الفقه وأصوله

أثر التقعيد الفقهي في ضبط متغيرات الواقع

د. أحمد بن سعيد بن سالم الرمحي

إن من مَئنَّة الفقيه ألا يصدر حكما شرعيا إلا بعد سبر أغوار الأدلة الشرعية، واستجلاء معانيها، والعبّ من مقاصد الشريعة ومراميها، والظروف المحيطة بالنص والواقعة لتفسيرها وَفق مراد الشارع من غير وَكَس ولا شَطَط؛ إذ إن الشريعة جاءت واضحة بيّنة تتسم بالصلاحية لكل زمان ومكان؛ فحيث ما كانت المصلحة الحقيقية فثمَّ شرع الله. ومما لا شك فيه أن لكل زمان ومكان ظروفَهما ومعطياتِهما، فظروف العصر السابق تختلف عن ظروف هذا العصر، والأحكام الاجتهادية في تلكم العصور كانت وفق تلكم الظروف والمعطيات، وهذا لا يخالف مقاصد الشارع، بل ينسجم معه ويؤكده، وأما الأصول والثوابت فلا مساس بها.

وإن تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع والمسائل والأعيان بدلا من بقائها عامة مجردة في الأذهان لهو الجانب الأهم من التأصيل والتقعيد الفقهي؛ إذ إن الله شرع الأحكام والتكاليف لتطبق على الأشخاص والأعيان وقائع حية، لا لتبقى في الأذهان صورا مثالية، كما أن التأصيل والتقعيد السليم يبرز جانبا عظيما من محاسن الشريعة الغراء، ويجلّي لنا السمات التي أودعها الله في الشريعة التي اصطفاها لخلقه، وإن من أعظم تلكم الخصال وأنفس تلكم السمات هي مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان وعطاؤها لكل متجدد وتفاعلها مع كل متغير؛ حيث إن التأصيل الشرعي لمفرزات الحضارة وما يستجد في الساحة الإسلامية، يمثل حلا لإشكالات واستفهامات الناس عموما وشباب الصحوة خصوصا؛ إذ إن غياب مثل هذه الأصول يسبب تشويشا فكريا لدى المتحمسين للجانب الإصلاحي، وهذا ما يقودنا إلى سبب نشوء بعض الحركات والتيارات المعارضة؛ حيث إن ممارسة الحوارات الفكرية البحتة في ظل غياب الأصول والقواعد بجانب غياب فقه الواقع، أدى إلى خلخلة الثوابت وتمييع بعض الأصول ليحل محلها العقل والدعوة إلى التطور تحت ضغط الواقع، فأصبح المتغير هو ركن تفكير هؤلاء وأصل فقههم، ولعمري إن تمسك الناس عموما وقادة العمل الإسلامي وشباب الصحوة خصوصا بالأصول وفهمهم لها، لهو المشروع الناجع لوحدة الأمة ورقيها، وبهذا تودّع الأمة ذلكم التشرذم البغيض والتنافس غير المنضبط بضوابط الشرع.

ثم إن التأصيل والتقعيد يفتح آفاقا للمجتهد طمعا للوصول لمرادات الشرع ومقاصده، وذلك من خلال فهم الأحكام الشرعية واستجلائها، والعبّ من مقاصد الشريعة ودرك مراميها، ومن جانب آخر، يشحذ عقل الفقيه لفهم الواقع طلبا لإنزال الحكم على الواقعة على الوجه الصحيح، وفي هذا سدّ لباب الفتاوى الغوغائية، ومنع لجرأة المتعالمين والمتفيقهين، وإلجام للشانئين والعابثين، حيث سيدرك كل هؤلاء أن الشريعة بقواعدها صالحة لكل زمان ومكان، ولم تفقد حيويتها بالأحداث اليومية المتسارعة، فهي معين لا ينضب، ومنهال يكرع من معينه العالمون، فلا مجال للتردد والنكوص عن العمل الفقهي الطموح، وليس اجتهاد العلماء في إعطاء أحكام مفرزات العصر تهديدا ونقضا لثوابت الدين، بل على العكس تماما،إنما هو تمكين للدين وترسيخ لثوابته، ويتخلص الناس من ربقة التعصب للفقيه الواحد وما سطره الأوائل في مدوناتهم الفقهية؛ إذ إن التأصيل والتقعيد يعزز مبدأ (فقه الواقع) المتعلق بموارد الاجتهاد، وهذا يعني أن (الفقيه الحاضر) أو (مفتي العصر) الثقة أولى بالاتباع والتقليد؛ لأنه أقدر من غيره على إنزال الحكم على الواقع الحاضر؛ لذا لا ينكر ولا يعاب على الفقيه إذا تغيّر اجتهاده في المسألة لوقوفه على مقتضى شرعي صحيح استلزم منه تغييره.

وأؤكد أن التأصيل والتقعيد الصحيح يحقق مقصدا من مقاصد الشرع وهو حفظ الدين؛ حيث إن الاستمساك بالثابت وحده مع رفض المتغير يؤدي إلى الجمود، وتعسر حينها حياة المكلفين ويشق عليهم تطبيق الشريعة، كما أن الاستمساك بالمتغير يؤدي إلى خلخلة الثوابت، وتمييع المبادئ، وإخضاع الشريعة لمتطلبات الواقع، وسيطرة الأهواء والنزوات على أحكام الشرع الحنيف. فالأخذ بالثابت والمتغير يحقق يسر العمل والتطبيق، من ثم يتمسك الناس بشرع الله وينعمون تحت ظلاله الوارفة، ومن جانب آخر يرسخ الناس في قلوبهم المعتقد الإيماني السليم في أن الحكمة الإلهية اقتضت أن ينزل عليهم شريعة صالحة للأبد لا تتخلف، وأنه لم يجعل صلاحيتها في ظرف زمني محدد وحيّز مكاني معين؛ إذ إن ذلك موطن ظلم وهلكة، وتعالى الله أن يكلف العباد ما لا يطيقون، وتنزه سبحانه عن الظلم والحيف، فعندما يفهم المرء هذا الفهم ترسخ في ذهنه هذه المعاني السامقة لتتحصل في قلبه عقيدة صافية خالصة، يقول أبو سعيد الكدمي: “فمن نال الحكم فقد أدرك حكم الأصول، ومن أخذ بحكم الأصول واستقام عليها كاد أن يقدر به على أداء كثير من أموره إن شاء الله –تعالى-، ولأن الدين يسر يعطيه الحق في إدراك حكم الأصول توسعة ومساعدة على أداء ما افترضه الله عليه”([1]).

لتحميل المقال اضغط هنا


[1]) الكدمي ، محمد بن سعيد ، المعتبر، وزارة التراث القومي والثقافة –سلطنة عمان، د.ط، 1405هـ/1985م،ج3، ص118.

يسعدنا تقييمك للمقال

تقييم المستخدمون: 4.68 ( 3 أصوات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى