بحوث ودراسات

أثر الثقافة المعاصرة في حد الردة

سليمان بن سامي بن سليمان الحسني

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه المتقين.

في مرحلة ما، كنت أستشكل مسألة حد الردة في المنظومة الإسلامية، ومهما سألت وتأملت في القضية فلم أصل إلى جواب يطمئن القلب إليه، وبما أن المسألة لم تكن متعلقة بالعقيدة، ولا هي مما يجري عليه العمل اليوم؛ فكان هيّنا علي الرجوع إلى حقيقة أنني لا أحوز الحق المطلق، وأنني بشر فرد ذو عقل قاصر، فليس كل ما أستشكله مشكلا، ولا كل ما أطمئن إليه حقا، وهذه مسألة يكاد الإجماع ينعقد عليها، فيسعني فيها التقليد.

كانت المعضلة المقلقة عندي أن الأدلة الشرعية واضحة في ثبوت الحد خاصة من السنة النبوية وعمل الصحابة، وترتفع قوة هذه الأدلة الظنية بشبه الإجماع الموجود بين جميع المسلمين على مختلف مذاهبهم المعتبرة، إنما غموض الحكمة من حد الردة، وصعوبة تسويغه لغير المسلمين، هذا الذي كان أشد شيء يربك تصوري في الموضوع، وظللت سنين أحمل همّ هذا الأمر تأملا وسؤالا ومباحثة، إلى أن قيّض الله سبحانه أحداثا ووقائع أرتني وهَن تلك المعضلات، وأنها مجرد وهم أنشأته البيئة المعاصرة والثقافة الغالبة والحال الواهنة المداهنة، وبمجرّد تفكيك هذه الحواجز وانفتاح الذهن على المعادلة الإسلامية الأصلية، يتبخر كل ذلك الوهم، ويتكشّف للمسلم ما يطمئن إليه قلبه ويسكن به فكره في قضية حد الردّة.

وهنا أضع بين يدي القارئ ما صفا لي في هذه القضية حتى وجدت شفاء القلق الذي كان يعتريني منها، شاكرا إخوتي طلة العلم الذين منّوا علي بمراجعة البحث وإبداء ملحوظاتهم عليه لسد ما وقع فيه من خلل، وسيدي الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله الذي أكرمني بالنظر في هذا البحث والتعليق عليه بما شرح صدري لنشره، والله من وراء القصد، وهو وليّ التوفيق.

خارطة البحث:

  • الأدلة على حد الردة.
  • الإشكالات المتوهمة من بعض النصوص.
  • شبهات عقلية حول حد الردة.
  • بين المجاهر بردته والمستتر.
  • بين نسبية الحقيقة وإنكارها.
  • حد الردة في الثقافة المعاصرة.
  • تأليه الإنسان، وأنسنة الإله
  • عبء التسويغ.
  • قبل الحد، تحصين المجتمع.
  • خاتمة لا بد منها.

الأدلة على حدّ الردة:

لما ذكرت لك في التمهيد أن أحد عوامل القلق هو ثبوت الأدلة في هذا الأمر، ولولا ذلك لما سلكت هذا السبيل الطويل في محاولة حل الإشكالات ولنفيت القضية من أساسها، كان لزاما في البداية تبيان هذه الأدلة التي لأجلها لم أستسهل أخذ صف منكري حد الردة.

أولا: أدلة السنة.

وهي الأصل في هذا الباب، وعليها مستند القائلين بهذا القول، وقبل أن نخوض فيها فلا بد أولا من الإشارة إلى قضية مهمّة متعلقة تعلقا مباشرا بهذا الجزء، وهي قضية إثبات أصل السنة النبوية ضمن أصول التشريع. فلا يخفى بروز النابتة الحديثة التي أنكرت هذا الأصل من أصول الإسلام، وصالت في سبيل إنكاره صولات منذ عقود كثيرة. وهذه المسألة مستقلة ببحثها عن موضوعنا، فلا يمكن الخوض في تفاصيلها لئلا يتشعب الموضوع، خاصة أنه ليس بحثا موسعا، بل هو متعلق بقضية حد الردة فقط، فمن شاء فليتوسّع في قراءة تفاصيل هذه القضية من مظانّها، وإنما كما ذكرت أن هذه مجرّد إشارة فقط، يراد منها التنبيه على أن هذا الجزء قائم على التسليم بحجية السنة النبوية في التشريع الإسلامي، ولن يخوض في عبء إثبات حجّيتها لمن لا يؤمن بها.

وهناك أمر آخر أيضا، وهو أن مرتبة الأدلة في هذا الباب تعود إلى الآحاد، ولكن كما هو معلوم فإن هذه القضية لا تعد مشكلة عند أهل الاختصاص، فإن جدلية الأخذ بحديث الآحاد منحصرة في معاملة هذا الحديث أيندرج تحت الأدلة القطعية أم الظنية، وشرط قطعية الدليل يتوجه إلى أبواب العقائد ومسائل الدين، أما باب العمل فلا يشترط فيه القطع عند مذاهب المسلمين، بل أغلب العبادات والأعمال -خاصة في تفاصيلها- مستندة على الظن، بل حتى بعض المسائل الغيبية التي لا يُقطع بها ولا تتفاصل فيها المذاهب تستند على أدلة ظنية. فحدّ الردة متعلقٌ كذلك بالعمل لا بالعلم، لذلك فلا يُشترط له الدليل القطعي، وكونه متعلقا بحياة الناس لا يُشكل على أصل المسألة، فإن المنهج لا بد أن يكون منضبطا في جميع جزئياته، واستثناء شيء منها لا يكون لأجل ذوقٍ غير واضح.

وكما هو معلوم، فإن من المسائل المجمع عليها بدهيا بين أهل الإسلام: العقوبة على ارتكاب الشذوذ الجنسي، مع أنه لم يرد نص في القرآن يوضح حدّ ارتكاب الشذوذ، وقصة النبي الطاهر لوط عليه السلام مع قومه والعقوبة التي أنزلها الله بهم تحتوي على عقاب الله لهم دون أن تبيّن ما على المؤمنين أن يعاقبوا به أصحاب هذه الفاحشة.

على أنّ هناك مسائل متعلقة بحياة الناس يكون الحكم فيها بالقتل -أو الإعدام كما في الاصطلاح المعاصر- وهي غير مستندة على دليل قطعي، من ذلك إعدام مهربي المخدرات، أو إعدام الجواسيس، أو الإعدام لأجل الخيانة العظمى، بل بعض الدول تعدم على الفساد وعلى البغاء القسري.

وما ذكرته يوجد في دول مسلمة وغير مسلمة.

ولعل قائلا يقول: إن الإعدام في بعض هذه الجرائم -خاصة تهريب المخدرات والدعارة القسرية- قد يُدرج تحت حد الحرابة المذكور في قول الله{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} المائدة 33

غير أن دلالة هذه الآية على تلك الجرائم دلالة ظنية لا قطعية، وإن كان ثبوت الآية قطعيا، فلم يخرج بذلك من الإشكال أن بعض الجرائم يُعاقب عليها بالقتل ولو لم يثبت فيها دليل قطعي.

فإن فرغنا من ذلك، يأتي إشكال آخر، وهو: إذا لم يكن ثبوت حد الردة بدليل قطعي، فعلامَ هذا الإنكار على من ينكره؟ فهو يكون بهذا من مسائل الرأي لا الدين، ويجوز فيه الخلاف كما يجوز في غيره.

فيقال حينها: إن ثبوت هذا الحد جاء بثبوت هذه الأدلة، والأدلة -وإن كانت ظنية- إلا أن العمل بها واجب عند ثبوتها وغياب المعارض الأقوى منها، أما رد الدليل لمجرّد كونه ظنيا دون وجود معارض أقوى أو قادح في الدليل، فهذا منكر مستشنع عند كل المسلمين وإتاحة لدخول الأهواء في التشريع، وهيهات أن يكون الذوق والهوى والإذعان للثقافة الغالبة مصدرا من مصادر التشريع، وما أعظم الفساد الذي سيدخل على الدين الإسلامي حينها، بل على العالم كله {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} المؤمنون 71 وسأعقد فرعا مستقلا إن شاء الله لمناقشة الأدلة التي قد يُتوهم منها معارضة حد الردة.[1]

كانت هذه مقدمة لا بد منها في فرع أدلة السنة، أما الآن فأطرح صلب الباب وهو الأدلة الواردة من السنة على حد الردة، وهي:

  • – عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من بدل دينه فاقتلوه “رواه البخاري وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعبدالرزاق.

ورواه الطبراني في الأوسط عن عائشة، وفي الكبير عن معاوية بن حيدة، ورواه مالك في الموطأ مرسلا عن زيد بن أسلم بلفظ: “من غير دينه فاضربوا عنقه”.

  • – وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة “رواه البخاري ومسلم.
  • – وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أمر المسلمين ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، واستثنى أشخاصا أمر أن يُقتلوا وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسبب ذلك كما روى ابن هشام في سيرته: لأنه قد كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش.

فهذه الأحاديث التي يستدل بها على حد الردة، وقد ناقش بعضُهم في ثبوتها، ورُدّت حججهم في ذلك، وليس هذا محل النقاش الأسانيد فإني لست متخصصا في ذلك، أما المتخصصون فقد أثبتوا هذه الأحاديث كما قلت، وهي كما ترى مروية في عديد من مصنفات الحديث.

وقد ناقش بعضهم متن حديث “من بدّل دينه فاقتلوه” بأن هذا اللفظ يشمل حتى من ترك دين الكفر إلى الإسلام، وهذا أمر لا يقره أحد من المسلمين. وهذه مناقشة سخيفة لا ينبغي حتى أن تذكر، لولا أنهم أكثروا من إيرادها، وبطلانها واضح ظاهر، فإن اللفظ وإن كان عاما إلا أنه مخصص بالقرينة العقلية أولا، فإن قائله نبي الإسلام الذي يدعو الناس إلى ترك ديانات كفرهم والدخول في الإسلام، فلا يصح عقلا أن يدعو إلى قتل من أسلم. ومخصص بقرائن النصوص ثانيا، التي تدعو الناس إلى الدخول في الإسلام، فلا يصح أن تدعوهم لأمر وتجعل جزاءه القتل.

أما إن قيل إن هذا يشمل من بدل دينه من كفر إلى كفر، ولا أحد يقول بذلك، فيقال بل قد قيل بذلك، وهذه مسألة مختلف فيها وليس هنا موضع نقاشها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى وجود الخلاف فيها أخذا بظاهر هذا الحديث.

عمل الصحابة:

وردت كثير من الأخبار عن عمل الصحابة أنهم كانوا يقتلون المرتد.

  • – وأشهر ما في ذلك قتال الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين وإعانة الصحابة له بذلك دون معارض، وخبر قتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين من الأخبار القطعية -جملةً- في التاريخ، وإن اختُلِف في بعض تفاصيلها، وتلك التفاصيل المختلف فيها غير متعلقة برأي الصحابة في قتال المرتدين ولا تقدح في أصل الشاهد من الإشارة إلى هذه الحقبة.

وما روي عن نقاش عمر لأبي بكر رضي الله عنهما إنما كان في قتال مانعي الزكاة، لا في قتال المرتدين، فلا يمكن الاعتراض به للقدح في الإجماع الواقع من الصحابة المتمثل في عملهم قبل قولهم. ولا يمكن أن يقال إنه ربما كان بعضهم كارها لذلك ولكنه سكت خوفا على نفسه، فإنه لا يجوز أن ينجّي الواحد نفسه بقتل غيره.

وقد اعترض بعضهم على الاستدلال بهذا العمل، وكان اعتراضهم تحديدا على علة القتال، فرأوا أن العلة في قتال أولئك الناس لم تكن الردة بل التمرد على الدولة، وهذه قضية مهمة سأعرض لها في النهاية بإذن الله.

  • – ومن المرويات في عمل الصحابة بقتل المرتدين نفس رواية البخاري عن ابن عباس في قتل المرتد، فقد كانت مناسبة رواية ابن عباس للحديث أن عليّا أتي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا ما أحرقتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعذبوا بعذاب الله”، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه”.

ومما يحسن ذكره عند إيراد هذا الحديث أنه قد قيل إنما أحرقهم علي بعد قتلهم، لا وهم أحياء، ولذلك شواهد.

  • – وروي: “قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس، فأخبره، ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغرّبة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتهم به؟ قال: قرّبناه فضربنا عنقه، فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يومٍ رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله، ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.” أخرجه مالك في الموطأ.
  • – وعن أبي عمرو الشيباني: ” أن المستورد العجلي تنصر بعد إسلامه، فبعث به عتبة بن فرقد إلى علي فاستتابه فلم يتب، فقتله، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفا، فأبى علي وأحرقه” أخرجه عبد الرزاق في المصنف.
  • – وفي حديث أبي موسى الأشعري “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فقدم معاذ فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد فقال: ما شأن هذا؟ فقال: هذا كان يهوديا فأسلم، ثم ارتد وراجع دينه دين السوء. فقال معاذ: “لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله.” ثلاث مرات، قال: فأمر به فقتل.” رواه البخاري ومسلم.
  • – ووقع في حديث معاذ: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن، قال له: “أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام، فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها” رواه الطبراني في معجمه.
  • – وعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبيه قال: “أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه: أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة ألا إله إلا الله، فإن قبلوها فخلِّ عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم. فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله”. أخرجه عبدالرزاق في المصنف.

فهذا عمل مختلف الصحابة تظافر على قتل المرتد بعد استتابته، إلا رواية ظاهرها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بغير ذلك، وهي:

عن أنس بن مالك قال: “لما نزلنا على تستر..” فذكر الحديث في الفتح، وفي قدومه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عمر: يا أنس، ما فعل الرهط الستة من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: فأخذت به في حديث آخر ليشغله عنهم، قال: ما فعل الرهط الستة الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين من بكر بن وائل؟ قال: يا أمير المؤمنين، قُتلوا في المعركة. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قلت: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم، كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الإسلام، فإن أبوا استودعتهم السجن”. رواه البيهقي في السنن الكبرى، وعبدالرزاق في المصنف.

وظاهر ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى في المرتد السجن إن لم يتب، إلا أنه قد وردت روايات أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر فيها بقتل المرتد بعد استتابته إن لم يتب، فيمكن حمل هذه الرواية على غيرها أن المقصود بإيداعهم السجن لأجل إطالة أمد استتابتهم، ولا يسقط عنهم حكم القتل إن أصروا على ردتهم.

شبه الإجماع:

الإجماع الذي نتحدث عنه ونطلبه للاحتجاج به هو ما يكون من جميع فرق المسلمين المختلفة، لا أن ينحصر في فرقة بعينها، وكذلك فلا يشمل الفرق التي يُحكم عليها بالخروج من الإسلام بسبب ردها قطعيا من قطعيات الدين المجمع عليها بين جميع فرق المسلمين الأخرى، وذلك مثل القرامطة والأحمدية “القاديانية” والبهائية وغيرهم ممن اتفق المسلمون على خروجهم من الإسلام بسبب مخالفتهم في المحكمات القطعية.

وسأحاول جمع النصوص من مختلف مصادر المذاهب المتنوعة لأجل دقة أكبر في حكاية الإجماع.

  • أهل الدعوة (الإباضية): جاء في كتاب الضياء لأبي منذر سلمة بن مسلم العوتبي: (فاعلم أن من ارتد عن الإسلام إلى الشرك استتيب، فإن تاب وإلا قُتل).
  • أهل السنة والجماعة: والباقي من مذاهبهم ما يعرف بالمذاهب الأربعة، ومع ذلك فهم يَجمعون معهم الفقهاء الذين كانوا قبل أو مع الأئمة الأربعة ولم تبق لهم مذاهب قائمة، وإنما ينقلون أقوالهم، وقد نقلوا إجماعهم على قتل المرتد. قال ابن قدامة المقدسي في كتاب المغني: (وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَمُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَخَالِدٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ , فَكَانَ إجْمَاعًا)

وهكذا نقل ابن عبدالبر في التمهيد عند الكلام على حديث “من غير دينه فاضربوا عنقه” نقل كلام الفقهاء عندهم، ولم ينقل خلافا في قتل المرتد، إلا ما أشار إليه من قول النخعي والثوري، وفي ذلك نظر، وسأخوض فيه في قادم الكلام بإذن الله.

  • الشيعة الجعفرية: جاء في وسائل الشيعة للحر العاملي: (عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرتد، فقال: “من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويقسم ما ترك على ولده.” ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد مثله) ا.هـ

وهم كذلك يروون حديث “من بدل دينه فاقتلوه”، ساقه القاضي النعمان المغربي في دعائم الإسلام.

  • الزيدية: جاء في شرح الأزهار لأحمد المرتضى: ((و) أما بيان (حكمهم) أي حكم المرتدين فهو (أن يقتل مكلفهم (إن) طولب بعد الردة بالرجوع إلى الاسلام ثم (لم يسلم)).
  • الظاهرية: انتصر ابن حزم في المحلى للقول بقتل المرتد دون إيجاب استتابته، وذكر القول بأن المرتد يودع السجن ويستتاب أبدا دون قتل، وتعقبه بالحكم بسقوطه في ثنايا حجاجه مع من أوجب استتابة المرتد بعدد معين، مصرحا أنه بهذا القول يسقطُ الجهاد جملة، فيجب استتابة الكافرين المحاربين أبدا دون مقاتلتهم.

وكما ترى في النقل الأخير عن ابن حزم إشارة إلى وجود القول بأن المرتد لا يقتل، وبعد البحث وجدتُ هذا القول منسوبا إلى إبراهيم النخعي ينقله عنه سفيان الثوري. جاء في مصنف عبدالرزاق: “عن الثوري عن عمرو بن قيس عن إبراهيم قال في المرتد: يستتاب أبدا. قال سفيان: هذا الذي نأخذ به”. وقد تُعِقِّبت هذه النسبة إلى النخعي والثوري بأنها غير دقيقة، فقالوا: إنما يعني أن من تكررت منه ردته بعد توبته منها، فإنه يستتاب في كل مرة حتى يرجع، فإن تاب وإلا قتل، خلافا لمن حكم عليه بالقتل إذا تكررت ردته دون إعادة استتابته. ويشهد لذلك ما نقله ابن قدامة في المغني عند ذكر قول من قال إن المرتد يستتاب ثلاثا وإلا قُتل، قال: (هذا قول أكثر أهل العلم ; منهم عمر، وعلي، وعطاء، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وهو أحد قولي الشافعي) فتراه صرّح هنا بنسبة القول بقتل المرتد بعد استتابته ثلاثا إلى النخعي، وإن كان قد رجع في الأخير ونسب إليه القول بالاستتابة الأبدية ثم حكم عليه بمخالفة الإجماع، ولعل هذه النسبة الأخيرة متوهّمة من النقل الذي في مصنف عبدالرزاق كما ذكرت ذلك سابقا.

ومما يقوّي هذا التفسير ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: عن عمرو بن قيس عمن سمع إبراهيم يقول: (يستتاب المرتد كلما ارتد.)

وأخرج عبدالرزاق عن الثوري قال: (إذا قتل المرتد قبل أن يرفعه إلى السلطان فليس على قاتله شيء).

والجدل في تفسير قوليهما قديم، وبهذا تعلم سبب وصفي أنه “شبه إجماع” لأجل هذه العوارض عليه، ورغم ذلك حتى لو أثبتنا الخلاف في “حد الردة” فإنه لا ينتقض الإجماع على “تجريم الردة”، فإن الذين نُقل عنهم غير ذلك على قلّتهم ووجود الاحتمال في تفسير قولهم لا يُفهم منهم أبدا ترك المرتد وشأنه، بل أخف ما يُحمل عليه هذا القول أن تكون عقوبة المرتد بالسجن مدى الحياة كما في التعبير المعاصر.

وتجدر الإشارة إلى أن بعضهم حاول إرباك القول بانعقاد الإجماع على قتل المرتد لعلّة الردة، ورأى أن العلة في قتله هي الحرب، فمتى كف يده لم يكن عليه حد القتل، واستنبط ذلك من الخلاف في قتل المرأة المرتدة، فرأى أن قول القائلين إنها لا تُقتل كان لأن المرأة لا تكون محاربة، فإذا سقط عنها الحد دل ذلك على أن علة الحد هي المحاربة لا تغيير الدين.

وهذا الاستنباط لا يُسَلّم له، فإنه قد سبق التنصيص على مأخذ هذا القول عند القائلين به. جاء في التمهيد لابن عبد البر: (ومِن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان، وأن أبا بكر رضي الله عنه سبى نساء أهل الردة، وقالوا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه” إنما هو على من كان حكمه إذا قدر عليه القتل على كفره، والمرأة ليس حكمها القتل على كفرها، وإنما حكمها السبي والاسترقاق، فلا تدخل في تأويل هذا الحديث، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان) فمن قال بسقوط القتل عن المرتدة لم يسقط عنها العقوبة، بل أثبتها عليها، ولكنه جعل عقوبتها الاسترقاق لا القتل؛ لورود النهي عن قتل النساء في حروب المشركين، فلا حاجة لاستنباط علة لم يصرحوا بها مع وجود التصريح منهم.

الإشكالات المتوهّمة من بعض النصوص.

استشهد المعاصرون المنكرون لحد الردة بعدة نصوص تنقض القول بهذا الحد -كما يرون-، ومدارهم على آيات من القرآن ظاهرها تخيير الناس في الإيمان وتجنّب إكراههم، والآيات:

  • – {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} [البقرة 256]
  • – { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس 99]
  • – { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف 29]
  • – { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان 3]

هذه أبرز الآيات التي استشهد بها المعاصرون الذي استنكروا حد الردة، وقبل أن نخوض في استدلالهم بها سنجول في آيات أخرى للقرآن في منهج التعامل مع غير المسلمين، كيف يأمر به القرآن حتى تكون عندنا صورة شاملة للمنهج القرآني في هذه القضية، لنحتكم إليها في هذا الخلاف ونستلهم منها التصور الإسلامي، فإن خير ما فسر القرآن القرآن.

هذه مجموعة آيات تحث على قتال غير المسلمين، وتصل إلى درجة الأمر بقتال الكفار الأقرب فالأقرب {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} وإظهار الغلظة عليهم {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}، وآية تنهى عن الابتداء باقتراح السلام وتجعله هونا {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}.

وآيات القتال في القرآن كثيرة، لكن كثيرا منها يعلق القتال بابتداء العدوان من الكفار، أو تذكر القتال في سياق الدفاع واستعادة ما سلبه الكفار من المسلمين، لذلك لم أستشهد بتلك الآيات، أما هذه الآيات المذكورة أخيرا فإن بعضها يعلق سبب القتال بالكفر {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، وتجعل سبيل إنهاء القتال إيتاء الجزية بالصَغَار، وهو الضيم والهوان. وبعض الآيات تعلق إنهاء القتال بالدخول في الإسلام {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وكانت قد جعلت الأمان للمشركين مدة الأشهر الحرم فقط -على خلاف المفسرين في المقصود بها-، ثم لا أمان لهم بعدها، ولا يمكن أن يقال إن المقصود بهم الذين نقضوا العهد دون من سواهم، فإنهم إذا حاربوا المسلمين في الأشهر الحرم لم يكن للمسلمين كفّ أيديهم والنظر إليهم وهم يقتلونهم، منتظرين انتهاء الأشهر الحرم حتى يردوا عليهم قتالهم {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة 194]، ثم إن الآيات قد فرقت أصلا بين موفي العهد وناقضيه، فأمرت بإتمام العهد لمن حافظ عليه {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ} [التوبة 4] أما بعد انتهاء العهد وانقضاء الأشهر الحرم، فيكون الوضع نفسه لجميع المشركين، فالشرك هو علة القتال.

وبعد النظر في هذه الآيات ترى كيف أن القرآن ينصب وضعا عدائيا تجاه المشركين قائما في كل وقت، دون تعليق ذلك الاعتداء بالقتال المسلّح، وحال السلم الوحيدة تكون وقت قيام المعاهدة مع التزامهم بها، فالسلم استثناء والحرب معهم هي الأصل.

إذن، فليست الحرية الدينية في القرآن كما يصورها المعاصرون، بل هي شيء مختلف، وهنا نرجع إلى الآيات التي تمسكوا بها للنظر في معناها ومحاولة الجمع بينها وبين الآيات الأخرى الداعية للقتال والعداء.

وبدايةً، فإن الآيات التي تتكلم عن حرية المشيئة للإنسان بين الكفر والإيمان مقطوعة من سياقها في استدلالهم، فالحقيقة أنها لا تتكلم عن الحرية، بل هي توعّد للكافر بأن عقابك آت لا محالة، فهي إنما تقول له (أنت المتحكم في أفعالك دون إجبار من الله لك، فإذا اخترت الكفر فلتتحمل عاقبة اختيارك)، وهذا يتبيّن حين نقرأ الآيات موصولة ببعضها دون اقتطاع، فالله سبحانه يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]

ويقول في سورة الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان 3-4] فليس المقصود إتاحة حرية الاختيار دون لوم، بل هو بيان لعاقبة الاختيار حتى يتحمل كل إنسان عاقبة اختياره.

أما ما جاء في سورتي البقرة ويونس، وهو قوله سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} [البقرة 256] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس 99] فبالنظر إلى الآيات الداعية إلى قتال المشركين التي ذكرناها سابقا يظهر لنا أنه لا يمكن حمل هاتين الآيتين على ظاهرهما مطلقا، بل لا بد من النظر في الوجه الذي يجمع بينها، وقد تكلم المفسرون والفقهاء في ظاهر هذا التعارض قديما، فمنهم من قال بوجود النسخ، ولكن القول بذلك فيه مخاطرة كبيرة عند غياب النص الصريح الثابت بحصول النسخ، وأحسن الطرق النظر في الثابت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته من بعده، كيف طبقوا هذه الآيات، فسنرى وجود غير المسلمين في الدولة الإسلامية حاضرا في جميع مراحل الخلافة الراشدة وما بعدها دون إرغام لهم على الإسلام -خاصة أهل الكتاب-، وكان القتال متوجها إلى الدول لا الأفراد، فالنصارى واليهود بل المجوس حاضرون حتى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعضهم يسكن المدينة، رغم أنه كان يوجه الجيوش لحرب الفرس والروم. فهو لم يرغمهم على الإسلام، ولم يطردهم ولم يأسرهم ولم يسترقهم، لكنه كان يأخذ منهم الجزية إلا في حال ضعف بعضهم عن أدائها فإنه يعفيهم منها.

مع ذلك فإن أداء الجزية نوع إكراه وتمييز لهم عن غيرهم، فلا يمكن القول بانتفاء الإكراه تماما، بل هناك قدر متحصل من الإكراه تختلف درجته، هذا يُشعر بأن قوله سبحانه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} عام له تخصيص، فأحد تخصيصاته أن الإكراه متعلق بتجنب إرغام أهل الكتاب على الإسلام، ولكن يُذلّون بالجزية {حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} -ويلحقهم المجوس، واختُلِف في المشركين-.

وهكذا فإن الحدود في الإسلام عموما هي نوع إكراه على التزام أحكام الإسلام، فالزنى عليه حدّ ولو كان بالتراضي، ثم هناك جهاد الطلب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -التي يسميها المحْدثون: تدخلا في الخصوصية- وغير ذلك من المسائل، بل حتى الحدود على الأفعال المؤذية كالقذف والسرقة، فقد أقيمت هذه الحدود على من انتهك شيئا من حقوق العباد، وهذه الحقوق إنما ثبتت لهم بالدين وهو الذي حكم على منتهكيها بعقوبة محدودة، فكل ذلك يخرج آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} من عمومها إلى تخصيص معلوم، وهكذا لا تجد أحكام الإسلام الثابتة تدعم مبدأ الحرية الليبرالية التي يحاول أن يؤصّل لها بعض المحْدثين من آيات القرآن الكريم، بل هي تصادمها وتلفظها، والحرية المتاحة في منظومة النصوص الإسلامية مختلفة عن هذا التصوّر الحداثي.

وإذا علمت أن آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} لا تُحمل على إطلاقها أصلا -وذلك بنص آيات أخرى من القرآن-، علمت أن رفض تخصيصها بحدّ الردة -الذي هو خاص بمن ترك الإسلام، دون من لم يدخل الإسلام أصلا- اضطرابٌ في المنهج، فالآية قابلة للتخصيص دون أن يكون ذلك دافعا للقول بنسخها أو بمناقضتها، وتخصيص القرآن بالسنة شائع في شتى العبادات.

ولاستجلاء معنى قوله سبحانه {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فلا بد أن نقرأ الآيات في سياقها. يقول ربنا جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس 99-103] فالآيات هنا لا تتحدث عن تشريع عملي يأمر الله به نبيّه، بل هذا إخبار له عن قدر الله في الخلق أنه لا يؤمن جميعهم، وأنك مهما اجتهدت أيها النبي وحرصت على إيمانهم فلن يستجيب لك الجميع، فهذا خطاب تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يزيد همّه بسبب إعراض المعرضين، وأنه أدى ما عليه من البلاغ وقامت الحجة على الناس، فمن بقي على كفره فليس ذلك بسبب تقصير في التبليغ أو قصور في الآيات، بل بسبب الرجس في قلوبهم بعد أن ترك الله لهم حرية الاختيار فاختاروا الكفر، فليتحملوا بعد ذلك عاقبته. على أنه سبحانه ذكر هنا إحدى عواقبه وهي: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}، وما هي أيام الذين خلوا من قبلهم؟ هي أيام العذاب والعقاب على الإعراض عن المرسلين، وكل قوم كان لهم عذابهم، فأما قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن عذابهم كما هو شائع فيمن سبقهم بأن يرسل الله عليهم جندا من الجمادات، بل كان عذابهم بأيدي عباده المؤمنين {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة 14] وقد وقع لهم هذا العذاب يوم بدر ويوم الفتح، فأخزاهم الله وأذلهم بسيوف عباده المؤمنين. فهذه الآيات لا تتحدث عن المعاملة مع غير المؤمنين كما قلت، وإنما هي كما قال بعضهم: خطاب قدري، لا خطاب تشريعي.

بين المجاهر بردته والمستتر.

مما ينبغي الالتفات إليه عند الحديث حول هذه القضية التفريقُ بين المجاهر والمتكتم، فليسا سواء في المعاملة، ولعل هذا يصلح أن يكون من تطبيقات الآية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ}. فإن عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته بقتل المرتد كان في المجاهرين فقط دون المسرّين، بل حتى من كانت تظهر عليه أمارات الردّة ما كانوا يحققون معه ويستخرجون مكنوناته، حتى وإن علموا بها علم اليقين بإخبار الله تعالى إياهم.

وذلك بيّنٌ في المنافقين، فإن بعضهم كان كافرا من أول الأمر، ومنهم من كفر بعد إسلامه، وكل ذلك بيّنه القرآن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولصحابته، فالصنف الأول جاء في آيات، منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة 8] وآيات أخر.

والصنف الثاني ذكرهم الله في بعض الآيات، منها: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 66] وكلا الصنفين اكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم دون إقرارهم والتحقيق معهم ليخرجوا خبيئة نفوسهم، ولم يطبّق عليهم حد الردة بما أنهم لم يكونوا مصرّحين بكفرهم وردتهم، وهكذا فعل خلفاؤه من بعده.

وبهذا يُمكن فهم الآيات التي تمسّك بها بعضهم في إنكار حد الردة، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلً} [النساء 137] فقالوا إنها قد ذكرت الكفر بعد الإيمان دون أن تعلق عليه حكما، ولو قرأت سياق هذه الآيات لوجدتها تتحدث عن المنافقين، فبعد هذه الآية مباشرة جاء قوله سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء 138] فالآيات تتحدث عن المنافقين الذين يسرّون الكفر دون تصريح به، وهم يهربون من إظهار كفرهم إما بإنكار الكفر الذي تلفظوا به سابقا {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة 74] أو أن يدعوا أن كلامهم كان على سبيل المزاح لا الجد {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 65 -66] فيدرؤون عن أنفسهم بذلك الحكم المتوجه إلى الكفار والمرتدين الصرحاء، وقد فضح الله سبحانه كثيرا من أساليبهم في سورة التوبة، فهؤلاء هم المعنيّون بالكفر بعد الإيمان، ولكن ذلك مكتوم في أنفسهم لا يصرّحون به، ولم يؤمر المسلمون بالتحقيق معهم وتفتيش خباياهم وإقامة حكم الكفار والمرتدين عليهم، بل اكتفي بالحزم والإغلاظ عليهم في المعاملة ما داموا في تلك المرتبة المتذبذبة، فلا هم يظهرون الكفر الصريح، ولا هم يسلّمون لحكم الله بقلوبهم.

أما من ظهرت ردته وجاهر بها فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله ولو تعلق بأستار الكعبة، وهو عبدالله بن سعد كما ذكرتُه عند سرد الأدلة. وهناك غير عبدالله بن سعد ممن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله ممن خرج عن المسلمين، ولكن كانت لهم جرائم أخرى، وهي القتل، فهؤلاء يمكن الاشتباه بأن الداعي لقتلهم كان اعتداؤهم لا ردتهم، أما عبدالله بن سعد فلم يُذكر عنه إلا ردته وافتراؤه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان يدعي أنه هو الذي يملي عليه القرآن ويعدّل في الآيات كما يريد، فكان هذا داعيا لقتله دون حاجة لجريمة أخرى كالقتل، ولولا شفاعة عثمان له لقُتل.

ومن هنا تدرك سقوط قولِ من قال من المتأخرين بأن حد الردة إنما هو حد للزجر، لا للتنفيذ. نعم قد وردت روايات فيها ذكر لشيء من العقوبات دون تنفيذها، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن بها، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ فأحرِّق عليهم بيوتهم..” رواه الربيع والبخاري ومسلم وابن حبان وابن ماجه وأبو داود والنسائي.

ولكنه لم يفعل ذلك، وترى أنه في هذا الحديث قال “لقد هممت” ولكنه لم يأمر بذلك ولم يفعله، خلاف أحاديث قتل المرتد فقد أمر بها بعبارة واضحة، وحسبك بالحادثة التي ذكرناها عن عبدالله بن سعد، حتى أنه لم يقبل شفاعة عثمان له إلا بعد ثلاث، وهكذا فهم الصحابة فلم يرد عن أحد منهم التخلي عن قتل المرتد، إلا ظاهر ما روي عن عمر بن الخطاب، وقد بيّنت الوجه الذي يحمل عليه بالنظر في الروايات الواردة عنه. فلا يمكن بعد ذلك أن يقال إنما هو للزجر دون التنفيذ، وهذا القول سرى للمعاصرين دون المتقدمين بسبب التراجع الحضاري والفكري للمسلمين، من ثمّ ترى بعضهم يغازل الآخرين ويحاول أن يخفّف من الأحكام لئلا يُستنكر ما يقوله بسبب المعايير المفروضة على الناس في هذا الزمن، وحول هذه المعايير سيكون مدار الحديث في المحاور القادمة بإذن الله.

شبهات عقلية حول حد الردة.

يكثر أن يُطرح في إنكار حد الردة بعض الجدالات التي تريد إظهار ضرره وسلبياته، فمن ذلك:

المنافق المستتر أخطر من الكافر المجاهر.

وذلك أن المنافق يهاجم الإسلام وينقض عراه من الداخل، وبذلك فإن المسلمين لا يتفطنون له، فيكون ضرره أكبر من ضرر الكافر الذي يحذر منه المسلمون ابتداء لعلمهم بكفره.

وهذه المقارنة صحيحة حين نأتي فيها بالكافر الأصلي، أما حين نقارن المنافق بالمرتد، فالمرتد بلا شك أخطر بكثير، ذلك أن المرتد يقول للناس: إني قد جرّبت هذا الدين فرأيته غير صالح وليس كما يرَوَّج له. ويقول الضعفاء في أنفسهم: لولا أنه رأى في هذا الدين فسادا لما تركه.

فعمل المرتد هنا يكون أكثر إفسادا من المنافق الذي لا يستطيع التصريح بكفره، خاصة أن كثيرا من المرتدين إنما يتركون الدين اتباعا للشهوة ورغبة في الانفلات، لا لشبهة عارضة لم يجدوا جوابها في الإسلام، فإطلاق العنان لهؤلاء فساده عظيم عليهم وعلى غيرهم، ويجرّئ السفهاء والأعداء على الإسلام.

الإسلام ليس ضعيفا لنحتاج إلى حد الردة

وفحوى هذه الشبهة أن حد الردة يُظهر الإسلام بمظهر الضعيف الذي يحتاج إلى إكراه الناس وتخويفهم للبقاء فيه لأجل الحفاظ على أتباعه، وأن الدين القوي تكفي حجته الساطعة ومنطقه الباهر للحفاظ على أتباعه دون حاجة للترهيب.

وهذه مغالطة وقصور في النظر للواقع، فإن عقول الناس متفاوتة المدارك، وكثير من الناس -ولعلهم الأكثر- ضعفاء التفكير واهنو المنطق، منهم من ينساق خلف ما ألِفه، ومنهم من يختار جماعة إن غويت غوى وإن رشدت رشد، ومنهم من يطربه كل شادٍ وتحركه كل ريح. فأمثال هؤلاء هم من يحتاج إلى الحماية والصيانة من أن تستهويهم شياطين الإنس والجن، وليس الدين.

 

بين نسبية الحقيقة واحتكارها.

من المحاور الأصيلة التي ينبغي النظر فيها عند مناقشة حد الردة، بل عند مناقشة نظرة الإسلام لغير المسلمين، وضوابط التعامل معهم: مسألةُ “نسبية الحقيقة”، ومذهب النسبية هو: (مذهب يرى أن المعارف والقيم الإنسانية ليست مطلقة، بل تختلف باختلاف الظروف والاعتبارات)، فإذا طبقناه على الأخلاق حصلنا على النسبية الأخلاقية، وهي: (القول بأن فكرة الخير والشر تختلف باختلاف الأزمان والجماعات) هذا حسب تعريف المعجم الفلسفي. لذلك تكون الحقيقة أيضا مختلفة باختلاف الظروف والاعتبارات، وبهذا فقد فقدت الحقيقة فحواها أصلا، فلا توجد هناك حقيقة، وإنما توجد نظرة الإنسان إلى الشيء بحسب زاويته التي تشكلها بيئته وحقبته وعقله.

ولن أخوض في نقاش هذا المبدأ من الناحية العقلية فليس هذا محل البحث، ولكن على الأقل لا بد من تسليط العدسة القرآنية عليه لنرى إن كانت تؤيده، ومناط ذلك هو النظر في رؤية القرآن للآخرين “غير المسلمين” كيف يراهم؟ فإن منتهى نسبية الحقيقة تقبلُ الاختلاف والترحيب بالمعتقدات والأفكار المخالفة.

وقد سبق في المحور السابق بيان الحالة العدائية التي ينصبها القرآن لمن يخالفه المعتقدات التي يقررها، ومع ذلك فنسوق بعض الآيات الأخرى هذا الصدد.

يقول الله سبحانه في شأن المشركين {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة 171]

ويقول في شأن اليهود {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة 5] وتشبيههم بالحمار ليس على سبيل السب، فإن العرب لم تكن تسب بأسماء الحيوانات، فإن من ساداتهم كليب، ومن فرسانهم أبو ثور، وإنما المقصود بالآية مماثلتهم للحمار في صفة أنه لا ينتفع بالعلم الذي يحمله فوق ظهره، فالآية تنتقصهم بذلك.

ويقول سبحانه في شأن النصارى { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم 88-90]

ويقول في شأن المعرضين عن الآيات عموما {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة 22]

فمجرد الإعراض عن آيات الله جريمة تستحق الانتقام، فما بالك بالتكذيب والافتراء وغير ذلك. وآيات الانتقاص من الكافرين وآلهتهم والتشنيع على المكذبين والمعرضين عن رسالة الإسلام شائعة في القرآن الكريم، وحصر الحق في الإسلام وحده أمر ظاهر شاهر، ولعل من أصرح الآيات في بيان ذلك قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران 84-85]، فالإسلام هو الإيمان بجميع ما أنزله الله على رسله دون تفريق بين أحد منهم -وهذا بالتأكيد يقتضي العمل به-، ومن خالف ذلك فاعتقاده مردود وعاقبته الخسارة.

كل ذلك يصرح بوضوح شديد: أن الإسلام لا يقر بتعدد الآراء في العقيدة، ولا يقبل نسبية الحقيقة، بل هو يرسخ في نفوس أتباعه أنه الحق المطلق الأوحد، وأن ما عداه باطل مردود، متبعه ضال لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل، وما ينتظره هو الخسارة الأبدية.

ومن العجيب أن يستدل بعضهم على رأيه في قبول الإسلام لتعدد العقائد بقول الله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون 6]، متجاهلا أن افتتاح هذا السورة كان بلفظ “مهاجم”، فهو ينادي هؤلاء المختلفين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون 1] وهي التسمية التي أصبح بعض المعاصرين يرفض إطلاقها على الأديان المخالفة أصلا، لأنه يراها تسمية “إقصائية”، وهي كذلك حقا، وهكذا أراد الإسلام، إلا في إطار محاورتهم ومعاملتهم بالحسنى لأجل هدايتهم إلا الحق، لا احتراما ولا تقبلا لاختلافهم.

فإذا تبيّن لك النظرة والمنهج اللذان يرسخهما الإسلام في نفوس أتباعه نحو المختلفين، وأدركت استنكاره لنسبية الحقيقة، وأنه لا يقر مع الكافرين بعبارات نحو “الاختلاف لا يفسد للود قضية”، ولا يحترم عقائدهم وأفكارهم أصلا، تبيّن لك بعد ذلك سبب هذا الحكم الشديد الحازم تجاه المرتد، وأنه لا يلتفت إلى كونه حرّا في تغيير أفكاره متى شاء، ولا يكفل له حريته في ذلك، بل يعد فعله جريمة من أكبر الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل إن لم يتب، أو بالسجن مدى الحياة على أخف الأقوال -إذا ثبتت تلك الأقوال، والراجح أنها لا تثبت كما ناقشت ذلك-. إلا إن كتم ردته، فإن منهج الإسلام عموما في المعاصي التي لا تتعدى بالضرر على الناس أنه لا يحقق فيها ما دام صاحبها قد أخفاها وأسرّها، وإنما يعاقب على ما جاهر به صاحبه أمام الناس صونا للمجتمع وحراسة للفضيلة وإذعانا لحكم الله عز وجل.

حد الردة في الثقافة المعاصرة.

وبعد هذا التطواف في تأصيل حد الردة، نصل إلى محاور نحلل فيها التوجّه المعاصر وسبب رفضه إياه، الرفض الذي لم يصدر من أي توجه من التوجهات العديدة للمسلمين على مر القرون، وصار خطابا شائعا اليوم نُضطرّ معه إلى هذه التأصيلات والتحليلات الطويلة، ما الذي تغيّر؟

الواضح أن الذي تغيّر هو انفتاح المسلمين على غيرهم مع تبدّل ميزان القوى واختلاف طريقة الانفتاح، فقد كان للمسلمين منذ القدم اتصال بالحضارات الأخرى وتبادل ثقافي واسع، لكنهم كانوا هم الثقافة الغالبة والعامل المؤثر، أما الآن فالأمر مختلف معكوس، فإن الثقافة الغربية صارت هي الغالبة وهي العامل المؤثر، ومع تغير شكل العلاقات بين أجزاء العالم زاد تأثير هذه الثقافة، فصارت تُقَدّم على أنها نهاية اللباقة وغاية الكرامة البشرية، وصار يُنظر إلى كل ما سبق في التاريخ -وإن كان شيئا أجمعت عليه البشرية جميعا- على أنه تخلف ونقص يجب الخجل منه والترفع عنه، فالثقافة الأوروبية هي المعيار المطلق والميزان الأعدل الذي يزن ما ينبغي وما لا ينبغي، وشاع ذلك وفشا في أذهان الناس جميعا وليس المسلمين فقط.

ومما غيّرته الثقافة الغربية في أذهان الناس، رابطة الولاء ومدار العلاقات، فقد أصبحت الرابطة التي تجمع بين أفراد البشر هي رابطة الوطنية، وإذا اتسعت فتكون رابطة القومية، وادعاء الرابطة الإنسانية مجرد شعار فارغ تبيّن وهمه بعد أحداث العالم الأخيرة، وهذا سأناقشه في المحور القادم بإذن الله.

والإنسان يعلم في ذهنه أنه لا يمكن أن يحافظ على علاقة متساوية مع البشرية جمعاء، فتضارب المصالح واختلاف الثقافات وغير ذلك، كله يحتّم على الإنسان أن ينتقي مجموعة محصورة من البشر يشاركها المغنم وتخفف عنه المغرم ويبادلها الولاء والود ويخاصم أعداءها.

وبعد أن كانت هذه الرابطة عند العرب قبل الإسلام هي رابطة القبيلة بالدرجة الأولى، ثم رابطة العرق بالدرجة الثانية، وهي روابط لا خيار للإنسان بالدخول فيها، وإنما يدخلها بالقدر المحض الذي لا يخيّره أين يولد ولمن ينتمي، جاء الإسلام فأطّر ذلك وحدده في حدود ضيقة، وأنشأ لهم الرابطة الدينية ورفعها فوق كل رابطة، بل حرّم وجرّم التعصب للروابط القديمة”دعوها فإنها خبيثة” رواه البخاري، وجعل معيار التفاضل في التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات 13]، فمن ثمّ كانت خيانة هذه الرابطة التي أعلاها الإسلام وجعلها محور العلاقات، كانت هي الخيانة العظمى التي يكون جزاؤها القتل.

ولو جئنا إلى الوضع المعاصر حيث الهيمنة الغربية ومعاييرها الجديدة، فأعادوا محور العلاقة إلى ما كان عليه الوضع في الجاهلية -أو أوسع قليلا-، فبدأ الأمر بأن يكون المحور دائرا على الأعراق -أو القوميات-، وها نحن الآن نراه يتجه اتجاها حثيثا نحو حيز أضيق وهو الوطنية، فترى العربي بعد أن كان قبل عقود متألما لآلام عرقه متضامنا معها، إذا به اليوم يرى أنه ليس من مسؤولياته حتى التعاطف مع غيره، بل لو انتقد أحدٌ شيئا في بلده قال له (ليس لك شأن بنا، ودعك في بلدك)، بل لو ناصر أحد أبناء بلده أبناء بلد آخر قال له (دع غيرنا في شؤونهم واهتم بشؤوننا)، بل وصل الحال أن يشمت بمصائب الآخرين ويستعلي عليهم إذا نال بلده حظا من الأمان والعمران.

فبعد هذا التحوّل الحاد في الرابطة وانهيار الرابطة الدينية، لم يعد مستغربا أن يستنكر الناس حد الردة -القائم على الرابطة الدينية-، ولا يستنكروا البتة عقوبة الإعدام على جريمة الخيانة العظمى -القائمة على الرابطة الوطنية-، ولا عقوبات الإعدام على الجرائم الأخرى التي تهدد نفس الرابطة كالتجسس، وإن كانت هناك فئة من الناس تستنكر عقوبة الإعدام برمتها، فليس الموضع موضع نقاشهم الآن، إنما النقاش متوجه نحو الوعي العام السائد.

وبسبب هذا الوعي العام، عطفوا على أدلة الردة فحاولوا تطويعها وتفسيرها بما يتفق مع هذه الرابطة، فكانت الأحاديث عندهم إنما يقصد بها جريمة الإرجاف والفتنة لا مجرد تغيير الدين، ذلك أن الإرجاف يهدد الرابطة الوطنية لا كالردة التي لا تهددها، وهكذا رأوا في قتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين وإجماع الصحابة على ذلك إنما علته التمرد وتهديد أمن الدولة، وقد أغفلوا نقطة مهمة في هذا، وهي أن تهديد أمن الدولة كما يقولون، وما يسمى في الاصطلاح الفقهي “البغي” جريمة لها عقوبتها، وهي مختلفة عن وضع جريمة الردة، فإن الإمام الشرعي يقاتل البغاة الذي يهددون المجتمع المسلم، ولكن له ضوابط في قتالهم، فهو يقاتلهم بالقدر الذي يصد به عدوانهم فقط، ثم بعد ذلك لا يتتبع من فر منهم، ولا يقتل أسراهم، ولا يجهز على جرحاهم، ولا يغنم أموالهم، ولا يسبيهم، فإن هؤلاء وإن ارتكبوا جريمة البغي إلا أنه ما تزال لهم حرمات المسلمين، ولا يسقط منها إلا ما أسقطته جريمتهم. خلافا للمرتد الذي بخروجه من الإسلام سقطت عنه كل الحرمات، فهو مع قتاله يسبى -على ما كان متعارفا عليه بين المتحاربين في ذلك الزمن- وتُغنم أمواله، فبأي التعاملين كان تعامل أبي بكر رضي الله عنه في حروبه؟ كان يعاملهم معاملة المرتدين بلا أي حرمة حتى يعلنوا إسلامهم، خلا في أحوال يسيرة كحال مالك بن نويرة إذ كانت هناك ملابسات مبهمة في القضية، وقد ناقشها أهل التاريخ والفقهاء قديما، أما من ثبتت عنه الردة فلم يكن يعاملهم معاملة البغاة المسلمين.

فهذا التنافر بين الاستدلال والدليل عند المعاصرين ما حصل إلا بسبب الانصياع وراء هذا الوعي الجمعي الذي أصبحوا معه يتحرّجون من التصريح بوجود هذا الحد على الخروج المحض عن الإسلام، ويحاولون إرفاقه بما يقبل الذوق العام أن يكون سببا لعقوبة القتل، وهؤلاء هم الأمثل طريقة الذين يحاولون أن يحفظوا للسنّة وللنصوص الشرعية حرمتها، أما المنسلخون فقد سلكوا طريقا مختصرا من البداية، فكذّبوا الروايات وجرّموا الصحابة.

على أن هؤلاء فعلوا ما فعلوا استرضاء لغير المسلمين وإغراء لهم بالإسلام، فشوشوا على المسلمين الأصليين دينهم لأجل اجتذاب غير المسلمين -كما يحسبون-، ثم بعد أن فرطوا في رأس المال من مسلمين حقيقيين، ظلت النتيجة مجهولة في تحقيق الربح باكتساب مسلمين جدد، وذلك بوضع مكياج الثقافة الغربية على دين الإسلام، كما فعل النصارى بدينهم حين وضعوا عليه مكياج الثقافة الرومانية، إلا أن الله حفظ لنا القرآن.

فما ظن هؤلاء حين يكتسبون مسلما جديدا اعتنق الإسلام لا يحسب أنه مختلف عن ثقافته الغربية، ثم يجده يشنع على من جعل للرحمن ولدا، ويحذر من موالاة من حادّ الله رسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، ويأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، وغير ذلك مما ينقض كثيرا من تصوراته السابقة عن تقبل التعدد الثقافي واحترام العقائد الأخرى؟ لا شك أنه سيشعر بالغش والخداع، ولن يبقى يوما في هذا الدين، ما لم يهده الله ليتقبل عقيدة الإسلام كما هي.

وتحبيب الناس إلى الإسلام مطلب شرعي معتبر، فقد جعل الله في الزكاة سهما للمؤلفة قلوبهم، وورد عن الفاروق رضي الله عنه أنه فسر “المساكين” بأنهم أهل الكتاب فهم بذلك مستحقون للزكاة والصدقة، أما تحبيب الناس للإسلام بالمداهنة فيه والتنازل عن شيء منه، فهذا مما طلبه المشركون من رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، فحذره من ذلك ونهاه عن الميل إليهم  {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} القلم 8-9  { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} يونس 15 {  وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} الإسراء 73-75

تأليه الإنسان، وأنسنة الإله.

إن من أبرز التحولات الفكرية في طبيعة حياة اليوم: تبدّل المراكز، أو اختلاف الأهميات والأولويات. فبعد أن كانت الحياة تدور على الدين وتقديسه واحترامه -عند المسلمين وعند غيرهم-، صارت في زمن ما تدور حول الإنسان، بداية من عصور النهضة الأوروبية، وهي وإن أصبحت اليوم تدور حول المادة، إلا أنها ما زالت تجعل أمر الدين هامشيا، وترفع الإنسان فوق الدين، وبذلك ترفعه فوق الإله. وانسحب هذا الأمر من أوروبا إلينا، فإن النيل من الذات الإلهية وانتقاصها يُعد من حريات التعبير التي لا ينبغي مصادرتها على الناس، وتُعد في مجال التنوع الفكري وتعدد الآراء، أما شتم أحد البشر فهي جريمة تقوم لأجلها المحاكم وتدفع فيها الغرامات، وقد تصل للسجن.

وهكذا فإن الدعوة للعصيان المدني أو رفض تطبيق شيء من القوانين مدعاة للمحاسبة والمساءلة، أما دعوات ترك الواجبات الدينية كالصلاة والحجاب والعمرة ليست شيئا يستدعي إثارة الضجة حوله، وهذا على اختلاف بين الدول المسلمة في إظهاره، لكنه شائع بين المحْدثين ودعاة تجديد الخطاب الديني.

وما إنكار حد الردة إلا واحد من التداعيات الكثيرة لهذا التوجه الجديد، فإن حياة الإنسان أغلى وأجل من أن تُزهَق لأجل شيء هيّن كإنكار وجود الله أو الارتداد عن دينه، وما لم ترجع مكانة الله في النفوس إلى قمة المنازل، فلن تستوعب ولن تسيغ هذا التعدي الصارخ على الذات البشرية المقدسة.

ورغم أن النفس البشرية ذات حرمة في الدين، إلا أن حرمتها وكرامتها معلقة بإيمانها والتزامها بلوازم الإيمان، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبا بك من بيت! ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم عند الل حرمة منك. أخرجه البيهقي في الشعب.

فهذه الحرمة في المؤمن، جعلها له الدين، أما الكافر فهو يقاتَل ويجاهَد، إلا بعهد أو بجزية، بل المسلم نفسه قد يقتل حين يخل ببعض لوازم الإيمان، كما في قتال البغاة وحد الحرابة ورجم الزاني المحصن.

فمدار الحرمة والتقديس إنما يدور حول الدين، هو الذي يمنح الأشياء قدسيتها ويعظّم حرمتها، ومنازعته هذا الحق الحصري أثر من آثار الحداثة الغربية التي عمّت العالم.

عبء التسويغ.

إن من أشد ما كان يؤرقني وأنا أتأمل حد الردة في السنين الخالية، وأحسبه يؤرق كثيرا ممن يحترم العلم الشرعي ويحمل في نفس الوقت هم قبول الناس لهذه الدعوة: تسويغ حد الردة لغير المسلمين.

فأنا موقن بأن الإسلام هو الحق، فلعلي مع نفسي ومع المسلم أفهم حد الردة لأجل تسليمي السابق بأن الإسلام هو الحق، لكن المعضلة مع من لا يزال غير مقر بالإسلام وهو يرى فيه حد الردة، كيف أسوّغه له؟ وإذا كان لا يسلّم -وهو خارج الإسلام- بالنصوص الشرعية أصلا، فلا يبقى إلا الاحتكام إلى العقل، وقد عجزت أن أوجد سببا عقليا مقنعا لحد الردة.

أما أن يقال إنه حفظ لنفوس المسلمين، فيقال لو كان دينك قوي الحجة لما احتجت إلى هذا الحد. وأما أن يقال إنه حفظ لهيبة الإسلام، فلا يدخله ويخرج منه من شاء هكذا، فيقال: فليكن هذا الحد إذن خاصا بمن ظهر منه عيانا أنه اتخذ الديانة لعبة مثلا بأن يكثر الدخول والخروج فيه.[2]

وقد يزاد مع ذلك أنك وقد قبلت هذا الحد في دينك، فلا تستنكر أن يصنع الآخرون مثلك فيمنعون أهل ديانتهم عن الدخول في دينك، ويقتلون من ترك دينهم إلى دينك.

وهكذا بقيت مشوّش الفكر، بين ثبوت النصوص المصحوب بالإجماع، وبين عبء التسويغ الذي لا بد أن يكون عقليا، مع كثرة السؤال والتباحث في هذه النقطة دون وصول إلى أمر شافٍ

وقد منّ الله سبحانه علي بالعيش إلى هذه السنوات، والاطلاع على ما يجري في العالم من أحداث، وسقوط الشعارات التي كان الثقافة المهيمنة ترفعها وتواجه بها مخالفيها، من مساواة وحرية وكرامة وغيرها.

فإذا بنا نرى حرب روسيا وأوكرانيا، وكيف ضج لها العالم الغربي بأسره، وأنزل أشد العقوبات على روسيا -التي تضرر هو نفسه منها-، وكيف أظهروا أسفهم وتعاطفهم في مختلف المحافل لأجل أبناء جلدتهم الشقر، دون خجل ودون حياء من برودهم تجاه أحداث الأمم الأخرى عربية وأفريقية وهندية وغيرها مما نعلمه ولا نعلمه، ولا تداركوا حتى باعتذار وأسف.

وإذا بنا نرى فرنسا تمنع المسلمات من الحجاب، بل يتنافس المترشحون للرئاسة فيها على إرضاء المتطرفين ضد المسلمين، وتمنع بعض جهاتهم إدخال الماء إلى الحمامات.

والسويد التي تخطف أطفال المسلمين حتى لمجرد أن والديهم يربونهم على “الشرف”، ووصل الأمر أن يخطفوا الرضّع من والديهم. وهم يصرّحون أن الأطفال هم “ممتلكات الدولة”، فاعجب من هؤلاء كيف يدّعون أنهم مخلصو العالم من العبودية؟!

وغير ذلك من أحداث، وهؤلاء كلهم يرفعون شعار “الحرية والمساواة”، ولو حصل ذلك في دولة ترفع شعار الديكتاتورية أو أي شعار لا يتبنى الحرية الكاملة لما تناقضوا مع شعارهم ولخفّ الاستنكار، ولكن أن ترفع شعارا ثم تتناقض مع شعارك، ولا تخجل ولا تسوّغ، بل إن أبناء جلدتنا الموالين لهم هم الذين يدافعون عنهم ويقولون (ما دمت في دولتهم فاحترم قانونهم، وإن لم يعجبك فاخرج إلى غيرها)، ثم ترى نفس هؤلاء يستنكرون على بعض سياسات أفغانستان مثلا، ويصل بهم الأمر إلى حد الافتراء والتلفيق عليهم.

هذا كله جعلني أتأمل: لمَ لا يحتاج هؤلاء إلى تسويغ تصرفاتهم؟ لمَ لهم الحق في إرساء ما شاؤوا، وعلى من ساكنهم أن يذعن ويساير، أو فليخرج عنهم؟ حتى وإن كان ما يسنونه من قوانين أصلا تناقض بوضوح شعارهم العام الأكبر؟

والجواب الذي وصلت إليه هو: القوة.

ما دام هؤلاء هم القوة الغالبة، وبأيديهم حل وعقد ما شاؤوا في هذا العالم -وأعني بذلك ما مكنهم الله فيه، وإلا فإن الأمر كله بيد الله- فلهم أن يفعلوا، وليس عليهم أن يسوغوا، فقد تبوؤوا لأنفسهم مقام الألوهية، ونازعوا الله في إحدى خصائصه وهي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء 23]، فمن كان تحتهم فعليه الانقياد والإذعان، وليس لهم عليه الإقناع.

وبفقدان دولة الإسلام لذلك المقام صاروا محتاجين إلى تسويغ أحكامهم، مع أنها في الأصل أحكام الله، والشيء الوحيد الذي يُطالب به المسلم أن يُثبت من أي مصدر وجد هذا الحكم، فإنه ليس له الافتراء على الله ولا له تسيير البشرية بهواه. فالمنزلة التي نحن فيها الآن تشعرنا بالحاجة إلى تسويغ أحكام الله للناس حتى يقبلوها منا، ولو لم يكن لنا سبيل إلى إنفاذها أصلا، بل حتى لو أوجدنا لها تسويغا تفهمه العقول، فلا يلتزمون بعدها بقبول هذا التسويغ ما دام يخالف أهواءهم ومعاييرهم التي وضعوها للبشرية وألزموها بها.

بعد أن فهمت ذلك، وجدت أن “عبء التسويغ” كان سرابا لا شيء وراءه، ولم يكن شيئا ينبغي الاهتمام به أصلا، بل يكفي أن يثبت لي حكم الله، فإن فهمت مغزاه ازددت إيمانا، وإن لم أفهمه سلّمت تسليما، ورغم ذلك فأجدني قد استوعبت كثيرا من جوانب حد الردة حتى بالمقارنة مع الثقافة المعاصرة، وذلك فيما ذكرته في المحور السابق، وبالله التوفيق.

على أن أنه ليس منوطا بأداء العبادة تسويغُها أو معرفة حكمتها، بل يكفي ثبوت الأمر بها من الله سبحانه. وإن من أبين الأمثلة التي ضربها الله لنا في كتابه مثلُ إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي استحق إمامة الناس بعد ثبوته في الابتلاءات التي ابتلاه الله بهن، ومن أبرز تلك الابتلاءات أمرُه بذبح ابنه عليه السلام كما ثبت بنص القرآن. فلما ثبت له هذا الأمر من الله لم يطلب حكمة من ورائه ولا حاول تسويغه لابنه الذي كذلك سلّم لأمر الله تسليما، مع أن هذا أمر تستبشعه النفوس وتنكره العقول وتنفر منه العاطفة، أن يذبح رجل ابنه، وأن يسلّم الابن نفسه دون مقاومة، ولكنها مرتبة الإيمان التي يَبين بها من يعبد الله ويتبع أمره، ومن يعبد العقل ويتبع المغزى والحكمة. وببلوغ نبينا إبراهيم عليه السلام أعلى المنازل في هذه المرتبة ارتقى بذلك يكون للناس إماما وأسوة حسنة، حتى دخل ذكره في الصلاة على نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، وحتى كان ربنا جل شأنه يأمر نبيه باتباع ملة إبراهيم {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل 123.

ولا يعني ذلك تحريم طلب الحكمة من وراء التشريعات أو ذمها، ولكن القصد ألا يكون المعيار الحكمة فيمتنع الإنسان عن تنفيذ الأمر حتى تبين له الحكمة، ولكنه ينفّذ الأمر متى ثبت له النص الشرعي، فإن وجد الحكمة زادته إيمانا، وإن لم يجدها سلّم أمره لله خاضعا مسلما.

قبل الحد، تحصين المجتمع.

كثيرا ما يشرع الناس في الحديث عن الحدود عندما تُذكر “الدولة الإسلامية” و”تطبيق الشريعة”، لكن هل هذه هي واجهة الدولة الإسلامية حقا؟ وهل “الحدود” هي مميزات الدولة الإسلامية؟

لاستجلاء هذا الأمر، لا بد أن ننظر في جملة أمور وأحداث، ونبدأ بالحدود الثابتة، وهي:

حد الزنا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور 2]

حد السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ} [المائدة 38]

هذان أبرز حدّين منصوص عليهما في القرآن.

فإذا تكلمنا عن الزنى في البداية، وهو الجماع بالتراضي بين رجل وامرأة دون عقد شرعي. ونظرنا في المؤديات إلى هذه الجريمة ما هي؟

تبرز لنا عند ذلك جملة أمور، تؤدي في نهايتها إلى تخطي الحدود بين الرجل والمرأة حتى يصلا إلى هذه الوضع. إذن، هل هناك إجراءات اتخذها الإسلام لوقاية الناس من تجاوز هذا الحد؟

عند الكلام عن هذا، نرى كثيرا من الأحكام المتعلقة بالعلاقة بين النساء والرجال، ففي القرآن يأمر الله الرجال والنساء جميعا بغض أبصارهم {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور 30] {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور 31]، ثم يأمر النساء بإخفاء زينتهن إلا على الأزواج والمحارم { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا…} إلى أن يصل الأمر أن يمتنعن عن أي فعل يلمّح الزينة المخفية { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } [النور 31] من غير الآيات التي تحث على اللباس الساتر للجسم {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} [النور 31] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب 59] ويراقبن تعاملهن مع الرجال {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب 32]. وهكذا يخاطب الجنسان بالحذر في تعاملاتهما ولو كانت تجمعهم صلة قرابة أو مصاهرة “إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت.” رواه البخاري ومسلم والترمذي. وجاء “لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له” رواه الطبراني والبيهقي. وجاء “ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان” رواه الترمذي وأحمد. إلى غير ذلك من الأحاديث والوقائع التي تضيّق حدود التعامل بين الرجال والنساء، لا سيما الأجانب -والمقصود بالأجانب: الذين ليسوا زوجا ولا محرما، والمحرم هو الذي لا يحل له الزواج بتلك المرأة كالأب والأخ-، فبعد كل هذا التضييق وهذه الحواجز التي يقيمها الإسلام بين الجنسين، يصعب أن يقع الزنى صعوبة بالغة، ولا بد أن ترعى الدولة إقامة هذه الحواجز وتعين عليها، لا أن تهملها وتدع كل إنسان وشأنه. فإذا تحقق كل ذلك، ثم وقع الإنسان في الزنى، فهذا يعني أنه تجاوز تلك الحدود، وسعى بنفسه سعيا حثيثا إلى ارتكاب الجريمة، ولا يمكن أن تقع بزلة غير مقصودة، أو بإغراء شديد يتجاوز قدرة الإنسان على ضبط نفسه.

ثم إنه حتى بعد وقوع هذه الجريمة، فلا بد أن تجتمع عوامل لأجل العقاب عليها، ولا يكون العقاب إلا باعتراف مرتكب الجريمة بجرمه دون إكراه أو تخويف من أحد، ومع انتفاء العوامل التي قد تؤثر على أهليته، أو بوقوع شهادة واضحة صريحة من أربعة رجال عدول، ثم بعد كل ذلك إن وجدت هناك شبهة تقدح في أركان الجريمة سقط الحد عنها، كما ورد “ادفَعوا الحدود ما وجدْتم لها مدفعًا” رواه ابن ماجه.

فكل تلك الحواجز حتى لا يقع الإنسان في الجريمة، ثم لا يكون اتهامه بها إلا بشروط قوية تدور بين اعترافه بها أو إهماله التستر على نفسه عند ارتكابها، ثم بعد ذلك قد يسقط عنه الحد إذا عُثِر على شبهة معتبرة، كل ذلك يجعلك تخلص إلى أن الحدود لم توضع لأجل التسلط والبطش بالناس، بل لأجل صيانة المجتمع وحفظه من فشو الفواحش وانعدام الأمن.

وهكذا إذا ما جئنا لحد السرقة، نجد الله فرض الزكاة على الأغنياء أولا، وجعل الزكاة في النقد والزرع والأنعام، وحث على مختلف الصدقات خارج إطار الزكاة، وكان جمع الزكاة في الأصل وتوزيعها من مسؤوليات الدولة، فلا يتهرب أحد من الأغنياء عن أداء الزكاة، ولا يُغفل أحد من الفقراء عن حقه، وصلاحيات الإمام وأعوانه من مسؤولي الدولة في المال محدودة جدا، وباب محاسبتهم مفتوح، وإذا حلّت أزمة بالناس كان الإمام يشاركهم جوعهم وفاقتهم كما حصل في عام الرمادة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا يكون بعد ذلك عذر لأحد بأن يشعر بالظلم أو الإهمال ليحاول الانتقام، أو كسب قوته بالسرقة، فلا تكون السرقة منه بعد كل ذلك إلا عدوانا صريحا بلا مسوغ، ومتى ما وجد مسوغ مقبول كالجوع، كان ذلك شبهة يدفع حد السرقة، كما حصل ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين درء حد السرقة في المجاعة، وحين درأه عن الغلامين اللذين اشتبه بسيدهما أنه يجيعهما -كما روى عبدالرزاق-.

فمن هذه الأمارات نستشعر أن الإسلام لا يشرع الحدود إلا بعد تحصين المجتمع أولا من بواعث الجريمة ومسبباتها، ثم بعد ذلك يعاقب على وقوع هذه الجريمة ردعا للنفوس المريضة التي قد تقتحم تلك التحصينات، وترسيخ استبشاع هذه الجرائم في نفوس الأفراد لئلا يألفها الناس، ولا يقيم الحد إلا الحاكم أو بأمره، فتمنع بذلك الفوضى وذرائع استغلال الأحكام الشرعية في المصالح الشخصية، والحاكم من البداية لا ينبغي أن يكون إلا صالحا ورعا قويا على تحمل الأمانة.

فإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر وعرضناه على هذه المعايير، نجد أنه غير مؤهل لإقامة الحدود أصلا، فلا صيانة لعلاقات الرجال بالنساء، ولا توزيع عادل للثروات، ثم لا يوجد اهتمام حقيقي بتقوية العقيدة في نفوس الناس، وإحياء روح الإسلام فيهم، وتقوية علاقتهم بالله سبحانه وتربيتهم على منهج القرآن وتأصيلهم التأصيل الذي يجعلهم ينطلقون في تصوراتهم للحياة وتعاملاتهم في شؤونهم وعلاقاتهم من القرآن والسنة، بل على العكس يُعلى شأن المفسدين، ويُهمّش المصلحون -إن لم يضطهدوا-، وتشوّه صورة الإسلام، ويُفتح الباب على مصراعيه للشبهات والثقافات المناقضة والأفكار الهادمة.

فمن هنا لم يكن الخطاب الذي ينبغي توجيهه للعامة في هذه المرحلة خطاب تطبيق الحدود، وإن كان لا بد فلا يكون من الأولويات ولا أعلى قائمة المهمات، بل يكون بقدر ما تقام به الحجة وتبرّأ به الذمة عند الحاجة، حتى لا يُغسل دماغ هذه الأجيال بالخطابات المناهضة ويألفوها فلا يروا المنطق والعقل إلا فيها، ثم مع ذلك لا بد من ربطه بالتربية والتذكير بالأصول، والله المستعان.

 

خاتمة لا بد منها

بعد هذا التطواف في شأن حد الردة، رأيت أن أبيّن للقارئ سبب هذه الكتابة، بل قل سبب هذا الاهتمام الشخصي لدرجة أن أحمل هذه المسألة في نفسي سنين أتأملها وأناقش وأسأل فيها، من موافقين ومخالفين، من أساتذة وزملاء. ما دمت أسلّم بأن دليلها آحادي، والآحاد ظني، فلم لم أسلك الطريق المختصر بإنكارها، والركون إلى ما تقبله الذائقة المعاصرة، فأجتنب بذلك الصدام معهم؟ خاصة أن نجاح مشروع الدعوة معتمد على تقبل الناس لها، وما تنفس الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا حين حظي برعاية الأنصار فوجد له ظهرا يحميه ويدفع عنه، فلم هذا السبيل الخطير بمصادمة تيار الحداثة والقيم المعاصرة؟

وقد ذكرت طرفا من الجواب في المقدمة، وقد أعيد ذكر شيء منه هنا.

فأولا: قد عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتنازل عن شيء من دعوته حتى تتوافق مع قيم مجتمعه، فكانت فرصة له بانتشار دعوته وظهورها في وقت مبكر، وكان ذلك عرضا مغريا لدرجة أن الله سبحانه يمنّ عليه بتثبيته في تلك المرحلة فيقول {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء 74] ولكنه ظل عليه الصلاة والسلام راسخا فيما أمره به ربه دون أي أمارة للتنازل عن أي شيء ولو يسيرا، حتى فتح الله له.

ثم إن تقبّل الناس لدعوة هذا الدين وإن كان مطلبا ساميا، إلا أنه ليس الغاية، إنما الغاية إبراء الذمة والانقياد لأمر الله سبحانه، والإعداد ليوم الحساب. فإذا حصل مع ذلك انتشار الدعوة، فبها ونعمت، وإن لم يحصل، فلا تُترك الغاية الأساس لأجل مطلب مرافق لها، ولا يمكن أن تتحقق تلك الغاية الغالية بخيانة الأمانة، والتنازل لأجل مداهنة الناس { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم 8-9].

ثانيا: لا بد أن يكون الإنسان موضوعيا في أحكامه، وإن من السقطات الشاطحة أن ترفع فئة نفسها إلى أن تكون هي المعيار الذي تحكم به على سائر الجماعات والعصور بمختلف أطيافها.

وقد رأيت في محور الإجماع حين سقتُ أقوال المذاهب، كيف أن كل تلك المذاهب على البون الشديد بينها في بعض أبواب العقائد، وفي جملة من مسائل الفقه، كيف أنهم جميعا اتفقوا على هذه المسألة، ومضى اتفاقهم هذا عصورا من الزمان، فالذي يرشدك إليه النظر أن هذا الاتفاق بين هذه الطوائف المختلفة لم يكن ليحصل لولا سند قوي شديد الظهور، حتى لم يشذ أحد منهم عما حكم به الجميع. وكل هؤلاء يحفظون القرآن ويفهمونه، وهم يقرؤون الآيات التي قد تطرأ على القول بحد الردة، نحو {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ} [البقرة 256] والآيات الأخَر، أفيعقل أن يغفلوا جميعا عن تناقض حد الردة مع آيات القرآن؟ ويمضي على غفلتهم هذا قرون لا ينتبه فيها أحد حتى جاء المعاصرون فانتبهوا إلى هذا التناقض الصارخ بين حد الردة وروح الإسلام؟!، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هناك عاملا دخيلا أثّر على حكم هؤلاء المعاصرين، فلم ينطلقوا لإطلاق الحكم وذهنهم خالٍ من المؤثرات، بل هو مشحون بالثقافة الغربية، وبالضغط الاجتماعي من الناس، وبهجوم غير المسلمين، وضعف الحضارة الإسلامية وتبعية أبنائها للغرب، حتى تراكم ذلك في أنفسهم وأعماهم عما يستلزمه هذا الاستنكار من غرور طاغٍ، ينصّب أصحابه -الذين هم أفراد متفرقون- حكامًا على قرون كاملة من هذه الأمة بمختلف مذاهبها وتياراتها.

والله المستعان، ونسأله الرشد والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

21 ربيع الآخر 1444 هـ

16 نوفمبر 2022

لتحميــل البحــث اضغــط هنا


[1]  على أن الإجماع يرفع ظنية هذه الأدلة إلى القطعية، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله.

[2] وقد سبق الحديث عن هذه الشبهة.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.43 ( 5 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى