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر أو نفي … فأما ما انجزم بالأمر فقولك: ائتني آتك … وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إن تأتني بإن تأتني؛ لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير مستغن عنه إذا أرادوا الجزاء كما أن إن تأتني غير مستغنية عن آتك”[5]

    ثم يقول سيبويه بعد ذلك: ” وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقا بالأول، ولكنك تبتدئه وتجعل الأول مستغنيا عنه، كأنه يقول: ائتني أنا آتيك”[6] فالجزم في جواب الطلب كالجزم في الشرط “فقولك: زرني أكرمك معناه أن أكرامك له، مرتبط بزيارته لك ارتباطا شرطيا”[7]

   وقول الحبسي:

دعوه يقاسي في الجهالة ما يقاسي

 برفع (يقاسي)، لأن المقاساة ليس باعثها أنهم يَدَعُوه، فالمقاساة حاصلة، ولذلك لم ينجزم، فهو يقاسي ابتداء، وليست هذه المقاساة معلقة بقوله دعوه.

   وفي الكتاب: ” وتقول: قم يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعله دعاء بعد قيامه ويكون القيام سببا له، ولكنك أردت: قم إنه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت”[8] وكذلك قول الشاعر الحبسي دعوه يقاسي فكأنه يقول: دعوه إنه يقاسي.

    وبهذا يتبين أن الرفع في بيت الحبسي أولى من الجزم، وأنه لا ضرورة في البيت، وقد أدرك علي النجدي ناصف محقق ديوان أبي مسلم البهلاني أن رفع المضارع (أحيا) في قول البهلاني مناجيا ربه[9]: ]من الطويل[

مصورَ نفسِيْ اكشفْ لسريْ حقائقَ الـ      معــــارفِ أحـيا بالعــلـوم مـسـربلا

أدركَ أن الفعل (أحيا) ليس مسببا عن الكشف فقال: “أحيا واقع في جواب الفعل اكشف، ولم يقصد أن يكون أحيا مسببا عن الكشف، ولهذا لم يجزمه”[10]

   ولن نبرح تعليق المحقق حتى نُبيّن شيئا آخر، فقوله: ” لم يجزم … للضرورة، فلو جزمها لاختل الوزن” فيه نظر لأن الوزن بجزم الفعل يقاسي لا يختل! ولكنه زحاف جائز – وإن كان قبيحا – في البحر الوافر يسمى العقل، وهو حذف الحرف الخامس المتحرك من (مفاعـلَـتن) فتصير (مفاعَـتُـن) ثم تنقل إلى(مفاعلن)، وبجزم الفعل يقاسي يكون الوزن في قوله:( يقاسِ في الـ) على وزن مفاعلن. يقول: ابن عبد ربه الأندلسي (328هـ): “يجوز في حشو الوافر: العصب، والعقل، والنقص[11]، فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح”[12]

    فالعقل جائز لكنه قبيح، وقد فرَّ منه الشاعر المعترض الظفري إذ قال[13]: [من الوافر]

لِهامِهمِ بمِدْفارٍ صياحٌ      يُدَعَّى بالشراب بني تميم

   فزاد ألفا في مدفار، والأصل مدفر، وهي بلد لبني تميم، ولو قال بمدفر لكان الجزء الثاني من البيت معقولا. قال ابن جني (392هـ) في شرح البيت: “قال (مدفار) بلد لبني تميم، وإنما هو مدْفرٌ فمدَّه فقال: مدفار، لو أنه قال بمدفر مقصورا غير ممدود لجاز في وزن هذا البحر، ألا ترى أنه من الوافر، وكأن الجزء يكون لهامهمي: (مفاعلتن)، بمدفر: (مفاعلن)، فكان الجزء يكون معقولا كما ترى، إلا أنه آثر ارتكاب الضرورة مخافة زحاف الجزء”[14]

   وقال ابن السيد البطليوسي (521هـ) في قول بشار بن برد[15]: [من الوافر]

فقالوا ما لدمعهما سواء         أكِلتا مُقلتيك أصاب عودُ

” ولو أنشده منشد:

فقلن ما لدمعهما سواء 

لكان جائزا في العروض، ويكون الجزء الأول من البيت معقولا … فيرجع الجزء من (مفاعلتن) إلى (مفاعلن).

   وقد جاء العقل في جميع أجزاء الوافر، حاشا العروض والضرب، فإذا كان جائزا في جميع البيت، فهو في جزء أجوز، ولكنه من قبيح الزحاف”[16]

ومن البيِّن أن وزن (فقلْن ما) من بيت بشار عروضيا كوزن (يقاس في الـ) إنْ جُزِم الفعل (يقاسي)، وذلك جائز في الوافر.

     وإذا كان العـقل قبيحا عند كثير من العروضيـين فإنه لا يبدو كذلك عند الإمام نور الدين السالمي (1332هـ) الذي قال عن البحر الوافر: “يدخل هذا البحر من الزحاف العصب وهو حسن، والعقل وهو صالح، والنقص وهو قبيح”[17]

   على أن من العروضيين من أنكر العقل أصلا في الوافر “من أجل أن مفاعلتن انتقل بالعصب إلى مفاعيلن، ومفاعيلن في سائر الشعر يتعاقب فيه الياء والنون فيكون إما مفاعيل وإما مفاعلن. لكنهم سوّغوا في مفاعيلن في الوافر أن يأتي على مفاعيل ولم يسوغوا فيه أن يأتي على مفاعلن لأنه فرع منقول عن أصل، فلم يسوّغوا فيه ما سوغوا فيما هو أصل، وآثروا إبقاء الياء لأنها في محل اللام الساكنة بالعصب فكرهوا تغييرها”[18] قال الدماميني ردا عليهم: “وهذا احتجاج ضعيف لا يلتفت إليه مع نقل الخليل عن العرب جواز ذلك”[19]، وقد نقل العروضيون شواهد لذلك[20].

   وبذلك تدرك أن قول المحقق: ” … لاختـلّ الوزن” غير مسلَّم به، وما أحسن أن ننبه على أنه يجوز أن يقال: إن شاعرا ترك الزحاف ضرورة حتى إن كان الوزن لا يختل بذلك الزحاف، وقد رأينا قول ابن جني في النص السالف: (إلا أنه آثر ارتكاب الضرورة مخافة زحاف الجزء) فقال ضرورة مع أن البيت لا ينكسر بذلك الزحاف، وقيل مثل ذلك في مواطن أخرى.

لتحميل المقال اضغط هنا


[1] هو الشاعر الأديب راشد بن خميس بن جمعة الحبسي، وُلد بقرية عين بني صارخ في محافظة الظاهرة، رمد وعمي وهو ابن ستة أشهر، ثم انتقل إلى جبرين عند الإمام بلعرب بن سلطان فتخرج في مدرسته أديبا أريبا، توفي سنة 1150 هـ / 1737م. ينظر: معجم شعراء الإباضية (قسم المشرق): فهد بن علي السعدي، مكتبة الجيل الواعد، ط1، 1428هـ- 2007م، ص102.

[2] ديوان الحبسي: راشد بن خميس بن جمعة الحبسي، تحقيق: عبد العليم عيسى، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان، ط2، 1412هـ – 1992م، ص15.

[3] المرجع السابق، الحاشية ص15.

[4] ينظر: معاني النحو فاضل صالح السامرائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمّان، ط2، 1423هـ – 2003م، 4/11.

[5] الكتاب: سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1408هـ – 1988م، 3/93 فما بعدها.

[6] المصدر السابق، 3/95 فما بعدها.

[7] معاني النحو، 4/11.

[8] كتاب سيبويه 3/98.

[9] ديوان أبي مسلم البهلاني (القسم الأول): ناصر بن سالم بن عديم البهلاني، تحقيق: علي النجدي ناصف، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، ط2، 1437هـ – 2016م، ص146.

[10] المرجع السابق، الحاشية ص146.

[11] لمعرفة هذه المصطلحات العروضية ينظر: الشافي في العروض والقوافي: هاشم صالح مناع، دار الفكر العربي، بيروت، ط4، 2003م، ص233.

[12] العقد الفريد: أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، تحقيق: محمد عبد القاهر شاهين، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ – 2003م، 6/260.

[13] شرح أشعار الهذليين: أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1/679.

[14] التمام في تفسير أشعار هذيل: عثمان بن جني، تحقيق أحمد ناجي القيسي وخديجة الحديثي وأحمد مطلوب، مطبعة العاني، بغداد، ط1 1381هـ 1962م، ص57.

[15] ديوان بشار بن برد، قرأه وقدم له: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ص443.

[16] الاقتضاب في شرح أدب الكتاب: أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1996م، 2/10 فما بعدها.

[17] المنهل الصافي على فاتح العروض والقوافي: نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، تحقيق: إبراهيم بن حمد بن سالم الشبيبي، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، ط1، 1434هـ – 2013م، ص226.

[18] العيون الغامزة على خبايا الرامزة: بدر الدين محمد بن أبي بكر الدماميني، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1415هـ – 1994م، ص167.

[19] المرجع السابق، ص167.

[20] العيون الغامزة، ص166.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 3.23 ( 10 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى